في القرن الحادي والعشرين، قد يبدو كأننا في المستقبل بالفعل، لكننا لا نزال على أول الطريق. تأخذنا مجلة «نيو ساينتيست» في جولة في ثنايا الحقبة القادمة، من اللغة التي سوف نتحدَّث بها إلى ماذا سيفهم أحفادنا من النفايات التي سنخلفها لهم. فالمستقبل البعيد قد بدأ لتوه …
كيف ستتطور لغتنا؟ (بقلم: ديفيد روبسون)
بالنظر إلى التغير السريع الذي طرأ على لغتنا خلال فترة لا تتجاوز بضعة آلاف من السنين، تُرى كيف ستبدو اللغة بعد عشرات الآلاف من السنين؟
إذا عثر أحفادكم على هذه الصفحة وقد اصفرَّت وتجعدت بعد مضي آلاف السنين من الآن، فسوف يتعذر عليهم فهم الكثير من كلماتها، حتى إذا كانوا ممن يتحدثون اللغة عينها التي كُتِبت بها هذه الكلمات. فنحن على أي حال نفك شفرة النصوص المكتوبة باللغة الإنجليزية القديمة مثل ملحمة «بيوولف» بشق الأنفس. قد يتسنَّى لك فهم عبارة بطل الملحمة التي قال فيها: Béowulf is mín nama (اسمي بيوولف) إلا أن تطور اللغة عبر الألفية طمس معنى عبارة grimma gaést Grendel ومعناها: «جرندل الوحش المريع».
اسمي بيوولف.
إذا كانت لغتنا قد تغيرت إلى حد يكاد يصعب معه تعرُّفها خلال ألف عام فحسب، فكيف سيكون حالها بعد مضي عشرات الآلاف من السنين؟ فاللغات تتشكل إلى حد بعيد وفقًا لأهواء المتحدثين التي يصعب التنبؤ بها، غير أن دراسة القوى التي تواجه لغتنا، تمكننا من التكهن بأسلوب أحفادنا في الحديث.
والسؤال الأبرز يتعلق بما إذا كانوا سيستخدمون اللغة الإنجليزية من الأساس. فعلى الرغم من أن الإنجليزية هي اللغة الشائعة في العالم، إلا أن شعبيتها ترتكز إلى حد بعيد على الأهمية الاقتصادية الحالية التي تتمتع بها البلدان الناطقة بها. فإذا كان لبلد آخر أن يسيطر على التجارة العالمية، فقد يُقْدِم أحفادنا جميعًا على تعلم لغته. وفي تلك الحالة، من المرجح أن يبدءوا في إدراج بعض ألفاظه في لغتهم الخاصة — مثلما يقول الإيطاليون إنهم سيستمعون إلى «بودكاست» (ملف إعلامي رقمي) على «التابلت» (الكمبيوتر اللوحي) الخاص بهم أثناء «الويك إند» (عطلة نهاية الأسبوع). ولكن اللغات ذات الشعبية الواسعة عادةً ما تقاوم الغزو؛ لذا ليس ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن اللغة الإنجليزية سوف تختفي تمامًا.
الأرجح أن اللغة ستتفتت وتتشظى. نحن بالفعل نرى لهجات جديدة تتشكل في العديد من المستعمرات البريطانية السابقة، مثل سنغافورة وجامايكا. فبفضل الهجرة والإنترنت ووسائل الإعلام، تتردد كلمات من تلك اللهجات في أرجاء العالم الناطق بالإنجليزية، مثلما يُلاحظ في التنويعات اللغوية الجامايكية التي نجحت في النفاذ إلى اللهجة العامية في لندن، مثل استخدام لفظة buff بمعنى جذاب، ولفظة batty بمعنى الأرداف. وبمرور وقت كافٍ، قد تتشعب تلك اللهجات تمامًا، وفي تلك الحالة قد تئول اللغة الإنجليزية مآل اللغة اللاتينية، التي ماتت ولكنها خلَّفت لغات عدة.
