Skip to main content

بعض سبل السعادة

(١) اجنِ مزيدًا من المال (لكن حتى حدٍّ معين) …

هل يشتري المال السعادة؟ باختصار، نعم؛ لكنه لا يشتري الكثير منها. فمتى استطعت توفير الطعام والملبس وإيجاد مسكن، فإن أثر كل دولار إضافي تربحه يقل تدريجيًّا.

كلما نظر الباحثون وأينما نظروا وجدوا — في المتوسط — أن الأفراد الأغنى هم الأكثر سعادة. يقول روبرت فرانك، عالم الاقتصاد في جامعة كورنيل بمدينة إثاكا بنيويورك: «يوجد أثرياء تعساء، ويوجد فقراء يشعرون بالسعادة طوال الوقت. لكن إذا كنت شخصًا ثريًّا غير سعيد، فأنت لا تزال أسعد مما كنت ستصبح عليه إذا كنت فقيرًا.» يبدو أن نفس الشيء ينطبق على من يصبحون أثرياء فجأة؛ إذ يشعر الفائزون بجوائز اليانصيب ومن ورثوا تركة كبيرة بأنهم أسعد إلى حد ما مما كانوا عليه في السابق، وذلك وفقًا لدراسات أجراها أندرو أوزوالد، عالم الاقتصاد في جامعة وارويك.

لكن الرابط بين المال والسعادة أعقد من ذلك نوعًا ما. فعَبْرَ الخمسين عامًا الماضية، شهد متوسط الدخول في الدول الصناعية ارتفاعًا كبيرًا، إلا أن مستويات السعادة ظلَّتْ ثابتة (انظر الرسم البياني). يبدو أن الدخل وحده لا يُحْدِث فارقًا كبيرًا ما إن امتلكت ما يكفي لتلبية احتياجاتك الأساسية. بل يبدو أن العامل المحوري ها هنا هو ما إذا كنت تملك ما يزيد من مال عن أصدقائك وجيرانك وزملائك. يُعلِّق أوزوالد على ذلك قائلًا: «يرتكب البشر خطأ الاعتقاد أن امتلاك بضعة آلاف أكثر من الدولارات بقيمتها المجردة ستجعلهم أفضل حالًا. لكن هذا غير صحيح، بل تبتاع الدولارات المكانة الاجتماعية وذلك هو ما يجعلهم أفضل حالًا.» يساعدنا ذلك على تفسير السبب الذي يدفع الأفراد الساعين وراء المكانة عبر وسائل أخرى — مثل العلماء والممثلين — إلى الترحيب في بعض الأحيان بقبول وظائف قليلة الدَّخْل.

المال ليس السبيل للسعادة: السعادة في الولايات المتحدة مقارنةً بالدخل (مع أخذ التضخم في الاعتبار).

المال ليس السبيل للسعادة: السعادة في الولايات المتحدة مقارنةً بالدخل (مع أخذ التضخم في الاعتبار).

تؤكد أبحاث أوزوالد على ذلك. ففي الاختبارات المعملية سأل مجموعة من الطلاب الجامعيين عن درجة رضاهم عن مجموعة متنوعة من الرواتب لوظيفة افتراضية. ووجد أن ترتيب الراتب وسط نطاق الرواتب الممكنة أحدث فارقًا كبيرًا في مستوى رضا الطلاب؛ إذ كانوا يمنحون راتبًا ما تقييمًا أفضل بكثير إذا كان واحدًا من الرواتب الأعلى ترتيبًا لا واحدًا من الرواتب الأدنى ضمن هذا النطاق. وعلى نحو مماثل وجد أوزوالد في استقصاء اشتمل على أكثر من ١٦ ألف موظف في المملكة المتحدة أن الموظفين أعربوا عن مزيد من الرضا حيال راتب ما إذا كان يحتل مكانة عالية في تدرج الرواتب بالشركات التي يعملون بها.

