لا يزال أمام الأبحاث الحديثة في مجال الأحلام الكثير لتتعلمه من مغامرات ماركيز؛ فرنسي غريب الأطوار عاش قبل قرن من الزمان.
كانت مهمةً خطيرةً، ولكنَّ ماركيز دو هارفي دو سان دوني لم تكن تَنْقُصه الجرأة. فأثناء سيره في الشارع، دَخَل أطول بناية وَجَدَها، وصعد إلى نافذة في أعلى غرفة بالبناية. غمرتْه السَّكِينة إذ وَقَفَ لحظة يتأمل «كمال» المشهد أَسْفَلَه بإعجاب، ثم قَفَزَ.
ساد هَرَجٌ ومَرَج عقِب قفْزَتِه، ولكن في غضون لحظات كان قد عاد إلى الأرض من جديد، دون أن يَمَسَّهُ سُوءٌ ظاهِرٌ. وكَتَبَ: «وَجَدْتُ نفسي في الميدان أمام كاتدرائية، وسط جمهرة من الفضوليين الذين احتَشَدوا حوْل رجل ميت. أَخْبَرُونِي أنَّ الرجل ألقى نفسه من برج الكاتدرائية، ثم رَأَيْتُ جسده يُحْمَل على مِحَفَّة.»
كان الماركيز — إذ كَتَبَ تلك الرواية في القرن التاسع عشر — من أوائل الناس الذين تَنَاوَلُوا عالم الأحلام العجيب بالدراسة الجادة. لكن في حين أنَّ غَيْرَه اكتفى بالملاحظة السلبية، كان لدى الماركيز حيلة نادرة في جُعْبَتِهِ؛ فقد كانت لديه القدرة على التحكم الواعي في جولاته الليلية؛ كان من الحالمين الواعين. وإلى جانب مَلْء لَيَالِيهِ باللقاءات والمغامَرات الممتعة، أتاحت له هذه القدرة إجراء تجارب على أسلوب تكوين عقْله للأحلام من الداخل. فالقفز مِنْ أعلى البنايات كان مُجَرَّدَ اختبار ضِمْن اختبارات كثيرة كان يُجْرِيها بَعْدَ أن يَخْلُد إلى النوم.
ظَلَّ عَمَلُهُ في طي النسيان لِمَا يربو على قَرْن من الزمان. والآن نحن بصدد إعادة اكتشاف كم كان متبصِّرًا في كثير من أفكاره، وكيف يمكن لأساليبه أن تُقَدِّم نافذة على الوعي البشري بصفة عامة. يقول آلان هوبسون، الباحث في مجال الأحلام بكلية طب جامعة هارفرد: «لا شكَّ أنه كان رائدَ هذا المجال.»
ربما تكون السجلات المتاحة عن حياة الماركيز في يَقَظَتِهِ أقَلَّ تأثيرًا من يومياته في عالم الأحلام. وُلِد الماركيز في أسرة أرستقراطية بباريس في عام ١٨٢٢ باسْم ماري جان ليون ليكوك. كان تلميذًا نابغًا، ثم صار مُسْتَشْرِقًا ومُتَرْجِمًا مرموقًا للغة الصينية. إلا أنه في الثالثة عشرة من عمره، كان يَسْهُل أن يَتَشَتَّت انتباهه. فعندما لم تكن عيناه منشغلتين عن أعمال تاسيتس بمتابعة بائعة الورد الجذَّابة التي تمرُّ عَبْر الشارع، كان يكرِّس نفْسه لرسم مَشَاهِدَ مِن أحلامه.
تملَّكه ذلك الولعُ، إلى حَدِّ أنه وَجَدَ نفسه — بعد ٢٠٠ ليلة متعاقبة من الملاحظة — في مَوْقِف غريب؛ إذ حَلَمَ بأنه يسجِّل أحلامه. أفاق مِنْ نَوْمه شاعرًا بالإحباط، وفكَّر: ماذا لو كان قد مضى إلى الأمام خطوة واحدة وتَمَكَّن من تحقيق الوعي الكامل بحالته أثناء الحلم؟ وكتب: «تخيَّلوا كمَّ التفاصيل الشيِّقة التي كان سَيُمْكِنُنِي أنْ أجْمَعَهَا!»