فهل تجعل تلك التحولات الكبيرة مسألة التنبؤ بمستقبل اللغة الإنجليزية بأي قدر من الدقة أمرًا مستحيلًا؟ الأكيد أن تلك اللغة آخذة في التغير بسرعة كبيرة حاليًّا؛ فقاموس أكسفورد للغة الإنجليزية يضيف ما بين ٢٠٠٠ و٢٥٠٠ كلمة كل عام، على حد قول ديني هيلتون كبير محرري هذا القاموس. ولكن ربما كان ثمة آلاف الكلمات الجديدة التي لا تجذب انتباه مؤلفي قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية. فعندما عكف إيريز ليبرمان أيدن وجان باتيست ميشيل في جامعة هارفرد على دراسة مجموعة كتب جوجل الرقمية من القرن الماضي، توصلا إلى أن حوالي ٨٥٠٠ كلمة جديدة تدخل اللغة سنويًّا، والعديد من تلك الكلمات تكون نادرة الاستخدام مثل: postcoarctation (ما بعد تضيُّق الأبهري)، وreptating (الحركة الثعبانية لمادة البوليمر)، وsubsectoral (قطاعي فرعي).
بقاء اللغة مرهون باستخدامها
من خلال تأمل الشوط الذي قطعته اللغة الإنجليزية منذ ملحمة «بيوولف» يمكننا على الأقل أن نتعرف على بعض الاتجاهات التي قد تستمر. على سبيل المثال، قد تفتقر قواعد اللغة في المستقبل إلى بعض الفروقات الطفيفة التي تحكم الجمل الواردة في هذه الصفحة. فقد فقدنا بالفعل العديد من القواعد الحاكمة للغة ملحمة «بيوولف»؛ فعلى سبيل المثال لم تعد الأسماء الإنجليزية تُذكَّر وتؤنَّث.
واليوم، يمكن رؤية ذلك التبسيط المتواصل في طريقة استخدام زمن الماضي البسيط، فثمة الكثير من الأفعال الشاذة لا تحمل صيغةُ الماضي منها النهاياتِ المعتادةَ؛ فعلى سبيل المثال، نقول left وليس leaved. إلا أن الزمن آخذ في ترويض تلك الأفعال الشاذة ببطء، والنتيجة تتوقف على مدى شيوع تلك الأفعال. فبدراسة نصوص إنجليزية كُتبت خلال الألف سنة الماضية، لاحظ ليبرمان أيدن وميشيل أنه كلما قلَّ استخدام الفعل زاد احتمال تحوله إلى فعلٍ عادي. يقول ليبرمان أيدن: «إذا كانت الكلمة نادرة، لا نتذكر دائمًا هل هي شاذة أم لا.» فنفترض أنها تتبع نسق الأفعال المألوفة أكثر لدينا.
الفعل to wed (يتزوج) — الذي لا يستخدم حاليًّا إلا في سياقات محدودة جدًّا — دخل في خضم عملية التغيير بالفعل. فعلى سبيل المثال صار الناس يقولون newly wedded عوضًا عن newly wed (كلاهما بمعنى «متزوج حديثًا»)، وإنْ ظل آخرون أكثر عنادًا. وقد شرع ليبرمان وميشيل، بعد اكتشافهما كيفية تأثير شيوع الكلمة على احتمالات تعرضها لتغيير لغوي، في التنبؤ بالعمر الافتراضي لأفعال شاذة بعينها في المستقبل. فمثلًا — نظرًا لندرته النسبية — ثمة احتمال يعادل ٥٠ في المائة أن يصبح الفعل الماضي الشاذ slunk (انسلَّ أو تسلل) ذا تصريف عادي slinked في غضون ٣٠٠ عام.
