Skip to main content

وسيط غير متوقع

الحمض النووي الريبي (آر إن إيه) — وهو الحمض النووي الأقل شهرةً من الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين (دي إن إيه) — والذي هو أبعد ما يكون عن السكون، يستطيع التجوُّلَ بعيدًا عن منشئه حاملًا معلوماتٍ إلى خلايا أخرى في الجسم، أو إلى حيوانات أخرى أيضًا.

 تحت تربة حقول الذرة تخرج يرقات ديدان الجذور من بيضها وتزحف باحثةً عن جذورٍ لتلتهمها، إلا أن دودة الجذور اختارت الحقل الخطأ لتضع فيه بيضها؛ فثمة أمر مميَّز بشأن الذرة الموجودة في هذا الحقل، فهي مسلَّحة بسلاح ماكر مصمَّم لاستهداف ديدان الجذور.

الحمض النووي الريبي (آر إن إيه) الموجود في الخلايا أكثرُ حركةً مما كنَّا نتوقَّع.

الحمض النووي الريبي (آر إن إيه) الموجود في الخلايا أكثرُ حركةً مما كنَّا نتوقَّع.

عندما تتغذَّى اليرقات على الجذور ينطلق هذا السلاح من النبات ويدخل إلى الخلايا المعوية لليرقات، ويُوقِف في هذه الخلايا إنتاجَ بروتين أساسي من خلال إيقاف عمل جين محدَّد. وفي الساعات التالية لذلك، يمتدُّ سلاحُ «الإسكات الجيني» هذا إلى خلايا أخرى داخل أجسام اليرقات. في البداية لا يظهر تأثير ملحوظ؛ إذ لا يزال لدى اليرقات مخزون من هذا البروتين، لكن في غضون بضعة أيام تبدأ اليرقات تموت، وبعد مرور عشرة أيام تموت جميعها.

هذا السلاح ليس مُبِيدًا حشريًّا عاديًّا؛ فهو مصنوع من أكثر المواد إثارةً للدهشة؛ الآر إن إيه. لقد اتضح أن هذا الحمض النووي الأقل شهرةً من الدي إن إيه هو جزيء استثنائي متعدِّد الاستخدامات. ولكن، أغرب ما عُرِف عنه بالتأكيد — ضمن أحدث الاكتشافات المقدَّمة عنه — أنه لا يبقى ساكنًا داخل الخلايا، بل يمكنه التجوُّل؛ فبعض أشكال هذا الجزيء تترك الخلايا وتتنقَّل وهي تحمل معلومات مهمة بإمكانها التأثير في خلايا أخرى داخل الجسم نفسه، والأغرب من هذا أنها يمكن أن تؤثِّر أيضًا في كائنات حية أخرى.

لقد بدأنا مؤخرًا في دراسة هذه الظاهرة، لكن من الواضح فعلًا أنها ربما تكون مفيدةً على نحوٍ لا يمكن تصوُّره؛ فلا يمكن استخدام جزيئات الآر إن إيه المتجولة هذه كمبيداتٍ حشرية فحسب، بل يمكن أيضًا حماية الحيوانات الصغيرة مثل نحل العسل من الفيروسات. وبالطبع، فالسؤال الأساسي هنا هو: هل يمكن أن نتأثَّر نحن أيضًا بجزيئات آر إن إيه الخارجية؟

إنَّ الإشارة الأولى على أن الآر إن إيه لديه قوًى خفية كانت وليدةَ نتيجةٍ متناقِضةٍ؛ ففي تسعينيات القرن العشرين، افترض فريق من علماء الأحياء يدرس لون الزهور افتراضًا منطقيًّا بأن إعطاء زهور البتونيا نسخةً إضافية من جين يدخل في صنع الصبغة البنفسجية؛ سيجعل لون الزهور أكثر قتامةً. ولكن، بدلًا من ذلك، أصبح كثير من هذه الزهور أبيض بالكامل.

