Skip to main content

عالم منسي أزال الغموض عن الفوهات القمرية

من خلال دراسة ساحات معارك الحرب العالمية الأولى، وضع تشارلز جيفورد نظريةً مفادها أن فوهات القمر تكوَّنت بفعل الاصطدامات.

 

يمثِّل شهر أغسطس من عام ٢٠١٤ الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، كان علماء الفضاء ما زالوا يتجادلون حول منشأ فوهات القمر، لكن معظمهم كان يظن أنها تضاريس ناشئة عن البراكين لا عن التصادم. وإلى حدٍّ ما، كان هذا راجعًا لعدم معرفتنا بأمثلة قاطعة لتضاريس مشابِهة تشكَّلت على الأرض بفعل التصادم، بل إن النابغة جروف كارل جيلبرت — من وكالة المسح الجيولوجي الأمريكية — أعلَنَ أن فوَّهة كون في أريزونا «فوهة بركانية»؛ أي إنها تكوين بركاني ناجِم عن انفجار بخاري.

إلا أن ذلك الرأي لم يلقَ قبولًا من الجميع. وعلى وجه التحديد، قدَّمَ عالم جيولوجيا التعدين دانييل مورو بارينجر — الذي تلقَّى تدريبه في جامعة هارفرد — دليلًا دامغًا عام ١٩٠٩ على تشكُّل الفوَّهة نتيجة اصطدامِ نيزك بالأرض. ثبتت صحة نظريته في النهاية، وظلت «فوهة النيزك» أول وأشهر التضاريس على وجه الأرض التي أُقِرَّ بأنها ناشئة عن اصطدام نيزك بالأرض.

كان ثمة اعتراض أساسيٌّ على نظرية اصطدام النيازك وعلاقتها بتكوُّن فوَّهات القمر، وقدَّم هذا الاعتراض عددٌ من الباحثين منذ أوائل القرن التاسع عشر؛ فقد بَدَا أن التصادمات المائلة ينبغي أن تشكِّل فوهات مستطيلة، في حين أنَّ كلَّ فوَّهات القمر تقريبًا حدودُها دائريةٌ.

فوهة دائرية: مثل معظم الفوهات الأخرى على القمر، تتميَّز الفوهة القمرية جوردانو برونو — الظاهرة في هذه الصورة التي التقَطَها مسبار مستكشف القمر المداري التابع لوكالة ناسا — بشكلٍ شبه دائريٍّ. على مدار عقود كثيرة، اعتقد العلماء أن الفوهات القمرية تنشأ عن البراكين؛ لأنهم ظنوا أن التكوينات الناشئة عن الارتطام — التي تتكوَّن غالبًا بفعل مقذوفات تصل إلى الأرض بزاوية مائلة — ينبغي أن تكون مستطيلة (ناسا/مركز جودارد للطيران الفضائي/جامعة أريزونا الحكومية).

فوهة دائرية: مثل معظم الفوهات الأخرى على القمر، تتميَّز الفوهة القمرية جوردانو برونو — الظاهرة في هذه الصورة التي التقَطَها مسبار مستكشف القمر المداري التابع لوكالة ناسا — بشكلٍ شبه دائريٍّ. على مدار عقود كثيرة، اعتقد العلماء أن الفوهات القمرية تنشأ عن البراكين؛ لأنهم ظنوا أن التكوينات الناشئة عن الارتطام — التي تتكوَّن غالبًا بفعل مقذوفات تصل إلى الأرض بزاوية مائلة — ينبغي أن تكون مستطيلة (ناسا/مركز جودارد للطيران الفضائي/جامعة أريزونا الحكومية).

وبينما دار هذا الجدل في الأوساط العلمية، أظهرَتِ الانفجارات المدوِّية لقذائف مدفعية الحرب العالمية الأولى بالمثال المباشر كيف يمكن أن تشكِّل النيازك فوَّهاتٍ على القمر. وكان أول عالم يُثبِت نظريةَ التصادم النيزكي بالتفاصيل الرياضية ويفسِّر انتشارَ الفوهات الدائرية هو ألجيرنون تشارلز جيفورد، من كلية ولينجتون في نيوزيلندا، وقد فعل ذلك بعد الحرب بفترة قصيرة. في واقع الأمر، كثير من طلبة جيفورد حاربوا لصالح الإمبراطورية البريطانية؛ حيث خدموا بإخلاص في شبه جزيرة جاليبولي عام ١٩١٥، وفي الإقليم الفلامندي وإقليم السوم عام ١٩١٦، وكانت المنطقة المحرَّمة الواقعة بين خنادق السوم مليئةً بالفجوات، مكوِّنة منظرًا وصفه الشاعر البريطاني ويلفريد أوين بأنه: «يشبه وجه القمر؛ فهو فوضوي، يعجُّ بالفوَّهات، غير قابل للسكنى، بَشِع، مَرْتَع الجنون.»