أما الفعلان to be (يكون) وto have («يحوز» ضمن معانٍ أخرى) — اللذين يستخدمان مرة كل عشر جمل تقريبًا — فيقدَّر عمرهما النصفي بحوالي ٤٠ ألف سنة (مجلة نيتشر، المجلد ٤٤٩، صفحة ٧١٣). ويتكهَّن الباحثون بأن صيغ الجمع الشاذة ستسير في خط مشابه — فقد تتحول men (رجال) إلى mans مثلًا — وإن كانوا لم يختبروا تلك الفكرة بعدُ.
ويمكننا بالمثل أن نتنبأ بالكلمات التي ستطيح بها صياغات أو مصطلحات جديدة واردة من لغة أخرى. فبدراسة التطور اللغوي الذي طرأ على اللغات الهندية الأوروبية، توصل مارك بيجل بجامعة ريدنج في المملكة المتحدة إلى أن ذلك الأمر يعتمد بدوره على معدل تكرار الكلمة؛ فكلما ازدادت الكلمة شيوعًا طال عمرها (مجلة نيتشر، المجلد ٤٤٩، صفحة ٧١٧). ويُعزَى ذلك جزئيًّا إلى أن احتمالات استخدامنا للفظة خطأ تكون أقل إذا كنا نسمع اللفظة الصحيحة بالقدر الكافي.
ويذهب بيجل أيضًا — في كتابه المنتظَر «ثقافات متأصلة» — إلى أن الكلمات تطورت لكي تتواءم مع الغرض منها — فإذا كانت شائعة وتعبِّر عن مفاهيم مهمة، تكون وجيزة ويسيرة. فتلك الكلمات — في رأيه — «صالحة للغاية»، بالقياس على نظرية داروين. ويردف قائلًا: «يصعب أن تزيحها كلمة جديدة.»
ويمكن رؤية ذلك في تصريح «بيوولف». فمن الواضح أن لفظة nama ظلت باقية في صورة name، فهي كلمة واسعة الشيوع الآن وحينها. وتتمتع الأرقام وأدوات الاستفهام وغيرها من الأسماء البسيطة بقوة مشابهة تمكنها من البقاء.
فإن كان أحفادك يتحدثون بصورة من صور الإنجليزية فعلًا، وكان هناك احتمال لأن يقرءوا هذه الصفحة، فربما يستشفُّوا معنًى ما من جمل بسيطة مثل what is your name? (ما اسمك؟) أو I drink water (أنا أحتسي الماء). وثمة احتمال ضئيل أن يستوعبوا حتى عبارة Hello from the year 2012 (تحية لكم من العام ٢٠١٢).
ماذا سيعرف أحفادنا عنا؟ (بقلم: بوب هومز)
أي آثار دالَّة على أسلوب حياتنا اليوم سيكتشفها علماء الآثار في الألفيات القادمة؟ ماذا سيبقى، وماذا سيفنى؟
في المستقبل البعيد، عندما يشرع البشر في رسم صورة لحضارة ٢٠١٢ البدائية، من المؤكد أن علم الآثار سيكون هو السبيل الأمثل لذلك. فعلى كل حال، حريق واحد من شأنه أن يدمِّر أفضل المكتبات والأرشيفات والمتاحف، وعادة ما يُساق مصير مكتبة الإسكندرية كمثال على ذلك.
آثار باقية.
تُرى ما الذي سيكتشفه علماء الآثار عنا، أثناء عملهم مستقبلًا بعد مرور ١٠٠ ألف عام من الآن؟ لن ينجو من السحق أو البعثرة أو إعادة التدوير أو التحلل سوى القطع الأثرية الأوفر حظًّا. أما أنت شخصيًّا، فيكاد يكون من المؤكد أنك لن تخلِّف شيئًا يدوم كل تلك الفترة. ولمعرفة السبب، فقط عُد بالزمن في الاتجاه المعاكس لنفس الفترة الزمنية. منذ حوالي ١٠٠ ألف عام، كان الإنسان الحديث من الناحية التشريحية قد خرج لتوه من أفريقيا بغية تعمير العالم، وأغلب ما نعلمه عن ذاك الإنسان هو من قبيل التخمين، لأن آثاره المتبقية هي أدوات حجرية حادة وحفنة من الحفريات فحسب.