اتضح بالتدريج أن علماء الأحياء حفَّزوا دون قصدٍ آلية دفاع فيروسية لم تكن معروفة من قبلُ، تُعرَف حاليًّا باسم تداخُل الآر إن إيه. فجينوم كثيرٍ من الفيروسات عبارة عن جديلة واحدة فقط من الآر إن إيه، وعندما تغزو هذه الفيروساتُ الخلايا، فإنها تصنع على الفور نُسَخًا من هذا الجينوم. وتتمثل الخطوة الأولى في عملية نَسْخ الآر إن إيه في صُنْع جديلة مكمِّلة، بمعنى أنها تصنع جزيءَ آر إن إيه ثنائيَّ الجديلة، وهذا هو ما يتعرَّف عليه النبات على أنه جزيء دخيل.

الجانب الذكي فعلًا في هذا الموضوع أنه بدلًا من مجرد تدمير الخلايا لجزيء الآر إن إيه، فإنها تستولي عليه من أجل العثورِ على جزيئات الآر إن إيه التي لها هذا التسلسُل نفسه، وتدميرِها. ويحدث هذا عن طريق تقطيع الآر إن إيه الفيروسي من أجل صُنْع جزيئات آر إن إيه قصيرةٍ متداخِلةٍ — يُطلَق عليها جزيئات «الآر إن إيه المتداخِل الصغير» — ترتبط بجزيئات آر إن إيه مماثِلة، وهكذا تميِّزها حتى يدمِّرها النبات. الأمر يشبه إلى حدٍّ ما تقطيعَ زيِّ أحد جنود الأعداء وتوزيعه على القوات، مع إعطاء أوامر بمهاجمة أي شخص يرتدي هذا الزي.

أخطأَتْ زهور البتونيا في التجربة الأصلية في التعرُّف على الجين المضاف، واعتبرته جزيئًا فيروسيًّا خطيرًا وقطعته إلى جزيئات آر إن إيه متداخلة صغيرة. ونظرًا لأن الجين المضاف كان نسخةً من أحد جينات النبات، فقد انتهى الحال بالآر إن إيه المتداخل الصغير إلى إسكات نسختَي الجين في محاولته المرتبكة لتجنُّب الفيروس الوهمي؛ ومن ثَمَّ لم يُصنِّع النباتُ أيَّ بروتين وظلَّتْ زهور البتونيا خاليةً من الصبغة.

سرعان ما اكتُشِف أن تداخُل الآر إن إيه يمكن أن يُحفَّز لدى الحيوانات البسيطة التكوين أيضًا، وأنه قد تطوَّرَ إلى أكثر من مجرد آلية دفاعية؛ فبعض الكائنات الحية تستخدمه من أجل التحكُّم في جيناتها داخل الخلية. وعندما اتضح أن الأمر ينجح أيضًا لدى الثدييات، وإن كان على نطاقٍ أضيق، تحمَّسَ علماء الأحياء كثيرًا؛ فقد رأوا في هذا الأمر طريقةً يمكن أن تساعد في علاج جميع أنواع الأمراض.

في الوقت نفسه، في عام ١٩٩٧ في مختبر سينسبري في نوريتش بالمملكة المتحدة، لاحَظَ كلٌّ من ديفيد بولكوم وأوليفيه فوانيه، الذي كان طالب دكتوراه آنذاك يشرف ديفيد على رسالته؛ أن عملية الإسكات الجيني لها قدرة خفية على الانتشار في جميع أجزاء النبات. ومع هذا، يقول فوانيه — الذي يعمل حاليًّا في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا بزيورخ — إن هذا يشكِّل إحدى صور المناعة المنطقية. «فَكِّرْ فيه على أنه آليةُ استجابةٍ مضادة للفيروسات؛ فالآر إن إيه يتحرَّك تحسُّبًا لجبهة العدوى.»

الانتقال بين الكائنات الحية

اكتُشِف أيضًا أن تداخُل الآر إن إيه ينتقل لدى كثير من الحيوانات عبر الأنسجة، ويؤثِّر في خلايا بعيدة للغاية عن موقع الإصابة الفعلي. وجاءت حقيقةُ أن بعضًا منه يتنقَّل عبر جميع أجزاء الجسم مفاجِئةً للعلماء الذين كانوا يظنون أنهم فهموا الآر إن إيه. يقول إريك ميسكا، الذي يدرس الآر إن إيه بجامعة كامبريدج: «كانت هذه المشاهدات صادمةً حقًّا في ذلك الوقت.»