وقد طوَّر أوزوالد «معادلة السعادة» التي تُقيِّم عناصر السعادة؛ مما مكَّنه من طرح أسئلة مثل: ما قدر الأموال الإضافية اللازمة — في المتوسط — لجعل شخص أعزب يشعر بنفس السعادة التي يشعر بها شخص متزوج؟ ويتضح على نحو قاطع عبر إجابة هذا السؤال محدودية تأثير المال؛ إذ يُقدَّر المبلغ بحوالي ٧٠ ألف جنيه استرليني إضافي في العام، أي أكثر بكثير من الدخل السنوي لغالبية الأفراد. وعلى نحو مماثل فإن مزايا الإحساس بالسعادة المستمدة من الحصول على وظيفة تتخطى بمراحل الدخل الفعلي منها (دورية إنترناشونال جورنال أوف إبيديمولوجي، المجلد ٣١، صفحة ١١٣٩). لذا يستنتج أوزوالد أن «المال مهم لكنه ليس بنفس الأهمية التي يعتقدها المواطن العادي.»

(٢) اكبح رغباتك …

زعم الحكماء على مَرِّ العصور أن كبح الرغبات هو سبيل أضمن لبلوغ السعادة من امتلاك الكثير من المال، وربما كانوا على حق.

ففي ثمانينيات القرن العشرين، طلب أخصائي العلوم السياسية أليكس مايكلوس — الذي يعمل الآن بجامعة شمال كولومبيا البريطانية في مدينة برينس تاون — من ١٨ ألف طالب جامعي من ٣٩ دولة تقييمَ سعادتهم على مقياس رقمي، ثم سألهم عن مدى قربهم من تحقيق كل ما أرادوه في الحياة. ووجد أن من ارتفعت طموحاتهم — لا للمال فحسب، بل للأصدقاء والعائلة والوظيفة والصحة والأخلاق — لأقصى حدٍّ متجاوزةً ما لديهم بالفعل بكثير يميلون إلى الشعور بسعادة تقل عما يشعر بها أولئك الذين تفصل بينهم وبين طموحاتهم فجوة أقل. في الحقيقة يتنبأ حجم الفجوة بمستوى السعادة أفضل خمس مرات من عامل الدخل وحده، وهو ما يعلق عليه مايكلوس قائلًا: «إن مقاييس الفجوة تطيح تمامًا بمقاييس الدخل المجردة.»

قد تفسِّر «فجوة الطموح» هذه سبب فشل معظم الناس في الشعور بمزيد من السعادة مع ارتفاع رواتبهم. فبدلًا من إرضاء رغباتنا فإن معظمنا يرغب في المزيد، ليس إلا. على سبيل المثال، طلبت مؤسسة روبر لاستطلاعات الرأي العام من الأمريكيين في استطلاعين للرأي عامَيْ ١٩٧٨ و١٩٩٤ أن يضعوا قائمة بالسلع المادية التي يرونها مهمة للتمتع ﺑ «حياة مترفة». ووجد الباحثون أن كلما ازداد عدد ما يملكه الناس من تلك السلع ازدادت قائمتهم طولًا، وهكذا ظلت الحياة المترفة دومًا بعيدة المنال.

(٣) لا تقلق إذا لم تكن نابغًا …

على الرغم من قلة الدراسات التي بحثت ما إذا كان الأشخاص الأذكياء أكثر سعادة أم لا، فقد وجدت عادةً أن الذكاء عامل غير مؤثر. للوهلة الأولى يبدو ذلك باعثًا على الدهشة بما أن الأشخاص الأكثر ذكاءً من المفترض أنهم يَجْنون في الغالب مزيدًا من المال والأشخاص الأكثر ثراءً هم عادةً أسعد من غيرهم. يقول فرانك: «في رأيي، إذا كنت ستدخل عالمنا اليوم وأنت تملك اختيارًا بين أن تُولَد ذكيًّا أو دون ذكاء، فسيكون الاختيار صعبًا.»