سيد القمر

بَدَا أن تشارلي جيفورد مُقَدَّر له أن يعيش حياةً مِهنية مليئة بالمغامرات منذ لحظة ميلاده عام ١٨٦١، ذلك الميلاد الذي حدث في البحر في مكانٍ ما قبالة رأس الرجاء الصالح الأفريقي؛ حيث كان والده — الذي كان قسًّا أنجليكيًّا في لابرادور لمدة ١٠ سنوات — في طريقه إلى أبرشية جديدة تُسمَّى وايتاكي في جزيرة نيوزيلندا الجنوبية. نشأ تشارلي في صِغره في قرية أوامارو، وتلقَّى تعليمَه الأساسي في مدرسة القرية.

ثم أُرسِل إلى إنجلترا عام ١٨٧٦ لتلقِّي تعليم بريطاني جيِّد، وحصل — بفضل قدرته الرياضية المدهشة — على مِنحة دراسية في كلية سانت جونز بجامعة كامبريدج، وبعد امتحان درجة الشرف الذي أجراه هناك عام ١٨٨٣ حصل على جائزة جون هيرشل المرموقة في علم الفلك الرياضي. كان من الممكن أن يظل في إنجلترا، لكنه كان مشتاقًا إلى الجبال والمضايق البحرية الجميلة في جزيرة نيوزيلندا الجنوبية، وبدلًا من البقاء في إنجلترا اختار وظيفةَ معلِّم رياضيات في مدرسة الأولاد الجديدة في أوامارو، وبعد خمس سنوات انتقل إلى وظيفةٍ براتبٍ أعلى في كلية المسيح في مدينة كرايستشيرش.

سيد القمر: أجرى ألجيرنون تشارلز جيفورد (١٨٦١–١٩٤٨) تحليلات رياضية دقيقة بعد الحرب العالمية الأولى ليوضِّح أن الفوَّهات القمرية تكوَّنَتْ بفعل الارتطام بالنيازك. ولسوء الحظ، كانت إقامته في نيوزيلندا في غير صالحه؛ فقد نشر أعماله في دورية علمية نيوزيلندية غير معروفة، ولم يَنَلْ قطُّ التقديرَ الذي يستحقه (مكتبة ألكسندر تِرنبول/مكتبة نيوزيلندا الوطنية).

سيد القمر: أجرى ألجيرنون تشارلز جيفورد (١٨٦١–١٩٤٨) تحليلات رياضية دقيقة بعد الحرب العالمية الأولى ليوضِّح أن الفوَّهات القمرية تكوَّنَتْ بفعل الارتطام بالنيازك. ولسوء الحظ، كانت إقامته في نيوزيلندا في غير صالحه؛ فقد نشر أعماله في دورية علمية نيوزيلندية غير معروفة، ولم يَنَلْ قطُّ التقديرَ الذي يستحقه (مكتبة ألكسندر تِرنبول/مكتبة نيوزيلندا الوطنية).

ثم طرَدَ الناظرُ المنهك جيفورد متخذًا إياه كبشَ فداء ليُلقِي على كاهله مسئوليةَ إخفاقات المدرسة في الرياضيات والعلوم. هام جيفورد على وجهه لبعض الوقت، فحاول لفترةٍ بيعَ صور فوتوغرافية للمناظر الطبيعية في نيوزيلندا، لكنه لم يَجِد إقبالًا على الصور! وأخيرًا — عام ١٨٩٥ — عُيِّن في كلية ولينجتون بجزيرة نيوزيلندا الشمالية، وبدأ حياة التدريس التي كان مقدرًّا لها أن تدوم ٣٢ سنة، وأصبح شخصية محبوبة ومعروفًا بين تلامذته باسم «العم تشارلي». ويقول أحد تلامذته متذكرًا: «أي شخص قرأ رواية «الوداع يا سيد تشيبس» سوف يعرف السيد جيفورد.»