نظرًا لأن الخلايا تستخدِم تداخُل الآر إن إيه من أجل التحكُّم في جيناتها، فإن قدرة الآر إن إيه على التنقُّل في جميع أجزاء الجسم توحي بأنه يمكن استخدامه في التأثير على نشاط خلايا أخرى. وهنا تظهر احتمالية انتقاله بين الكائنات الحية، وهي احتماليةٌ جديرةٌ بالاهتمام.

عام ١٩٩٨، اكتشف فريق بقيادة أندرو فاير، بمعهد كارنيجي واشنطن في بالتيمور بماريلاند، وكريج ميلو، بكلية الطب جامعة ماساتشوستس في وستر، أن مجرد نَقْعِ الديدان التي تحمل آر إن إيه ثنائي الجديلة في الماء كان كافيًا لتحفيز عملية تداخُل الآر إن إيه. وبعد هذا، أوضح فاير وزميلته ليزا تيمونز أن تغذية الديدان على بكتيريا معدَّلة من أجل إنتاج جزيئات آر إن إيه على هذه الصورة نجحَتْ أيضًا.

بعد مرور خمسة عشر عامًا، أصبح من الواضح أن كثيرًا من اللافقاريات — بدءًا من الديدان إلى الحشرات — يسمح لغذائه بالتلاعب بجيناته. ولا يزال كثير من العاملين في هذا المجال مذهولين من هذا الاكتشاف. ويقول كريج هنتر بجامعة هارفرد، الذي ساعَدَ في اكتشاف كيفية امتصاص الديدان للآر إن إيه: «لماذا قد يرغب حيوانٌ ما في القيام بهذا؟ إنه أمرٌ لا يزال غير مفهوم.»

يقول هنتر: «ربما لا يكون هذا هو هدف الحيوان؛ فالحيوانات تمتصُّ المغذِّيات وغيرها من الإشارات من طعامها، وتدخل جزيئات الآر إن إيه الثنائية الجديلة بطريقةٍ ما ضمنَ هذه العملية. وقد يرجع هذا إلى أن جزيء الآر إن إيه الثنائي الجديلة قويٌّ على نحوٍ ملحوظٍ بخلاف جزيء الآر إن إيه الأحادي الجديلة.»

السؤال المهم هنا هو: هل تطورت بعض الكائنات الحية لتستفيد من نقطة الضعف هذه؟ فهل تتلاعب بعض الطفيليات، على سبيل المثال، بعوائلها من خلال حقنها بجزيئات الآر إن إيه؟ نحن ببساطة لا نعرف، لكن ثمة إشارات إلى أنها تفعل ذلك. على سبيل المثال، أُعلِن هذا العام أن نباتًا طفيليًّا يُسمَّى الحامول يتبادَل كميات ضخمة من جزيئات الآر إن إيه مع النبات العائل له، لكن لم يتضح بعدُ السببُ وراءَ هذا.

أيًّا كان ما يحدث في الطبيعة، يبدو واضحًا أننا نستطيع استخدام تداخُل الآر إن إيه في خداع الكائنات الحية ودفعها إلى مهاجمة جيناتها، بهدف قتل الأعشاب الضارة أو الآفات الحشرية (نيو ساينتيست، ٢٠ مارس ٢٠١٠). وأحد سُبُل القيام بهذا هو إنتاج نباتات معدَّلة وراثيًّا لصُنْع جزيئات آر إن إيه محدَّدة. ويعمل العديد من الفِرق البحثية في جميع أنحاء العالم على هذا المشروع، لكن تأتي على رأسها جميعًا شركة «مونسانتو»، وهي شركة عملاقة في مجال التكنولوجيا الحيوية. يقول ويليام مور، أحد الباحثين بالشركة: «نعتقد أن هذا سيكون أحد الاكتشافات المستقبلية الرئيسية في مجال الزراعة.»