يعتقد بعض الباحثين بحتمية وجود عامل آخر لم يُقَس بعد يتسبب في إفساد حياة الأشخاص الأكثر ذكاءً، لكن حتى الآن لم يستطيعوا سوى تخمين ماهية هذا العامل. فربما لدى الأشخاص الأكثر ذكاءً توقعات أعلى، ومن ثم يشعرون بعدم الرضا حيال أي إنجاز دون ما يريدون.

أو ربما يقيس علماء النفس النوع الخاطئ من الذكاء. يقول إيد دينر — عالم النفس بجامعة إلينوي في مدينة إربانا-شامبين: «ربما لا توجد علاقة وثيقة بين الحصول على درجات مرتفعة في اختبار معدل الذكاء — الذي يشير إلى كونك تعرف العديد من المفردات وفي وسعك ترتيب الأشياء في ذهنك — والقدرة على الانسجام جيدًا مع الناس.» ويُخمِّن دينر أن «الذكاء الاجتماعي» قد يكون مفتاح السعادة الحقيقي.

(٤) استغل جيناتك إلى أقصى حد …

هل يُولَد بعض الأشخاص سعداء أو تعساء؟ يعتقد ديفيد ليكين — عالم النفس وأخصائي الوراثة السلوكية في جامعة مينيسوتا بمدينة مينيابوليس — أن إحساسنا بالسرور في أي لحظة يرجع نصفه إلى ما يدور في حياتنا في ذلك الوقت بينما يرجع النصف الآخر إلى «نقطة محددة» من السعادة، ٩٠٪ منها محكوم بالجينات؛ وهي النقطة التي نرجع إليها في النهاية بعد الأحداث المؤثرة.

يضيف ليكين: «إن نقطة سعادتنا المحددة يحددها إلى حدٍّ بعيد أجدادنا. لكن سواء تجاوزناها لمستويات تعلوها أو انحدرنا إلى مستويات أقل منها فإن ذلك يعتمد على حسن تمييزنا وجودة تعليمنا، أو بالأحرى حسن تمييز والدَيْنا وجودة تعليمهما.» يقيم ليكين زعمه بناءً على دراسة تناولت أكثر من ٤ آلاف توءم بالغ من مواليد مينيسوتا في الفترة بين ١٩٣٦ و١٩٥٥. إذ وجد أن الاختلاف الجيني كان مسئولًا عن نسبة تتراوح بين ٤٤٪ و٥٥٪ من الاختلاف بين التوائم في مستويات السعادة، بينما لم يزد تأثير الدخل أو الحالة الاجتماعية أو الدِّين أو التعليم عن نسبة ٣٪ (دورية سايكولوجيكال ساينس، المجلد ٧، صفحة ١٨٩).

يبدو بالفعل أن هناك علاقة بين السعادة والشخصية؛ إذ أظهرت عدة دراسات أن الشخصيات الانبساطية هم عادةً أسعد من معظم الناس، وأسعد بكثير من الشخصيات الانطوائية. قد يرجع ذلك إلى أن الانبساطيين يميلون أكثر إلى أداء الأنشطة التي تجلب السعادة؛ مثل: تكوين الصداقات، والسعي للترقي في العمل والزواج. أو ربما يعني ذلك فحسب أن السعادة هي ما تجعل المرء انبساطيًّا؛ إذ وجدت العديد من الدراسات أن خَلْق حالة مزاجية جيدة لدى الأفراد يجعلهم اجتماعيين أكثر. فعلى سبيل المثال، أشار مايكل كنينجهام — من جامعة لويفيل بولاية كنتاكي — إلى أنه عندما شاهدت مجموعة من الأفراد فيلمًا سعيدًا كانوا أكثر ثرثرة وانفتاحًا على الآخرين مقارنة بحالهم عندما شاهدوا فيلمًا حزينًا (دورية بيرسونالتي آند سوشال سيكولوجي بوليتن، المجلد ١٤، صفحة ٢٨٣).