وفي الوقت نفسه، أصبح من أتباع شخصية آسِرة أخرى، هي ألكسندر ويليام بيكرتون، الذي كان يكبره بنحو ١٩ عامًا. فمنذ لقائهما الأول في كرايستشيرش في تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى وفاة الأخير عام ١٩٢٩، ظلَّا يتبادلان مراسلات طويلة، كان كثيرٌ منها يتناول «نظريةَ التصادم الجزئي»، وهي فكرة غريبة لا يكاد يذكرها أحدٌ في الوقت الحاضر، لكنها مثَّلت البذرةَ التي استنبت منها جيفورد نظريةً متماسكةً عن عملية الارتطام.

بيكي

كان ألكسندر بيكرتون — الذي يُطلَق عليه في كثير من الأحيان «بيكي» على سبيل التدليل — من سكان ألتون، في هامبشير (إنجلترا). لم يكن في بادئ الأمر طالبًا واعدًا، وقد قال أحد مدرِّسيه في المدرسة الابتدائية — في محاولةٍ منه لأن يكون إيجابيًّا — إنه «ليس غبيًّا تمامًا.» وبعد محاولات عديدة لكسب عيشه — كان من بينها إنشاء مصنع أخشاب في كوتسوولدز في إنجلترا باستخدام آلاتٍ من ابتكاره — بدأ بيكي يحضر دروسًا مسائية في العلوم في عُمر ٢١ سنة؛ كان قد اكتشف مجال تخصُّصه المناسب. وبعد أن حصل على مِنحة دراسية مَلَكية في كلية المناجم الملكية بلندن، بدأ يُلقي هو نفسُه دروسًا مسائية في مجال العلوم. ورغم ذلك، فإن أول محاضرة ألقاها بعد دعاية قوية جذبت جمهورًا تكوَّن من شخص واحد بالضبط!

ونظرًا لميله الدائم إلى المنهج التجريبي، فقد حرص على حضور قداسات الوعَّاظ الدينيين المشهورين ليتعلَّم أساليبهم. وكانت خلاصة ما توصَّل إليه الآتي: «لكي تُعلِّم أحدَ أبناء لندن يجب أن تكون المحاضرةُ مسليةً كمسرح المنوعات، ومثيرةً كالسيرك.» وكما اكتشف مدرسو الفيزياء والكيمياء منذ ذلك الحين، فقد كانت «الانفجارات والأصوات العالية فعَّالةً للغاية في إبقاء الطلبة مستيقظين، وجَذْب اهتمامهم، وزيادة عدد الحضور.» ولم يمرَّ وقت طويل حتى أصبح بيكي جاذبًا لجمهور كبير، وأصبح معروفًا على نطاق واسع بلقب «صاحب الألعاب النارية».

عندما استُدعي إلى نيوزيلندا عام ١٨٧٤، وصار أستاذَ كيمياء في كلية كانتربري (سليفة جامعة كانتربري في كرايستشيرش)، استمرَّ في تقديم عروضه المثيرة، وألقى محاضرات ذات شعبية فُرِض لحضورها رسومٌ كبيرة. وبعد عامين، استرعى انتباهه مستعِرٌ لامع في كوكبة الدجاجة. تبع مستعرُ الدجاجة لعام ١٨٧٦ المسارَ المعتاد، وخَبَا توهُّجُه إلى أن أصبح معتمًا (يُعرَف الآن باسم كيو الدجاجة، وما زال ممكنًا رؤيته كجرم سماوي قدر لمعانه ١٥، إلا في أوقات توهُّجِه من حينٍ لآخَر). راوَدَ بيكي حدسٌ مفاجئٌ، وخمَّنَ أنَّ تصادُمًا احتكاكيًّا جزئيًّا بين نجمين معتمين أنتج ذلك المستعر؛ وبذلك كشف النقاب عن «نظرية التصادُم الجزئي» وقدَّمَ بحثًا «عن النجوم المؤقتة والمتغيِّرة» — في ٤ يوليو ١٨٧٨ — إلى معهد كانتربري الفلسفي.