تبيع شركة «مونسانتو» منذ أمدٍ بعيدٍ الذرةَ المعدَّلة وراثيًّا لإنتاج سُمِّ «بي تي» القاتل للحشرات، لكن بدأت تظهر حاليًّا مقاومة له؛ لذا أنتجت الشركةُ سلالةً تنتج أيضًا جزيئات آر إن إيه ثنائية الجديلة تستهدف جينًا مهمًّا لدى دودة الجذور. وستُطرَح هذه السلالة للبيع تحت مُسمَّى «سمارت ستاكس برو» في نهاية هذا العَقد.

قد يرى البعض حماسَ شركة «مونسانتو» مثيرًا للشك بعض الشيء، لكن يرى كثيرٌ من علماء الأحياء أن استخدامَ تداخُل الآر إن إيه أفضلُ بكثير من إغراق المحاصيل في مبيدات حشرية كيميائية ربما تبقى في البيئة وتؤذي عددًا كبيرًا من الحيوانات، ناهيك عن العاملين في المزارع. يقول وين هنتر — بمختبر أبحاث وزارة الزراعة الأمريكية في فورت بيريس، بولاية فلوريدا: «إنه أمر مميَّز للغاية. فإذا أردتَ يومًا مبيدًا حشريًّا أكثر تركيزًا على الهدف، وأكثر حفاظًا على البيئة، فهذا هو الخيار الأمثل.»

رش المحاصيل

لا يقتضي الأمر بالضرورة تعديل المحاصيل وراثيًّا. يقول وين هنتر: «عندما تشاورت مع شركات الموالح والعنب، فإنها أرادَتْ تحديدًا أن يكون الحلُّ المطروح غير معدل وراثيًّا حتى تتمكَّن من الترويج لعصائرها على أنها طبيعية ١٠٠ في المائة.» ويعني هذا رش المحاصيل بسائلٍ يحتوي على جزيئات الآر إن إيه للحصول على تأثيرٍ أسرع وأكثر مرونةً، بدلًا من قضاء سنوات في تعديل النبات وراثيًّا لإنتاجه.

كان هذا الأمر غير وارد؛ لأن صُنْعَ جزيئات آر إن إيه ثنائية الجديلة باهظٌ للغاية. يقول هنتر: «قد تنفق ٦٠٠ دولار أمريكي على مُعَدَّات وتحصل في النهاية على ملِّيجرامين من جزيئات الآر إن إيه الثنائية الجديلة، وهذه الكمية تكفي للتأثير فيما يقرب من ٢٠ حشرة فقط.» وتغيَّرت الأمور في عام ٢٠٠٩، عندما توصَّلتْ شركة تُدعَى «بيولوجيكس» — يقع مقرُّها في الولايات المتحدة — إلى طريقة زهيدة التكلفة لإنتاج كمياتٍ كبيرة منه. ويقول هنتر، الذي عمل في شركة «بيولوجيكس» قبل استحواذ «مونسانتو» عليها في عام ٢٠١١: «إنه العام الذي حدثَتْ فيه طفرةٌ كبيرة في علم الحشرات.»

الأهم من ذلك أن جزيئات الآر إن إيه يمكن استخدامها في «تطعيم» اللافقاريات ضد الفيروسات، وكذلك في قتلها؛ فنظرًا لأن تداخُل الآر إن إيه قد تطوَّرَ في شكل آلية دفاعية، حاوَلَ فريق وين هنتر تخليق جزيء آر إن إيه من أجل استهداف فيروس متورِّط في اضطراب انهيار المستعمرة؛ وهي ظاهرة غامضة أدَّتْ إلى انخفاض مقلق في أعداد مستعمرات النحل. ونجحت الطريقة؛ فقد ساعدَتْ تغذيةُ نحلِ العسل على محلول سكري يحتوي على جزيئات الآر إن إيه؛ النحلَ في تجنُّب العدوى.