لكن الشخصية الانبساطية ليست دومًا مرادفًا للسعادة؛ فالسعادة تعتمد كذلك على البيئة التي تعيش فيها؛ إذ وجد جيرهارد كيته من جامعة يوهانز كبلر في مدينة لينتس بالنمسا أنه داخل السجون يكون الانطوائيون أسعد من الانبساطيين.

(٥) توقف عن مقارنة مظهرك بالآخرين …

فلنبدأ بالخبر السيئ: الأشخاص الجذابون هم بالفعل أكثر سعادة. فعندما طلب دينر من مجموعة من الأفراد تقييم مظهرهم — بمكياج وبدون مكياج على حدٍّ سواء — وجد «تأثيرًا ضئيلًا لكن إيجابيًّا للجاذبية الجسدية على السعادة الشخصية.»

ربما يرجع ذلك إلى كون الحياة أكثر كرمًا مع أصحاب الجمال، أو قد يكون السبب أعمق من ذلك؛ إذ تتمتع أشد الوجوه جاذبية بدرجة عالية من التناسق. وتفيد الأدلة المستقاة من الأبحاث على الحيوانات إلى أن التناسق يعكس التمتع بجينات جيدة ونظام مناعي صحي. إذن ربما يشعر الأشخاص ذوو الجمال بسعادة أكبر لأنهم يتمتعون بالمزيد من الصحة؛ فقد كشفت دراسات كثيرة عن أنه هناك علاقة بين السعادة والصحة.

أما الخبر الجيد، فيتلخص في قدرتك على استغلال السعادة العاطفية المرتبطة بالجمال حتى وإن لم تتمتع بالجاذبية. يكمن السر في الإيمان بأنك تبدو رائعًا. لكن للأسف الأمر أصعب مما يبدو. فمن بين كل ٢٠ فردًا يُقيِّم شخص واحد فقط نفسه بدقة على مقياس الجاذبية، بينما أغلب الناس لديهم صورة ذاتية مشوَّهة عن أنفسهم التي تنزع إلى جانب كرههم لشكلهم وليس حبهم له، كما أظهر تحليل تجميعي نَشَرَه آلان فاينجولد من جامعة ييل (دورية سايكولوجيكال بوليتن، المجلد ١١١، صفحة ٣٠٤). فتعتقد النساء عادةً أنهن بدينات جدًّا بينما يقلق الرجال حيال ضآلة الجسد.

وفي دراسة جديدة، اكتشفت لوري مينتس وزملاؤها من جامعة كولومبيا في ميزوري أن النساء اللاتي شاهدن إعلانات تشتمل على عارضات شابات رشيقات يُمثِّلن الكمال الجسدي لمدة تتراوح بين دقيقة إلى ثلاث دقائق فحسب قيَّمْنَ أجسادهن بسلبية أكبر وأظهرْنَ شعورًا أكبر بالاكتئاب. أصاب مينتس الذعر عندما لاحظَتْ مدى سرعة تحطُّم اعتزاز هؤلاء النساء بذواتهن. وتعتقد مينتس أن شعور الناس بعدم الرضا يزداد مع إتاحة التكنولوجيا الجديدة للإعلام خَلْق صور أبعد عن الواقع.

ما العمل إذن؟ يشير أحد الملخصات المنشورة لردود أفعال بعض المرضى إلى أن جراحة تجميلية ناجحة للأنف أو للصدر قد تجعلك أكثر سعادة على المدى الطويل. لكن الكثير من هؤلاء يذهبون ثانيةً لمراكز التجميل رغبة في المزيد من عمليات التجميل؛ مما يوحي بأنهم لا يزالون غير راضين عن مظهرهم.