تمثَّلت المحصِّلة النهائية لفكرته في أنَّ النجوم — لكونها أجسامًا ملتهِبةً بعيدةً، في سبيلها إلى فقدِ طاقتها عبر ما تُصدِره من إشعاع — لا بد أن تبرد وتصبح معتمة في النهاية. ومن المفترض أن الكون به عددٌ لا يُحصَى من الشموس الهالكة، ومن بين تلك النجوم التي تسبح مستترةً في الفضاء، لا بد في بعض الأحيان من تصادم نجمين معتمين يتحرَّكان بسرعة هائلة، وعادةً ما يأتي هذا التصادم مائلًا. وعند التصادم، تتطايَر المادة من النجمين، وبعض الطاقة الحركية الناجمة عن التصادم تسخِّن المادة المتطايرة، مكوِّنةً بذلك المستعر. وعندما يبرد المستعر، يصبح معتمًا ثم يختفي إلى الأبد.

كانت الفكرة منطقية وإن كانت غريبة، وسرعان ما بدأ بيكي يوسِّع نطاقها لتفسير العديد من الظواهر السماوية الأخرى؛ مثل النجوم المتغيِّرة، والنجوم المزدوجة والمتعدِّدة، والسديم الكوكبي، بل حتى الومضات البرَّاقة التي تظهر على المريخ من حينٍ لآخَر. وبدأ يعتقد أن النظام الشمسي نفسه نشأ نتيجةَ اصطدامِ نجمٍ معتم بالشمس.

بيكي: ألكسندر ويليام بيكرتون (١٨٤٢–١٩٢٩) — معروف باسم «بيكي» بين أصدقائه — مفكِّر واسع الخيال، كان بمنزلة المعلِّم لجيفورد. وعلى الرغم من أن بيكي كانت لديه أفكارٌ صحيحة بشأن كيفية تكوين الفوَّهات القمرية، فإنه لم يكن يتمتَّع بالمعرفة الرياضية اللازمة لتحويل هذه الأفكار إلى نظرية قابلة للنشر (صور تشارلز شيلتون/مكتبة ماكميلان براون/جامعة كانتربري).

بيكي: ألكسندر ويليام بيكرتون (١٨٤٢–١٩٢٩) — معروف باسم «بيكي» بين أصدقائه — مفكِّر واسع الخيال، كان بمنزلة المعلِّم لجيفورد. وعلى الرغم من أن بيكي كانت لديه أفكارٌ صحيحة بشأن كيفية تكوين الفوَّهات القمرية، فإنه لم يكن يتمتَّع بالمعرفة الرياضية اللازمة لتحويل هذه الأفكار إلى نظرية قابلة للنشر (صور تشارلز شيلتون/مكتبة ماكميلان براون/جامعة كانتربري).

كان بيكي مفكِّرًا نوعيًّا في مجالٍ يتطلَّب دِقةً كميةً مُحكَمة؛ ولذلك تحالَفَ ضده المجتمعُ العلمي؛ فلقد قدَّمَ ١٥ خطابًا عن نظرية التصادم الجزئي إلى المجلة العلمية الرائدة «نيتشر»، ورُفِضت كلها. وفي الوقت نفسه، تورَّطَ في صراعٍ مرير مطول مع مجلس إدارة كلية كانتربري، وكانت إحدى التُّهَم المفترضة الموجَّهة إليه هي أنه — بوصفه أستاذَ كيمياء — يقضي الكثيرَ من الوقت في دراسة الفلك. وفي عام ١٩٠٢ فُصِل من منصبه دون اتِّبَاع الإجراءات القانونية.

لفترة قصيرة حاوَلَ كسب عيشه بإدارة حديقةِ ملاهٍ في إحدى ضواحي كرايستشيرش. وفي عام ١٩١٠ ترك زوجته وأبناءه وعاد إلى إنجلترا في محاولةٍ للترويج لنظرية التصادم الجزئي، آمِلًا في نيل المساعدة من تلميذه الأشهر إرنست رذرفورد، الذي كان قد حصل على جائزة نوبل في الآونة الأخيرة آنذاك. ولطالما تحدَّثَ رذرفورد بامتنانٍ عن معلِّمه السابق، وأدلى ببعض الآراء المشجِّعة بشأن نظرية التصادم الجزئي، لكن هذا الدعم كان قليلَ الأثر؛ لأن رذرفورد لم يكن عالمَ فلك.