يقول هنتر: «عادةً ما يعمل علماء الحشرات أمثالي على التوصُّل إلى طرق لقتل الحشرات، أما في هذه الحالة، فنحن نقول إن هذه التكنولوجيا يمكن أن تُستخدَم أيضًا في حماية أنواع الحشرات.» وقد استُخدِمت هذه الطريقة مؤخرًا في حماية أنواعٍ ذات أهمية تجارية من العدوى الفيروسية، من بينها ديدان القز وروبيان المحيط الهادئ المستزرع ذو اللون الأبيض.

مع هذا، ثمة كثير من الباحثين غير مقتنعين بأننا نعرف ما يكفي عن الآثار الجانبية المحتمَلة لاستخدام تداخُل الآر إن إيه، لا سيَّما عند استخدامه كمبيد حشري. وفي العام الماضي، حذَّرَتِ الهيئةُ الاستشارية الوطنية الأمريكية لنحل العسل قائلةً: «إنَّ محاولة استخدام هذه التكنولوجيا في ضوء ما يتوافر لدينا من معرفةٍ في المرحلة الحالية؛ سيكون أكثر سذاجةً من استخدامنا مادة الدي دي تي في خمسينيات القرن العشرين.»

لا شك أنه لا يزال يوجد الكثير من الأسئلة التي يجب الإجابة عنها. أحد أهم هذه الأسئلة هو ما إذا كانت جزيئات الآر إن إيه ستؤثِّر في نوع واحد فقط، أو ما إذا كان جزيء الآر إن إيه المقصود منه قتل أحد أنواع الحشرات يمكنه التأثير في أنواع أخرى إذا تعرَّضت له بطريقةٍ ما.

وبما أن تداخُل الآر إن إيه ينجح إلى حدٍّ ما في الثدييات، وأن الحشرات تتعرَّض لجزيئات الآر إن إيه المتجولة في الطعام الذي تتناوله، فهل يعني هذا أنه قد يؤثِّر علينا؟

أشارت دراسةٌ نُشِرت في عام ٢٠١١ إلى إمكانية حدوث هذا الأمر؛ فزعمت أننا بإمكاننا العثور على أجزاءٍ من جزيئات الآر إن إيه من بعض الخضراوات والحبوب في دم الإنسان، وبعض هذه الأجزاء كانت لديها القدرة على تغيير التعبير الجيني في خلايا ثديياتٍ مُستنبَتة معمليًّا، إلا أن عددًا كبيرًا من الدراسات اللاحقة أشار إلى عكس هذا. وليس هذا بالأمر المفاجئ؛ نظرًا لأن الباحثين في مجال الطب يرون أنه من الصعب تحفيز تداخل الآر إن إيه لدى الثدييات؛ فجزيئات الآر إن إيه الطويلة الثنائية الجديلة الفعَّالة لدى اللافقاريات لا تنجح لدى الثدييات على الإطلاق، ولتحفيزها على إحداث التأثير المطلوب، لا بد من إدخال جزيئات الآر إن إيه المتداخلة الصغيرة في الخلايا؛ حيث لا يكفي مجرد حقن جزيئات الآر إن إيه مباشَرةً في مجرى الدم؛ لذا يبدو أن الثدييات على الأقل لن تكون عرضةً لمبيدات الآر إن إيه الحشرية.

يقول فوانيه: «على الرغم من هذا، يجب ألَّا يكون العالِم مرتابًا إلى هذا الحد؛ فلا بد أن يكون مُنفتِحًا ويعترف بوجود إمكانية لذلك. ولهذا السبب يوحِّد فريقي حاليًّا، ضمن فِرَقٍ أخرى كثيرة، الجهودَ كجزءٍ من مشروع كبير يهدف إلى التعامل مع هذا الموضوع وغيره من الموضوعات المرتبطة بمسار تداخُل الآر إن إيه لدى الثدييات.»

يشير فوانيه إلى مشروع بملايين الدولارات تموِّله المعاهد الوطنية الأمريكية للصحة، التي تضم فريقَ كريج هنتر. ومن بين الجوانب التي يركِّز عليها المشروع شكلٌ من جزيئات الآر إن إيه المتجولة نعلم يقينًا بوجوده داخل أجسامنا.