تُوصي مينتس باتباع خطوات أبسط للتمتع بالرضا؛ ألا وهي: تجنُّب الصور الإعلامية غير الواقعية وإدراك أن تلك الصور مُحسَّنة ومُعدَّلة باستخدام برنامج فوتوشوب كي تصبح خالية من العيوب، واحترام الجسد لا لأجل مظهره بل لأجل ما يُؤدِّيه من مهام.

(٦) كوِّن صداقات وقدِّر قيمتها …

من الصعب تخيُّل تجربة أكثر بؤسًا من حياة التشرد في شوارع كالكوتا أو السكن في أحد أحيائها الفقيرة أو جني الرزق هناك عبر ممارسة الدعارة. لكن على الرغم من الفقر والظروف البائسة التي يواجهها الناس في تلك المدينة، فإنهم أسعد كثيرًا مما قد تظن.

أجرى دينر حوارًا مع ٨٣ شخصًا من تلك المجموعات الثلاث، وحَسَبَ معدلَ رضاهم عن الحياة باستخدام مقياس تشير فيه الدرجة ٢ إلى نقطة الحياد. وفي المجمل كانت نتيجة المجموعات الثلاث ١٫٩٣ في المتوسط، وهو رقم ليس عظيمًا لكنه مشرف مقارنة بمجموعة ضابطة من الطلاب المنتمين للطبقة الوسطى في المدينة ممن حصلوا على ٢٫٤٣. وعلاوة على ذلك سجَّل سكان الأحياء الفقيرة — الذين كانوا أسعد مجموعة من بين المجموعات الثلاث المحرومة — درجة قدرها ٢٫٢٣، بفارق غير كبير عن الدرجة التي حصل عليها الطلاب (دورية سوشال إنديكيتورز ريسيرتش، المجلد ٥٥، صفحة ٣٢٩).

يُعلِّق دينر على ذلك قائلًا: «نعتقد أن العلاقات الاجتماعية مسئولة جزئيًّا عن ذلك.» ويشير إلى أن المجموعات الثلاثة المحرومة سجَّلت معدلات رضا أعلى في مجالات معينة مثل العائلة (٢٫٥) والأصدقاء (٢٫٤). وقد حقَّق سكان المناطق الفقيرة نتائج جيدة للغاية في هذا المجال، ربما لأنهم يستطيعون على الأرجح استغلال الدعم الاجتماعي النابع من أهمية العائلة الكبيرة في الثقافة الهندية. ويُضِيف دينر: «يفتقد مشردو أمريكا هذا العامل، وهم لا يشعرون بالسعادة على الرغم من تمتعهم بظروف مادية أفضل.» ويبدو أن أحدث نتائجه — التي لم تُنشَر بَعْدُ — تُثْبِت هذه النقاط.

(٧) تزوَّجْ …

في تحليل لتقارير من ٤٢ دولة، وجد فريق من الباحثين في الولايات المتحدة أن المتزوجين أسعد دومًا من العزاب. ورغم صغر حجم التأثير — المسئول عن ١ إلى ٢٪ من الاختلاف في معدل السعادة الشخصية — فإنه لا يزال دافعًا لطرح السؤال التالي: هل يجعلك الزواج سعيدًا أم هل تزداد احتمالية الزواج لدى الأشخاص السعداء، ليس إلا؟

قد يكون كلا الاحتمالين صحيحين. ففي دراسة تتبعت حياة ما يزيد عن ٣٠ ألف ألماني مدة ١٥ عامًا، وجد دينر وزملاؤه — من بينهم الباحث ريتشارد لوكاس من جامعة ولاية ميشيجان — أن احتمالات الزواج واستمراره تزيد لدى الأشخاص السعداء. لكن أي شخص يمكنه تحسين حالته النفسية عن طريق الزواج، الذي يبدأ تأثيره قبل عام تقريبًا من «يوم الزفاف» ويستمر قرابة عام بعده. وفي المتوسط، تعود مستويات الرضا بعد ذلك إلى مستوياتها الأساسية، لكن الباحثون يزعمون أن ذلك يحجب حقيقة أن للزواج الموفق تأثيرًا إيجابيًّا دائمًا. وعلاوة على ذلك، يستمد الأشخاص الأقل سعادة منذ البداية دعمًا أكبر من الزواج (دورية جورنال أوف بيرسونالتي آند سوشال سيكولوجي، المجلد ٨٤، صفحة ٥٢٧).