لم يُضْطَرَّ إلى الانتظار طويلًا حتى تُتَاحَ له فرصة أخرى. فبَعْد أسبوع، راوَدَتْه الرؤيا نَفْسُها التي يسجِّل فيها أحلامه، وفي تلك المرة أطلَّ الوعي برأسه داخل عَقْله الغافي. قال: «انتابني شعور أكيد بأنني أحلم.» وبعد خمسة عشر شهرًا، صار يرى أحلامًا واعية كل ليلة.
ظاهرة الأحلام الواعية وقدرة الأفراد على استثارة تلك الحالة داخِلَهم صارت الآن ظاهرة معروفة، لَكِنَّ ليكوك الشاب كان بصدد خَوْض طريق مجهول. وسرعان ما اكتشف أنَّ بإمكانه استحضار أشياء في أحلامه إلى جانب استكشافها. ففي إحدى الرؤى، وَجَدَ نفسه يَشْهَد مهاجَمة قاتلَيْن ملَثَّمَيْن امرأةً في شارعٍ مهجور. وإذ لم يكن بحوزته سلاح للدفاع عنها، استغرق لحظة في تخيُّل سَيْف «اليطقان» المعلَّق فوق المدفأة في منزله. «لم أَكَدْ أُعرِب لنفسي عن تلك الرغبة حتى وَجَدْتُ ذلك السلاح القاتل في يدي واستخْدَمْتُه بفعالية فائقة.» وفي مرة أخرى، وَجَدَ وحشًا يلاحقه في مَتاهة مكوَّنة من غُرَف متصلة. وفي النهاية استجْمَعَ إرادته ليلتفت إليه ويواجهه، فرآه «يصفِّر ويَتَقَافَز بطريقة بَدَتْ فُكَاهِيَّةً ما إن زال خوفي منه.» وتدريجيًّا تلاشى الوحش لتَحُلَّ مَحَلَّه «حزمة من الأسمال البالية معلَّقة في الهواء.»
سبر أغوار عالم الأحلام
في إحدى المراحل، حثَّت مغامراتُ الماركيز المتهورة بَطَلَهَا على أن يُولِيَ أحلامه قَدْرًا أكبر من الاهتمام العلمي. كان علماء النفس الأوائل قد شرعوا لِتَوِّهِمْ في استكشاف طبيعة العقل النائم، لكنه أَدْرَكَ أن مهاراته تُتِيح له فرصة فريدة لكي يَسْبُر أغوار عالم الأحلام من الداخل.
تَصَدَّر مسارَ رحلته تحديدُ منبع الأحلام. كان الروحانيون في ذلك العصر يظنون أنَّ الأحلام خارقة للطبيعة في أساسها، ولكنَّ الماركيز اقْتَرَحَ أنها تُجَمَّع من الذكريات القديمة. ومن أجل اختبار تلك الفكرة، كان يَتَوَقَّف في وسط رؤياه الواعية لتدوين تفاصيل الأشياء المحيطة به، مثل لافتات الشوارع وواجهات المَتَاجِر، ثم يُقَارِنُها عندما يستيقظ بمذكِّرات حياته اليومية. وبالفعل وَجَدَ أنَّ ثمة مصدرًا منطقيًّا لكل ما رآه؛ حتى الوحش المتقافز الذي رآه في الكابوس أمْكَنَهُ إرجاعُه إلى الرسوم المخيفة التي شاهَدَهَا منقوشة ببروز بسيط على جانب كاتدرائية.
إلا أنَّ ذلك لم يكن البرهان القاطع الذي رَغِبَ فيه؛ ولهذا قَذَفَ نفسه مِنْ أعلى تلك البناية الشاهقة في حلمه. كَتَبَ مبتهجًا: «القفز من نافذة في الطابق الخامس، أو تفجير رأسي، أو ذَبْح نفسي بشفرة الموسى كانت كلها بلا شك مَوَاقِفَ لم أتعرَّض لها في حياتي. فبمحاولة إثارتها في الحلم، أُخضِع عقلي لاختبار مثير للاهتمام.» وكان عَقْله دائمًا ما يتجنَّب تلك الوثبات إلى المجهول عن طريق تغيير المشاهد بكياسة. ورَغْم مُحَاوَلاته، لم يتمكَّن من اجتياز حواجز ذكرياته.