ولحسن الحظ، كان لدى بيكي مناصِرٌ أكثر تفانيًا؛ هو جيفورد. كان جيفورد يتميَّز بفِكره المستقل، وولعه بتبنِّي القضايا غير التقليدية. فعلى سبيل المثال، كان دارسًا هاويًا لأعمال شكسبير، وظلَّ مُصِرًّا حتى النهاية على أن فرانسيس بيكون هو المؤلف الحقيقي لمسرحيات شكسبير. ورغم ذلك، لم يكن جيفورد مهووسًا، كما أن نظرية التصادم الجزئي التي وضعها بيكي أصبحت وظلَّت الفكرةَ المسيطرة على جيفورد. وأهم من ذلك أن جيفورد كان يمتلك شيئًا لا يمتلكه بيكي؛ أَلَا وهو أنه كان عالِمَ رياضيات بارعًا يمكنه إخضاع «حدسِ» معلِّمه إلى التحليل الرياضي الدقيق.

النظير الأرضي: تكوَّنت فوَّهة لوخناجار الواقعة في شمالي فرنسا — أكبر فوَّهة تكوَّنت في الحرب العالمية الأولى — في الأول من يوليو عام ١٩١٦ إثرَ انفجار هائل للَغَمٍ بريطاني تفجَّرَ في معركة السوم أثناء محاولة قوات الحلفاء اختراقَ الصفوف الألمانية، وقد صدَّ الألمان العدوانَ. يبلغ عرض الفوَّهة ٣٠٠ قدم تقريبًا (٩٠ مترًا)، وعمقها ٧٠ قدمًا (النصب التذكاري لفوهة لوخناجار).

النظير الأرضي: تكوَّنت فوَّهة لوخناجار الواقعة في شمالي فرنسا — أكبر فوَّهة تكوَّنت في الحرب العالمية الأولى — في الأول من يوليو عام ١٩١٦ إثرَ انفجار هائل للَغَمٍ بريطاني تفجَّرَ في معركة السوم أثناء محاولة قوات الحلفاء اختراقَ الصفوف الألمانية، وقد صدَّ الألمان العدوانَ. يبلغ عرض الفوَّهة ٣٠٠ قدم تقريبًا (٩٠ مترًا)، وعمقها ٧٠ قدمًا (النصب التذكاري لفوهة لوخناجار).

بدأ عمل جيفورد الجاد لتطوير نظرية التصادم بتصوُّرٍ قدَّمَه بيكي في يونيو ١٩١٥ في اجتماع للجمعية الفلكية البريطانية في لندن. كان النقاش دائرًا آنذاك حول منشأ الفوَّهات القمرية، وأخذت تتردَّد الحججُ المعتادة القائلة بأن الفوَّهات إذا كانت قد تكوَّنت بفعل التصادم، فلا بد أن تكون مستطيلة الشكل في معظمها. فنهض بيكي ببطء — كان عمره في ذلك الوقت يناهز ٧٣ عامًا — وأشار إلى أن طاقة النيازك الساقطة ينبغي أن تسبِّب «انفجارًا كبيرًا للغاية». وافترض أن «السرعة العادية للنيزك في الفضاء … سوف ينتج عنها انفجار … ومن ثم فإنه حتى التصادمات المائلة من شأنها أن تخلِّف حلقات بركانية شبه دائرية.» وفي محاولةٍ لتحقيق أقصى استفادة من فرضيته، زعم أن طاقة النيزك سوف تسخِّن القشرة القمرية وتتسبَّب في تدفُّق الحمم على السطح.