ويبدو كذلك أن للزواج الرسمي في حد ذاته تأثيرًا خاصًّا؛ إذ تشير الأبحاث إلى أن التشارك في السكن فحسب دون زواج لا يتضمن هذا القدر من الاستفادة. ويوضح أوزوالد ذلك قائلًا: «أظن أن الحبيبين اللذين يسكنان معًا دون زواج يفتقدان الأمان الأعمق الذي يمنحه الزواج الرسمي. لذا لا يشعران حقًّا بسعادة كبيرة؛ إذ إن الإحساس بعدم الأمان — كما تشهد جميع البيانات — ذو تأثير سيئ على البشر.»

(٨) آمِنْ بالله (أو بمنظومة معتقدات) …

لم يبتعد كارل ماركس كثيرًا عن الصواب عندما وصف الدين بأنه «أفيون الشعوب». فمن بين الدراسات المتعددة التي بحثت العلاقة بين الدين والسعادة، وجدت الغالبية العظمى منها صلة إيجابية. وقد اكتشف هارولد كاينيج — الذي يعمل في المركز الطبي التابع لجامعة ديوك في مدينة دورم بولاية نورث كارولينا — أن من بين ١٠٠ دراسة تناولت هذا الموضوع، أظهرت ٧٩ دراسة أن الأفراد المتبعين لديانة ما يشعرون بمزيد من السعادة والرضا عن حياتهم — أو يتمتعون بمزيد من المشاعر الإيجابية — مقارنة بالآخرين.

لكن ما سبب ذلك؟ يزعم كاينيج أن الإيمان بالله أو بالآخرة قد يمنح الناس معنى وهدفًا لحياتهم ويقلل من الإحساس بالوحدة في العالم، لا سيما مع تقدمهم في السن، مضيفًا: «يمكنك بالفعل ملاحظة هذا التأثير في أوقات الشدة والضيق؛ إذ في وسع الإيمان أن يصبح وسيلة غاية في الفاعلية للتأقلم مع المحن.»

وعلاوة على ذلك، من الأفضل أن تتبع منظومة معتقدات معينة بدلًا من ألا تتبع أي شيء على الإطلاق. ويوضح جاري ريكر — من جامعة ترينت في مدينة بيتربرو، أونتاريو — أن هذا الأمر يتضح بشدة في الخوف من الموت. ثم يضيف أن المتدينين بعمق والملحدين الراسخين أعلنوا عن كونهم أقل خوفًا من الموت مقارنةً بالآخرين: «أما الأشد خوفًا فهم الحائرون أو غير الملتزمين بأي منظومة معتقدات محددة.»

ومن الأسباب الأخرى وراء تعزيز التدين للسعادة هو ما يشتمل عليه من تفاعل ودعم اجتماعي. ويعلق آبوت فاريس — الباحث بجامعة إيموري بمدينة أتلانتا، بولاية جورجيا — على هذا قائلًا: «إن مجرد مشاهدة الآخرين وهم يصعدون إلى مذبح الكنيسة ثم يرجعون بنوع من الراحة يمنح الناس إحساسًا قويًّا بالرضا. ويحضر كثير من الناس القداسات الدينية لدعم مواطن قوتهم في المجال الاجتماعي. وهي حقيقة لا يعترف بها سوى القليل من الرموز الدينية.»