من المستبعد جدًّا أن تخلِّف وراءك عظامًا. فعملية التحجُّر حدث نادر للغاية، لا سيما بالنسبة إلى الحيوانات الأرضية مثلنا، وإن كان لا شك في أنه مع وجود سبعة مليارات نسمة على هذا الكوكب، فسيتحقق لقلة منا على الأقل شهرة دائمة.
ستكون «الحفريات الفورية» هي الأكثر حظًّا وندرة؛ فهي تتشكل لدى موت البشر أو الحيوانات في البِرَك والمستنقعات الموسمية الغنية بالكالسيوم أو في الكهوف. وفي كلتا الحالتين، يمكن أن تتحول العظام إلى معدن بسرعة تكفي لتحجرها بدلًا من تحللها، حسب قول كاي بيرنزماير عالمة الحفريات لدى المتحف الوطني الأمريكي للتاريخ الطبيعي في واشنطن العاصمة. فقد تشبعت عظمة من أحد سنابك ثور النو في جنوب كينيا بكربونات الكالسيوم بسرعة بالغة، حتى إنها بدأت تتحجر خلال عامين من نفوقه.
في المستقبل، لن يبحث عنا المنقبون عن الحفريات في المقابر؛ إذ إن الأجساد المدفونة هناك تتفتت وتصير ترابًا خلال بضعة قرون. الأرجح أن توجد أغنى الطبقات بالعظام الآدمية في حطام الأحداث الكارثية، مثل الغبار البركاني أو الرواسب الدقيقة المتخلِّفة عن فيضانات تسونامي الأخيرة في آسيا، على حد قول بيرنزماير. وقد تتحول بعض الأجساد إلى مومياوات في المستنقعات أو الصحاري العالية، ولكنها ستتحلل إذا ما تغيرت الظروف، وهو أمر مرجَّح الحدوث على مدار فترة المائة ألف عام.
ستؤدي تلك التغيرات ذاتها إلى إهدار آثار مهمة أخرى دالَّة على حضارتنا؛ وهي آثار منازلنا. فالتغير المناخي وارتفاع مستويات سطح البحر من المرجح أن يتسببا في إغراق المدن الساحلية مثل نيو أورليانز وأمستردام. في تلك الحالات، من المتوقع أن تقضي الأمواج على أجزاء من المباني الظاهرة فوق سطح الأرض، وسرعان ما ستُدفَن الأقبية والدعائم تحت الرواسب. وفي حين أن الهياكل الخرسانية قد تذوب مع مرور آلاف السنين، سوف يتعرف علماء الآثار على الأنماط المستطيلة الدقيقة للرمل والحصى التي ستظل علامة على تصميمٍ صنعته يدُ الإنسان. يقول جان زالاسيفيتش، عالم الجيولوجيا بجامعة ليستر في المملكة المتحدة: «لا يوجد في الطبيعة مثيل للأنماط التي نصنعها مطلقًا.»
بناء جيولوجيتنا الخاصة
لن تكون تلك التصاميم أوضح مما هي في أبنيتنا الكبرى. فبعض القطع الأثرية البشرية — مثل مناجم الحفر المفتوحة — صارت بالفعل معالم جيولوجية أساسية، وستظل باقية لمئات الآلاف من القرون شاهدةً على طاقات الحفر المتوافرة لدينا. وتحتوي أضخم السدود لدينا — كسد هوفر في الولايات المتحدة وسد الخوانق الثلاثة في الصين — كمًّا هائلًا من الخرسانة حتى صار أكيدًا أن بعض أجزائها ستدوم طويلًا بدورها، على حد قول ألكسندر روز، المدير التنفيذي لمؤسسة «ذا لونج ناو فاونديشن»، التي يقع مقرها في سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا. بل إن بعض الأبنية — أبرزها مستودع أونكالو للنفايات النووية في أولكيليوتو بفنلندا — تُصَمَّم بحيث تظل على حالها ١٠٠ ألف عام.