على الرغم من أن خلايانا لا تكوِّن جزيئات آر إن إيه متداخلة قصيرة بنفس الكم الهائل الذي تكوِّنه خلايا النباتات والديدان والحشرات، فإنها تكوِّن جزيئات آر إن إيه قصيرة مشابهة ظاهريًّا تُعرَف باسم «ميكرو آر إن إيه»، تساعد في تنظيم التعبير الجيني (مجلة نيو ساينتيست، ٢٨ يونيو ٢٠٠٨). تستطيع هذه الجزيئات التحرك تمامًا مثل جزيئات الآر إن إيه المتداخلة الصغيرة لدى النباتات. وقد اكتشفت بعض الدراسات التي أُجرِيت على مدار العَقد الماضي كمياتٍ ضئيلةً من جزيئات الميكرو آر إن إيه في الدم والبول ولبن الثدي عند الإنسان.

رسائل خفية

لكن هل تحمل جزيئات الميكرو آر إن إيه إشاراتٍ بين الخلايا بالطريقة نفسها التي تتبعها جزيئات الآر إن إيه المتداخلة الصغيرة في النباتات أو الديدان؟ يوجد إجماعٌ في الآراء حاليًّا على أنها لا تتبع الطريقة نفسها؛ نظرًا لأن الكميات قليلة للغاية. يقول ميسكا: «حتى داخل الخلية، لا بد من توافر تركيزات عالية من جزيئات الميكرو آر إن إيه قبل أن تتمكَّن فعليًّا من القيام بأي شيء.» وثمة نظرية رائدة تفيد بأن جزيئات الميكرو آر إن إيه يمكن العثور عليها ببساطة في سوائل الجسم المشار إليها سابقًا (الدم والبول ولبن الثدي)؛ لأن الخلايا التي تتكوَّن هذه الجزيئات بداخلها قد تقدَّمَ بها العمرُ وماتت وتسرَّب محتواها. وبعبارة أخرى، ربما تكون جزيئات الميكرو آر إن إيه المتجولة في أجسامنا ببساطةٍ بلا مأوى.

مع هذا، ربما لا يزال من الممكن حدوث تطوُّر غير متوقَّع في الأحداث؛ فعلى الرغم من أن جزيء الميكرو آر إن إيه المتجول صامِتٌ وبلا مأوى، فإنه قد لا يكون عديم الفائدة؛ فربما يحمل معه — على غرار جزيئات الآر إن إيه المتداخلة الصغيرة التي تتنقل في جميع أنسجة النبات — رسالةً عن صحة الخلية التي تكوَّنَ بداخلها. وحتى إذا كانت هذه الرسالة خفيةً للغاية بحيث لا تستطيع الخلايا الأخرى في أجسامنا إدراكها، فإن الأدوات الطبية المتطورة في عصرنا الحالي ربما تتمكَّن في النهاية من توصيلها. يقول ميسكا: «إذا كانت جزيئات الميكرو آر إن إيه تحمل معها أية معلومات في أثناء تجوُّلها في أنسجتنا، فإنها ستمثِّل أداةً تشخيصيةً رائعةً.»

لا يشكُّ حاليًّا إلا عدد قليل من الناس في أن جزيئات الآر إن إيه المتجولة — أو التي بدأ البعض الآن يُطلِق عليها جزيئات الآر إن إيه الموجودة خارج الخلية — لديها القدرة على إحداث ثورة في الزراعة وجهود الحفاظ على الحشرات. وتجاهَلَ الباحثون في مجال الطب حتى وقتٍ قريبٍ هذ الأمرَ إلى حدٍّ كبير. يقول ميسكا: «لقد قالوا إن هذا الأمر يحدث في النباتات والحشرات والديدان الأسطوانية فقط.» لكن إذا استطاعَتْ جزيئات الآر إن إيه الموجودة خارج الخلية أن تمدَّنا بمعلوماتٍ عن أجسامنا، أو حتى أن تؤثِّر فيها؛ فربما تصبح ذات فائدة عظيمة للطب.

02 Dec, 2015 10:53:04 AM
0

لمشاركة الخبر