أدْرَكَ الماركيز أيضًا أنَّ الأحلام ليست مجرد عَرَض مكرَّر مُبَاشِر لحياته أثناء اليقظة، وإنما كثيرًا ما تَنْطَوي على تَجَاوُرٍ عجيب للشخصيات والأماكن، إلى حَدِّ أنَّ أحدها أحيانًا يتحوَّل إلى الآخر. وإذ تهيم خواطرنا، قد يَسْتَحْضِر أَحَدُ جوانب ذكرى بعينها ذكرى أخرى إلى الذهن، وهو إدراكٌ مُهِمٌّ يُلَمِّح إلى النظريات الحديثة المعنية بتعزيز الذاكرة. وبالنسبة إلى الماركيز، أتاح له ذلك الإدراك وسيلةً مُبْتَكَرة تمامًا لتزويد أحلامه بالمشاهد. فأثناء رحلة قام بها إلى جبال فيفاريه في جنوب فرنسا، أَغْرَقَ نفْسه برائحة عطر قوية. وما إن عاد إلى داره، أَغْلَقَ قِنِّينَة العطر وانتظر بضعة أشهر قَبْل أن يَطْلُب من خادمه أن يَرُشَّ العطر على وسادته في ليالٍ يختارها عشوائيًّا أثناء استغراق سَيِّدِه في النوم. في تلك الليالي، رأى في منامه أشجار الكستناء ومناظر الطبيعة الجبلية التي شاهَدَها في أسفاره.
مَلَكة غريبة في الإدراك الذهني
سرعان ما أَخَذَتْ تلك التجارب منحًى أكثر شهوانية بالنسبة للماركيز، الذي ظلَّ عازبًا حتى عمر ٤٦ عامًا. ففي رقصات البلاط، اتفق مع قائد الأوركسترا على عزف مقطوعات فالس بعينها أثناء مرافقته اثنين من أشهر السيدات في الحفل. وكثيرًا ما أفضى تشغيل تلك الألحان ذاتها في نومه إلى استحضار طَلْعَتِهِما البهيَّة أمامه. وفي مرة أخرى، راح يَلُوك جذور السوسن أثناء رَسْم امرأة شِبْه عارية في مشهد من كتاب «التحولات» لأوفيد. وعندما وَضَعَ خادمُه فيما بعد إحدى تلك الجذور في فَمِه وهو نائم، استحْضَرَ المذاقُ اللاذِعُ رؤيا للمرأة وهي تمثِّل دورًا في مسرحية، مرتديةً «زيًّا لم يكن ليحظى بقبول لجنة المسرح بالتأكيد.» وما تلى ذلك متروك لمُخيِّلَتِنا. فقد كتب: «الباقي لا يعنينا هنا.»
على الرغم من نجاحه، كان الماركيز مُحْبَطًا مِنْ عَجْزِه عن صياغة نظرية شاملة للنوم وعلاقته بخواطر اليقظة. وكان أعظم أعماله «الأحلام وكيفية توجيهها» الذي صَدَرَ عام ١٨٦٧ اعترافًا بالهزيمة في أساسه: «سوف أقدِّم الموادَّ اللازمةَ لبناء هيكل نَظَرِيٍّ أُضْطَرُّ إلى تَرْك إقامته وإتمامه لمعمارِيٍّ أكثر موهبةً مِنِّي.»
وللأسف استخدم أولئك المعماريون الذين جاءوا مِنْ بَعْده أُسُسًا مختلفة تمامًا. فعلى ما يبدو، أثار كتاب ماركيز فُضول سيجموند فرويد، لكنه لم يَتَمَكَّن من الحصول على نسخة منه. كانت نظريات التحليل النفسي التي وَضَعَهَا تَسْتَهْدِف تفسير الأحلام على أنها رَمْز للرغبات المكبوتة، وفي النهاية اسْتَدْرَجَ تفسيرَ الأحلام إلى دائرة المجالات العلمية المشبوهة. ولم يتمكن الباحثون من إعادة بناء الأحلام شيئًا فشيئًا في صورة مجالٍ جادٍّ سوى لدى اختراع وسائل «قراءة الأفكار» التكنولوجية، مثل مخطِّط كهربية الدماغ والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي.