وقد انخرطنا أيضًا في تشييد تراث مهيب آخر سيمثِّل الحصاد الأوفر بحق لعلماء الآثار في المستقبل؛ نفاياتنا. فمكبات النفايات التي تئول إليها معظم سلعنا تكاد تكون هي المكان الأمثل للحفظ الطويل الأجل. فعند امتلاء مكبات النفايات الحديثة، عادةً ما تُغلَق بطبقة غير مُنفِذة من الطمي، بحيث سريعًا ما تصير محتوياتها خالية من الأكسجين، العدو الأكبر للحفظ. يقول مورتون بارلاز بجامعة ولاية كارولاينا الشمالية في رولي: «أظنه من المناسب أن أقول إن تلك المكبات ستظل خالية من الهواء على مدار حقب جيولوجية.» وفي ظل تلك الظروف، حتى بعض المواد العضوية مثل المنسوجات الطبيعية والأخشاب يُرجَّح ألا تتعرض لعملية تحلل، وإن كانت ستتحول تدريجيًّا عبر آلاف السنين إلى ما يشبه الخث أو الفحم القاري، حسبما يقول جان بوجنر خبير المكبات بجامعة إلينوي في شيكاجو.
عدد قليل من المواد سوف يحتفظ بهيئته تمامًا. فلم يعد ما نصنعه من الحجر كثيرًا، ولكن بعض التماثيل قد تبقى، مدفونة بأمان بعيدًا عن التآكل. ويُتوقَّع أن تدوم الأطباق وأكواب القهوة المصنوعة من الخزف إلى ما لا نهاية بدورها، مثلما دامت قطع الأواني الخزفية من الحضارات الإنسانية القديمة. بعض المعادن — مثل الحديد — سوف تتآكل سريعًا، ولكن التيتانيوم والفولاذ المقاوم للصدأ والذهب وغيرها من المعادن ستدوم أمدًا أطول بكثير. فذهب الملك توت عنخ آمون — على أي حال — يبدو على حالته الأصلية تقريبًا بعد مرور ٥ آلاف عام. يقول روز: «ليس ثمة ما يستدعي التفكير في أن الوضع سيختلف بعد ١٠٠ ألف عام.» الواقع أن حقائب أجهزة الكمبيوتر المحمولة المصنوعة من التيتانيوم — بعد تآكل محتواها بأمد بعيد — قد ينتهي بها المطاف لتصير أحد أطول القطع الأثرية المنتمية إلى حضارتنا عمرًا. ومن يدري، فقد يبني باحثو المستقبل نظريات مفصَّلة عن ممارساتنا الدينية استنادًا إلى تلك الأجهزة اللوحية المفرغة وشكل التفاحة المثبَّت على سطحها.
والحقيقة هي أنه مهما حاولنا الحفاظ على التراث من أجل الأجيال القادمة، فلن يسعنا أبدًا معرفة أي جوانب حضارتنا ستثير اهتمام أحفادنا. فحاليًّا — على سبيل المثال — تتأثر دراستنا للإنسان القديم بنظريات داروين، وهي وجهة نظر لم يكن من الممكن تصورها من قرن واحد فقط. فحتى إن نجت الأشياء المعروضة في متاحفنا، فهي لن تُطلِع أجيال المستقبل إلا على رؤيتنا لأنفسنا، أما رؤيتهم لنا فذاك شيء لا يمكن لأي شخص يقرأ هذا النص اليوم أن يتنبأ به.
كأس متواضعة
يقولون إن الماس يدوم إلى الأبد، لكنك قد لا تتوقع أنه إلى جانب تلك الجواهر البراقة، ثمة احتمال كبير أن يعرض أحد متاحف المستقبل فناجين القهوة المصنوعة من البوليسترين (الفوم).