يعتقد كاينيج أن الأمر لا يقتصر فحسب على تلقِّي الدعم؛ موضحًا أنه «يتعلَّق في الحقيقة بتقديم الدعم؛ إذ أظهرت الدراسات أن الأفراد الذين يوفرون الدعم للآخرين يصبحون هم أنفسهم في حال أفضل، بل ويعيشون حياة أطول.» يتفق الباحثون على أن هذا هو ما يجعل الممارسة الدينية مصدرًا لشعور أكبر من الرضا يَفُوق غيرها من الأنشطة الاجتماعية العامة، مثل الانضمام لنادي مشجعي فريق كروي.

لكن هل تمنح بعض الأديان سعادة تَفُوق الأديان الأخرى؟ تأمل فاريس بيانات المسح الاجتماعي العام الأمريكي — وهي دراسة مستمرة تقيس الاتجاهات والسلوكيات في شتى أرجاء المجتمع الأمريكي — (دورية جورنال أوف هابينيس ستاديز، المجلد ٣، صفحة ١٩٩)، ووجد أن المسيحيين البروتستانت هم الأسعد من بين الطوائف الدينية الأخرى، مع أن الفارق لم يكن كبيرًا. ترتبط هذه الظاهرة ارتباطًا أقوى بالطبيعة العقائدية للديانة؛ فالإنجيليون والأصوليون — نظرًا لاعتقادهم بأنهم يتبعون سبيل الحق الوحيد — هم أسعد بكثير مقارنة بباقي المتعبدين.

(٩) أحسِنْ إلى الآخرين …

علَّمَتْنا الأديان أن الإحسان غذاء الروح، لكنه يجعلك كذلك شخصًا أسعد.

كشفت العديد من الدراسات عن ارتباط السعادة بالإيثار. لكن كما هو الحال مع سمات سلوكية كثيرة، لا يتضح دومًا ما إذا كان فعل الخير يجعلك سعيدًا أم أن الأشخاص السعداء هم من يميلون أكثر إلى ممارسة الإيثار.

من جديد قد يكون كلا الاحتمالين صحيحين. ففي دراسة اشتملت على ٣٦١٧ فردًا، أُجْرِيَ مع كلٍّ منهم مقابلتان تَفْصِل بينهما ثلاث سنوات، وجدت الباحثتان بيجي ثويتس وليندي هيويت من جامعة فاندربيلت في ناشفيل بولاية تينيسي أن الأشخاص السعداء يميلون أكثر إلى المشاركة في الأعمال التطوعية. لكنهم وجدوا كذلك أن المتطوعين أصبحوا أشخاصًا أسعد، وكلما زاد العمل التطوعي الذي يؤدونه زادت سعادتهم (دورية جورنال أوف هيلث آند سوشال بيهافيور، المجلد ٤٢، صفحة ١١٥).

وعلى الصعيد نفسه حاول جيمس كونو — عالم الاقتصاد في جامعة لويولا ماريماونت بلوس أنجلوس، كاليفورنيا — الفصلَ بين السبب والنتيجة في تجربة معملية؛ إذ كَوَّن مجموعةً من الأفراد وطلَبَ منهم ملء عدد من الاستبيانات، ومع نهاية الجلسة أعطى نصف المشاركين ١٠ دولارات بينما لم يُعْطِ النصف الآخر أي أموال، ثم أخبر من تلقَّوا المال أن بوسعهم اقتسامه مع من لم يتلقوا شيئًا. وجد كونو أنه كلما زاد رضا الطلاب عن حياتهم عمومًا زادت احتمالية مقاسمتهم للأموال. لكن التمتع بحالة مزاجية جيدة يوم الاختبار لم يجعلهم أكثر كرمًا بأي حال من الأحوال، كذلك لم يُشِر الطلاب إلى أي زيادة مباشرة في الإحساس بالسعادة، بل في الواقع كانوا أقل سعادة بعض الشيء.