خبرة السوم

في الوقت الذي تحدَّثَ فيه بيكي إلى الجمعية الفلكية البريطانية، كانت الحرب العالمية تدور رُحاها منذ ما يقرب من سنة، وبعدها بسنة — في الأول من يوليو عام ١٩١٦ — بدأت المجزرة الهائلة المعروفة باسم معركة السوم. ففي محاولةٍ لإرهاب القوات الألمانية المعادية وإشاعة الفوضى في صفوفها، فجَّرَ سلاح المهندسين المَلَكي البريطاني لغمًا هائلًا في لوخناجار، جنوبَ قرية لا بواسيل، وكان مخطَّطًا لهذا اللغم المحمَّل بنحو ٢٤ طنًّا من مادة الأمونال المتفجرة أن ينفجر الساعة ٢٨ : ٧ صباحًا؛ أيْ قبل دقيقتين من بدء الهجوم الأساسي، إلا أن الهجوم لم يبدأ في واقع الأمر إلا بعد ساعتين أخريين؛ نظرًا لحدوث اضطراب في صفوف الحلفاء. وأصدر الانفجار دويًّا يُقال إنه بلغ لندن، وشهده من الجو الملازِم الثاني سيسيل آرثر لويس من السرب الثالث للفيلق الجوي الملكي، الذي أورَدَ الوصف التالي:

ثارَتِ الأرضُ كلها وتوهَّجت، وتصاعَدَ إلى السماء عمود هائل مهيب من الدخان … عَلِقَ … في الهواء — مثل ظلِّ شجرة سرو عملاقة — ثم انقشع تدريجيًّا مكوِّنًا سحابةً مخروطيَّةً متَّسِعةً من الغبار والحطام.

وعندما هدأ الغبار، كشف عن فوَّهة تُشبِه كثيرًا تلك الفوَّهات القمرية، بلغ عرضها ٣٠٠ قدم وعمقها ٧٠ قدمًا. كانت تلك أكبرَ فوَّهة من صُنْع الإنسان تكوَّنت خلال الحرب العالمية الأولى، وإن كانت مجرد ثقب إبرة مقارَنةً بفوَّهات القمر. وقد ألهمَتْ تجربةُ ساحات القتال المليئة بالحفر في السوم — حيث أسْفَرَتِ القذائف عن عددٍ هائل من الفوَّهات في المنطقة المحرَّمة — العلماءَ تدريجيًّا تفكيرًا جديدًا في التضاريس الظاهرة على القمر التابع للأرض، وكانت الفوَّهات العملاقة مثل فوهة لوخناجار مؤثِّرة إلى حدٍّ كبير على هذا التفكير.

أيضًا في عام ١٩١٦، أدرك العالم الإستوني إرنست جيه أوبيك أن اصطدام أحد النيازك بالقمر سيكون كافيًا في حد ذاته لحفر فوَّهة دائرية حتى دون مساعدة قوى بركانية. وبعد ثلاث سنوات، توصَّلَ الفيزيائي الأمريكي هيربرت يوجين إيفز — بعد دراسة الفوَّهات المكوَّنة بفعل القنابل الجوية في اختباراتٍ أُجرِيت في قاعدة لانجلي الجوية بولاية فيرجينيا — إلى أن تلك التضاريسَ البشريةَ الصُّنْع تشبه إلى حدٍّ كبير التضاريسَ الموجودة على سطح القمر.

فوهة النيزك: في بداية القرن العشرين، اعتقد معظم العلماء أن فوَّهة النيزك الموجودة في أريزونا (كانت معروفةً آنذاك باسم فوَّهة كون) تكوينٌ بركاني، إلا أنه تبيَّنَ من العمل المفصَّل لألجيرنون تشارلز جيفورد، ودانييل مورو بارينجر، وإرنست جيه أوبيك، ورالف بولدوين، ويوجين شوميكر، وغيرهم من العلماء؛ كيف تكوَّنَتْ مثل هذه الفوهات إثرَ انفجاراتٍ بفعل النيازك الساقطة (بيجستوك فوتو: أكشن سبورتس).

فوهة النيزك: في بداية القرن العشرين، اعتقد معظم العلماء أن فوَّهة النيزك الموجودة في أريزونا (كانت معروفةً آنذاك باسم فوَّهة كون) تكوينٌ بركاني، إلا أنه تبيَّنَ من العمل المفصَّل لألجيرنون تشارلز جيفورد، ودانييل مورو بارينجر، وإرنست جيه أوبيك، ورالف بولدوين، ويوجين شوميكر، وغيرهم من العلماء؛ كيف تكوَّنَتْ مثل هذه الفوهات إثرَ انفجاراتٍ بفعل النيازك الساقطة (بيجستوك فوتو: أكشن سبورتس).