يُعزَى ذلك إلى أن حبيبات البوليسترين المشتقة من النفط لا يمكن لأي كائن مجهري معروف أن يحللها عضويًّا. فيمكن لتلك المادة أن تعمِّر مليون سنة.
بيْد أنه في البرية من المرجَّح أن تتفتت الأكواب لتصير كتلًا غير مميزة. وإذا نجحت الجهود المبذولة حديثًا لتحوير فطريات يمكنها أن تحلل البوليسترين، حتى تلك الأكواب ستزول. لكن إذا حُفِظَت في مكب للنفايات دون المساس بها لآلاف السنين، فإنها سوف تحتفظ بشكلها بما يكفي لأن يتاح لعلماء آثار المستقبل استنتاج الغرض من استخدامها.
أين سنعيش؟ (بقلم: مايكل لي بيدج وجيف هيكت)
حركة الألواح التكتونية والبراكين وارتفاع مستوى سطح البحر ستعيد تشكيل عالمنا. فكيف سيبدو وأين سنعيش؟
تجلب مراكب الصيد في بحر الشمال بعض الأشياء العجيبة في شباكها، من عظام حيوانات الماموث إلى أدوات وأسلحة حجرية عتيقة. وما زلنا نكتشف هنا وفي أماكن أخرى عدة حول العالم، بقايا مستوطنات بشرية فوق ما قد أصبح الآن قاع البحر. فبتغير العالم عقب العصر الجليدي الأخير، اضطر العديد من أجدادنا إلى هجر ديارهم. وخلال الألف عام التالية — ناهيك عن ١٠٠ ألف عام — سيتغير العالم تغيرًا جذريًّا من جديد، ما يجبر مليارات الناس على إيجاد مكان جديد للسكنى.
بعد ١٠٠ ألف عام ستُضاف إلى هاواي جزيرة أخرى.
من شأن بعض البقاع أن تحارب من أجل البقاء، حتى إن ظل مستوى البحر ثابتًا. فقد اختفت مدينة هيراكليون المصرية القديمة أسفل البحر المتوسط منذ ٢٠٠٠ عام إثر هبوط رمال الدلتا الناعمة التي أُقيمت عليها، والشيء ذاته يحدث لمدن حديثة مثل نيو أورليانز وشنجهاي. وفي ميامي وغيرها من الأماكن، ما انفكت البحار والأنهار تجرِّف الأراضي التي أُقيمت عليها المدن.
وفي حال استقرار المناخ، قد يكون إنقاذ مثل تلك المدن ممكنًا، ولكن مع استمرار ارتفاع درجة حرارة العالم، من المتوقع أن يتسبب ارتفاع مستوى سطح البحار في إغراق العديد من مدننا الساحلية، فضلًا عن أراضٍ زراعية كثيرة. وسيؤثر تغير المناخ كذلك على الأشخاص الذين يعيشون على ارتفاعات أعلى كثيرًا من مستوى سطح البحر، جاعلًا بعض المناطق غير صالحة للسكنى، وإن كان سيتيح فرصًا جديدة في أماكن أخرى. لا ندري بالضبط إلى أي مدى سترتفع درجة حرارة العالم، ولكن دعونا نفترض أن الأحداث ستسلك منحى سيناريو «بقاء الوضع على ما هو عليه» الذي تصوره الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، مع استمرار نمو انبعاثات غازات الدفيئة حتى عام ٢١٠٠ ثم انحسارها بسرعة. ولنفترض أيضًا أننا لن نُقدِم على إجراء أي نوع من الهندسة الجيولوجية.
النتيجة الأكثر أرجحية هي أن متوسط درجة الحرارة العالمية سيرتفع حوالي ٤ درجات مئوية قرابة عام ٢١٠٠ عن المستوى الذي ساد في عصر ما قبل التصنيع، ويبلغ هذا المتوسط ذروته ٥ درجات مئوية في وقت ما من القرن الثالث والعشرين (وإن كان ثمة احتمال كبير بأن ترتفع الحرارة أكثر من ذلك كثيرًا). ستظل الحرارة مرتفعة أيضًا، لأن كوكبنا سوف يستغرق ٣٠٠٠ عام أو ما شابه كي تنخفض درجة حرارته درجة واحدة مئوية.