إلا أن أولئك الذين تقاسموا أموالهم نزعوا أكثر إلى إظهار السمات الشخصية للفرد «المحقق لذاته»، أي من يهتم بتطوير شخصيته وتحسينها. ويتمتع هؤلاء الأشخاص — ضمن أشياء أخرى — بعلاقات شخصية عميقة مع الآخرين ويشعرون بتعاطف شديد معهم (دورية أمريكان إيكونوميك ريفيو، المجلد ٩٠، صفحة ١٠٧٢). ويعتقد كونو أنه في حين لم يصبح المشاركون في دراسته أسعد جراء تصرف واحد كريم، فإن التأثيرات التراكمية للتمتع بشخصية كريمة حققت ذلك.

(١٠) تقبَّلْ كبر السن بصدر رحب …

ربما لا تكون الشيخوخة بالسوء الذي يظنه الناس. ففي المتوسط يشعر كبار السن بسعادة تماثل ما يشعر به الشباب، بل يعتبرون أنفسهم أكثر رضاءً عن حياتهم إجمالًا. ومن ثم تطرح لورا كارستنسين — أستاذة علم النفس بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا — السؤال التالي: «يطلق الناس على تلك الظاهرة اسم مفارقة الشيخوخة والتي تقضي بما يلي: عند أخد جميع مشاكل تقدم العمر بعين الاعتبار، كيف يمكن إذن لكبار السن الشعور بمزيد من الرضا؟»

في إحدى الدراسات، منحت كارستنسين أجهزة استدعاء (بيجر) ﻟ ١٨٤ شخصًا تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٩٤ عامًا واستدعتهم خمس مرات يوميًّا لمدة أسبوع لتطلب منهم في كل مرة ملء استبيان للمشاعر. سجَّل كبار السن مشاعر إيجابية بنفس معدل الشباب لكن معدل تسجيل المشاعر السلبية لديهم كان أقل بمراحل (دورية جورنال أوف بيرسونالتي آند سوشال سيكولوجي، المجلد ٧٩، صفحة ٦٤٤).

وفي دراسة أكبر استخدمت بيانات استقصائية من ٢٧٢٧ شخصًا تتراوح أعمارهم بين ٢٥ و٧٤ عامًا، وجد الباحثان دانيال مراتشيك وكريستان كولارز من جامعة فوردم بمدينة نيويورك نتائج مماثلة. لكنهما وجدا كذلك أن عناصر أخرى مثل الجنس، ونوع الشخصية، والعوامل الاجتماعية تؤثر على طريقة شعورنا مع تقدُّمنا في السن. فعلى سبيل المثال، يميل كل من الرجال والنساء إلى الشعور بمزيد من المشاعر الإيجابية مع تقدمهم في العمر، لكن المتزوجين فحسب هم من يشعرون بمشاعر سلبية أقل (دورية جورنال أوف بيرسونالتي آند سوشال سيكولوجي، المجلد ٧٥، صفحة ١٣٣٣).

لماذا يشعر كبار السن بهذا القدر من السعادة؟ يقترح بعض الباحثين أنهم ربما توقعوا ازدياد صعوبة الحياة وتعلموا كيفية التعايش معها، أو أنهم أصبحوا أكثر واقعية حيال أهدافهم بحيث لا يضعون نصب أعينهم سوى الأهداف التي يستطيعون تحقيقها. لكن كارستنسين تعتقد أن كبار السن تعلموا مع انقضاء العمر أن يتحكموا في مشاعرهم، بحيث يركزون على ما يجعلهم سعداء ويتخلون عما يتعارض مع ذلك.

تضيف كارستنسين: «لا يدرك الناس فحسب قيمة ما لديهم بل يدركون كذلك أنه حتمًا إلى زوال. فعلى سبيل المثال قد تثير قبلة وداع يمنحها المرء لشريك حياته في عمر ٨٥ عامًا استجابات عاطفية أكثر تعقيدًا وتنوعًا بمراحل مما قد تثيره قبلة مماثلة لشريك الحياة في سن ٢٠ عامًا.»

06 Dec, 2015 10:40:08 AM
0

لمشاركة الخبر