ودون أن يدري جيفورد بعملهم، واصَلَ عملَه في تلك العزلة الهانئة في نيوزيلندا، محاوِلًا تحديدَ تبعات «الانفجار الكبير للغاية» الذي تحدَّثَ عنه بيكي، من خلال الحسابات الرياضية. وفي أوائل عشرينيات القرن العشرين توصَّلَ إلى الحلِّ؛ وقد تذكَّرَ أحد طلاب الرياضيات لدى جيفورد في كلية ولينجتون، إحدى محاضراته على النحو التالي:

بداية جافة … تحوَّلت إلى أربعين دقيقة من اهتمامٍ وتعلُّمٍ مذهلَيْن مُطَعَّمَين برسوم بالطباشير على عرض السبورة بالكامل، توضِّح نَيزكًا ذا كتلة وسرعة وزاوية اقتراب معينة، يتسبَّب في انبعاث الطاقة، وتكوُّن فوَّهة شبه دائرية، بينما يتبيَّن من مسار المادة القمرية المتفجرة وكتلتها تكوُّن الحافة والنقطة المركزية، وكل هذا كان مدعومًا بحسابات تفصيلية.

كان هذا الطالب يتذكَّر عرضًا أوليًّا للبحث الكلاسيكي الذي نشره جيفورد في عدد سبتمبر ١٩٢٤ من مجلة نيوزيلند جورنال أوف ساينس آند تكنولوجي؛ ومن ثَمَّ كان من المحتَّم ألَّا يكون له تأثير يُذكَر. وفي هذا البحث قارَنَ طاقةَ أنواع عدة من المتفجرات التي استُخدِمت في الحرب بطاقة النيازك التي تتحرَّك بسرعات مختلفة، وأوضح ببراعة أنه «عندما يصطدم النيزك بأحد الأسطح بسرعةٍ تبلغ عدة أميال في الثانية، فإنه يصبح متفجرًا، ويكون تأثيرُ الديناميت لا يُذكَر مقارَنةً به.» وقدَّمَ توضيحًا لكلامه من خلال الجدول التالي:

طاقة المتفجرات بالسعرات الحرارية في الجرام
ثلاثي نيترو التولوين (تي إن تي) ٩٢٤
الديناميت ١١٠٠
النيتروجلسرين ١٤٧٨
الطاقة في الجرام لنيزك يتحرك بسرعة
١ ميل في الثانية ٣١٠
٣ أميال في الثانية ٢٧٧٩
٥ أميال في الثانية ٧٧٤٥
١٠ أميال في الثانية ٣٠٩٨٠
٢٠ ميلًا في الثانية ١٢٣٩٠٠
٤٠ ميلًا في الثانية ٤٩٤٧٠٠

ومن خلال تحليل مدارات زخَّة الشُّهُب، بالإضافة إلى الحالات القليلة الموثَّقة للشهب الساقطة حتى ذلك التاريخ، أثبت أن حركة الأجرام الكونية بسرعةٍ تتراوح بين ١٠ أميال و٤٥ ميلًا في الثانية (١٦ إلى ٧٥ كيلومترًا في الثانية) ليست بالحدث الاستثنائي. وماذا يحدث عند اصطدام نيزك يتحرَّك بمثل هذه السرعة بسطح القمر؟ بصرف النظر عن زاوية الاصطدام، فإن الانفجار الناتج سوف يكوِّن فوهةً دائريةً. علاوة على ذلك، اشتقَّ جيفورد من تحليلاته مقاطِعَ جانبية للفوَّهات القمرية مثل فوَّهة كوبرنيكوس وفوَّهة ثيوفيلوس، بل فسَّر أيضًا قمَّتَيْهما المركزيتين.

رسم بياني بليغ: استنادًا إلى البيانات الواردة عن الفوَّهات الناتجة عن القنابل والحُفر المتولِّدة عن الانفجارات التي خلَّفتها الحرب العالمية الثانية؛ قدَّم رالف بولدوين هذا الرسمَ البياني ليُثبِت تجريبيًّا العلاقةَ بين القطر والعمق في الفوَّهات الناتجة عن التفجيرات على الأرض والفوَّهات النيزكية والفوَّهات القمرية، وهي العلاقة التي خمَّنَها جيفورد من الحسابات التي أجراها عام ١٩٢٤. الرسم مقتبَس من كتاب بولدوين «وجه القمر»، ١٩٤٩ (مطبعة جامعة شيكاجو).