قد يعني ذلك أن يتلاشى الغطاء الجليدي في جرينلاند في غضون ألف عام، ويتبعه الغطاء الجليدي في غرب أنتاركتيكا (القارة القطبية الجنوبية) إلى البحر، رافعًا مستوى سطحه بما يفوق عشرة أمتار. هذا لا يبشر بخير إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المناطق الساحلية يسكنها الكثير من سكان العالم، بما في ذلك العديد من المدن الكبرى السريعة النمو. وسوف يؤدي ارتفاع مستوى سطح البحر إلى نزوح مليارات الأشخاص.
لكن على الأقل يُرجَّح أن تحدث تلك العملية تدريجيًّا، وإن كان من المحتمل أن تحدث كوارث بين الحين والآخر حين يحطم المد الناجم عن العواصف حواجز الحماية من الفيضانات. وفي النهاية سيغمر الماء مناطق كبيرة من فلوريدا، والساحل الشرقي وساحل الخليج في الولايات المتحدة، وكذلك هولندا، والمملكة المتحدة. ثمة دول جزرية ستختفي تمامًا من سطح البسيطة، وستختفي مدن العالم الكبرى جزئيًّا أو كليًّا تحت الأمواج، بما في ذلك لندن ونيويورك وطوكيو.
وفي الوقت الذي يأخذ فيه الغطاء الجليدي الضخم في شرق أنتاركتيكا في الذوبان ببطء، سيرتفع مستوى سطح البحر. ومع كل ارتفاع في الحرارة مقداره درجة مئوية واحدة، قد يرتفع مستوى سطح البحر في النهاية من ٥ أمتار إلى ٢٠ مترًا. لذا خلال ٥ آلاف عام، ثمة احتمال كبير أن يرتفع البحر عن مستواه الحالي بما يفوق ٤٠ مترًا.
حتى أولئك الذين يعيشون على ارتفاع أعلى كثيرًا من مستوى سطح البحر قد يضطرون إلى النزوح؛ فبعض المناطق — منها أجزاء في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية — قد يبلغ بها الجفاف مبلغًا يحول دون الاشتغال بالزراعة فيها أو إقامة مدن كبيرة بها. وفي مناطق أخرى، قد تجبر الفيضانات الناس على الرحيل.
وسيُسفِر أي ارتفاع آخر في درجات الحرارة عن مشكلات كارثية؛ فارتفاع الحرارة بمعدل ٧ درجات مئوية سيزيد الحرارة والرطوبة في بعض المناطق المدارية إلى حد يعجز معه البشر عن الحياة دون أجهزة تكييف الهواء. أما إذا ارتفعت الحرارة بمعدل ١١ درجة مئوية، فستصبح أجزاء كبيرة من شرق الولايات المتحدة والصين وأستراليا وأمريكا الجنوبية، وشبه القارة الهندية بأكملها، غير صالحة للسكنى (انظر الخريطة).
قيظ تستحيل معه الحياة: إذا ارتفعت درجات الحرارة عالميَّا ١١ درجة مئوية في المتوسط، فستتعرَّض مناطق كبيرة لحرارة ورطوبة لم ترهما الأرض حتى يومنا هذا، وتصير بذلك غير صالحة للسكنى فعليًّا.
لكن المستقبل سيتيح مناطق سكنية جديدة. ففي أقصي الشمال، قد تصير غابات التندرا والصنوبر الجرداء حاليًّا أراضي زراعية خصبة. وإضافة إلى ذلك، ستظهر أراضٍ جديدة لدى ذوبان الغطاءات الجليدية.