أثناء سير الباحثين على ذلك الطريق، وَجَدَ بَعْضُهُمْ المخططات النموذجية لنظرياتهم في كتاب الماركيز. تقول سوفي شوارتز من جامعة جنيف في سويسرا، التي وَجَدَتْ نسخة قديمة من كتابه في مكتبة جامعة كاليفورنيا ببيركلي على سبيل المصادَفة: «كِدْتُ أَقَعُ في غرام هذا الشخص.» وأضافت: «كان أسلوبه فائق الحداثة … كان يَرْبِط بين الأفكار بأسلوبٍ وَجَدْتُهُ شيِّقًا للغاية.»
على سبيل المثال، ظَهَرَ في الصور المأخوذة للدماغ في الآونة الأخيرة أنَّ الحُصَين — الذي يجمِّع أُولَى ذكرياتنا عن الحدث — يتزايد نشاطه إلى حد كبير أثناء النوم. ويبدو أنه يَنْقُل الذكريات إلى مناطق أخرى من الدماغ حتى تُخزَّن في صورة ذكريات طويلة المدى. على الأرجح يتضمَّن جزء من تلك العملية رَبْطَ الخبرات القديمة بالحديثة مِنْ أَجْل تكوين الذكرياتِ وثيقةِ الارتباط ببعضها، القائمة على التجارب الشخصية، وربما بثهما معًا في عالم الأحلام في صورة التوليفات الغريبة التي ذَكَرَهَا الماركيز.
بل إنَّ بعض التجارب حاوَلَتْ تعزيز استرجاع المشاركين فيها لذكرياتهم عن طريق إمداد عقولهم الغافية بروائح وأصوات مرتبطة بذكرياتٍ بعينها، وذلك في إطار دراسات شديدة الشَّبَه بالتحريات التي كان الماركيز يُجْرِيها. وبَعْدَهَا، عَكَفَ الباحثون على إعادة النظر في الأحلام الواعية بُغْيَة فَهْم ما يَحْدُث عندما يصير شخص — داخل حلم — مُدْرِكًا لحقيقة أنَّه يحلم. يقول هوبسون إن الأحلام الواعية قد تكون ذات أهمية فلسفية؛ إذ إنَّ الصفات الراقية مثل الوعي الذاتي والشعور بالقدرة على الفعل اللذين يميِّزان الأحلام الواعية (ولكنهما لا يميزان الأحلام العادية) بَالِغَة الأهمية أيضًا للوعي لدى البشر.
ما توصَّلنا إليه حتى الآن يشير إلى أنَّ الإدراك الواعي مُرْتَبِط بنشاطٍ عالي التردد في الفص الجَبْهِيِّ والفص الجدارِيِّ للدماغ. لذا فإن فَهْم ما تنطوي عليه تلك المناطق من صِلَاتٍ وعمليات معالجةٍ وتطوراتٍ يُمْكِن أن يفسِّر كيفية تكوين العقل لدرجةٍ أعلى من الوعي. وقد يُزِيل الغموضَ أيضًا عن توقيت أُولَى احتكاكات ليكوك مع الأحلام الواعية؛ فالأطفال والمراهقين الصغار يَزِيد لديهم احتمال رؤية تلك الأحلام تلقائيًّا على ما يبدو؛ ربما لأن عملية إعادة بناء الدوائر العصبية في ذلك العمر تحفِّز زيادة النشاط في المناطق الجبهية من الدماغ.
في الوقت نفسه، يُمْكِنُنا جميعًا أن نَسِير على خطى الماركيز ونتعلَّم أن نَحْلُم أحلامًا واعية، وإن كنَّا لن نَرْغَب في بلوغ حدِّ محاولةِ قَذْف أَنْفُسِنا مِنْ أعلى البنايات الشاهقة. حتى مع قضاء الماركيز آلاف الليالي في الاستكشاف، كان واثقًا أنه ما زال على أول طريق عالَم الأحلام. وكتب: «كلٌّ منَّا يمكن أن يجد في أحلامِ ليلةٍ واحدةٍ مادَّةً كافيةً لمِلْء عامٍ كاملٍ من الوجود. فالمُرَاقِب العملِيُّ ما زال أمامَه عالَم كامل يَغْزُوهُ.»