رسم بياني بليغ: استنادًا إلى البيانات الواردة عن الفوَّهات الناتجة عن القنابل والحُفر المتولِّدة عن الانفجارات التي خلَّفتها الحرب العالمية الثانية؛ قدَّم رالف بولدوين هذا الرسمَ البياني ليُثبِت تجريبيًّا العلاقةَ بين القطر والعمق في الفوَّهات الناتجة عن التفجيرات على الأرض والفوَّهات النيزكية والفوَّهات القمرية، وهي العلاقة التي خمَّنَها جيفورد من الحسابات التي أجراها عام ١٩٢٤. الرسم مقتبَس من كتاب بولدوين «وجه القمر»، ١٩٤٩ (مطبعة جامعة شيكاجو).

ميراثٌ باقٍ: مرصد جيفورد على جبل فيكتوريا بالقرب من ولينجتون في نيوزيلندا، سُمِّيَ على اسم الفلكي الذي سبق بعمله أبحاثًا لاحقةً أثبتت أن الفوَّهات القمرية نشأت عن الاصطدام. ذلك المرصد الذي يستخدمه الطلاب كثيرًا يعمل تحت إدارة الصندوق الاستئماني لمرصد جيفورد والجمعية الفلكية في ولينجتون. أكبر تليسكوب في المرصد هو تليسكوب تسايس الكاسر، الذي يبلغ قُطر عدسته ١٣٠ ملِّيمترًا (بول موس/ويكيميديا كومنز).

ميراثٌ باقٍ: مرصد جيفورد على جبل فيكتوريا بالقرب من ولينجتون في نيوزيلندا، سُمِّيَ على اسم الفلكي الذي سبق بعمله أبحاثًا لاحقةً أثبتت أن الفوَّهات القمرية نشأت عن الاصطدام. ذلك المرصد الذي يستخدمه الطلاب كثيرًا يعمل تحت إدارة الصندوق الاستئماني لمرصد جيفورد والجمعية الفلكية في ولينجتون. أكبر تليسكوب في المرصد هو تليسكوب تسايس الكاسر، الذي يبلغ قُطر عدسته ١٣٠ ملِّيمترًا (بول موس/ويكيميديا كومنز).

بعد التقاعد من التدريس، أمضى جيفورد حياةَ تقاعُدٍ هانئةً في سيلفرستريم — إحدى ضواحي ولينجتون — حتى وافته المنية عام ١٩٤٨ عن عمرٍ ناهَزَ ٨٦ عامًا. وبعد سنة واحدة فقط، نشَرَ عالم الكواكب الأمريكي رالف بولدوين سرده النموذجي عن نظرية التصادم القمري المعروف باسم «وجه القمر»؛ فقد أثبت بولدوين — استنادًا إلى خبرة الحرب العالمية الثانية، وبيانات كانت خاضعةً لرقابة الجيش الأمريكي والبحرية الأمريكية حتى ذلك الوقت، ومتعلقةً بقُطْر وعُمْق فوهات كانت مأخوذة من سجلات إطلاق القذائف — أن المقاطع الجانبية لتلك الفوهات البشرية الصنع كانت متماثِلةً تمامًا مع نظيرتها القمرية. وأخيرًا في خمسينيات القرن العشرين أثبت يوجين ميريل شوميكر — الذي كان يعمل في وكالة المسح الجيولوجي الأمريكية — بما لا يدع مجالًا للشك، من خلال دراسته لكلٍّ من الفوَّهات الناشئة عن اختبارات القنابل الذرية والتركيب الجيولوجي لفوَّهة النيزك في أريزونا؛ أن الفوهات القمرية تضاريس ناتجة عن الاصطدام.

مع أن شوميكر جديرٌ بالذكر لكونه مؤسِّسَ النموذج العصري للتضاريس الوليدة الصدمات على القمر وغيره من الأجرام في النظام الشمسي، فلا يُنقص من قدره شيئًا أن نتذكَّر في الذكرى المئوية لاندلاع الحرب العظمى المعروفة باسم الحرب العالمية الأولى؛ أن النتيجة الأساسية — الطبيعة التفجيرية للاصطدام — كان أول مَن توصَّلَ إليها بالتفصيل تشارلي جيفورد من نيوزيلندا.

29 Nov, 2015 03:26:19 PM
0

لمشاركة الخبر