وقد يؤدي الاندفاع نحو استغلال موارد صخر الأديم الذي كُشف حديثًا في أنتاركتيكا — على سبيل المثال — إلى التشجيع على الاستقرار في مناطقها الساحلية. (انظر الخريطة) فإذا ظلت حرارة أنتاركتيكا مرتفعة لفترة طويلة بما فيه الكفاية، فقد تعود قارة خضراء يانعة مكسوة بالغابات. وفي غيرها من المناطق، ستنبثق رقع أراض جديدة من المحيط في غضون مئات الآلاف من السنين، ربما تكون مناسبة للاستيطان البشري (انظر الجزء بعنوان «ها هو البر!»)
الإمكانات القطبية: إذا ذاب الغطاء الجليدي لقارة أنتاركتيكا، فقد تجتذب مساحة الأرض الشاسعة أسفله مستوطنين من الأقطاب كافة.
وفي مرحلة ما قد يتمكن أحفادنا من التحكم في المناخ العالمي، ولكن استعادة الغطاءات الجليدية وخفض مستويات سطح البحر من جديد سيستغرقان آلاف السنين. وعندما نكون في وضع يتيح لنا ذلك، قد يكون بعض الناس قد راقت لهم الحياة كما هي. فمواطنو جمهورية أنتاركتيكا الفخورون سيحاربون أي تدابير من شأنها أن تسفر عن سحق الجليد لمزارعهم ومدنهم.
ها هو البَرُّ!
«سوف تنبثق بلدان جديدة من البحر، وقد آن أوان الشروع في تأليف أناشيدها الوطنية.»
على مر التاريخ، كان المستكشفون يضعون أعلامهم على الأراضي البِكر. واليوم لم يتبقَّ تقريبًا أي بقعة على وجه الأرض لم تطأها أقدامنا، لكن هذا الوضع لن يدوم.
فحركة الألواح التكتونية والنشاط البركاني يخلقان على نحو متواصل أراضي جديدة. فعلى سبيل المثال، من المرجح أن يجد المستوطنون في المستقبل أن هاواي أُضيفت إليها جزيرة أخرى. فعلى مدى ما يربو على ٨٠ مليون عام، ما برحت «بقعة ساخنة» من حمم متصاعدة من أعماق الأرض تخترق قاع المحيط الهادئ لتشكِّل سلسلة من الجزر على القشرة المتحركة فوقها. معنى ذلك أن جزيرة هاواي الكبرى سيصير لديها قريبًا أخت صغرى قبالة ساحلها الجنوبي، ناشئة عن بركان مغمور اسمه «لويي». فهي آخذة في النمو بسرعة، ويُتوقَّع أن تظهر في غضون ١٠٠ ألف عام، اعتمادًا على معدل ارتفاع مستوى سطح البحر، ويتوقع علماء الجيولوجيا أن قمتها ستعلو في النهاية فوق قمم أخرى في سلسلة جزر هاواي.
وعلى المدى البعيد جدًّا، يمكن أن ينضم إلى أوروبا وأفريقيا مساحات شاسعة من الأراضي الجديدة، ويُعزَى ذلك إلى أن أفريقيا آخذة في التحرك في الاتجاه الشمالي الشرقي بمعدل يقارب ٢٫٥ سنتيمتر سنويًّا، وهو ما يجعلها تقترب حوالي سنتيمتر كل سنة من أوروبا التي تتحرك في الاتجاه ذاته. وفي الأساس، قد يُسفِر ذلك التحرك عن إغلاق مضيق جبل طارق خلال المليون سنة المقبلة. فبدون تدفق مياه المحيط الأطلنطي، من شأن البحر المتوسط أن يتبخر في نهاية المطاف، ومن شأن دول جنوب أوروبا وساحل شمال أفريقيا أن تتمدد فعليًّا عبر قاع البحر — الذي انكشف حديثًا — حتى تتصل إحداها بالأخرى.
فإن كان أحفادنا ما زالوا على قيد الحياة بعد حوالي مليون سنة من الآن، فقد يكون عليهم أن يتوصَّلوا إلى كيفية اقتسام أجزاء جديدة كاملة من العالم.