Skip to main content

قواعد اللعبة الجنسانية

حتى الطفل في الرابعة من العمر يعلم ما «الملائم» لنوع جنسه. فيحرص البنون على تأكيد ذكورتهم، والبنات اللائي يحاولن اللعب بمكعبات الليجو يجدن أن البنين قد استولوا عليها بالفعل.

إن الجنس ونوع الجنس مصطلحان كثيرًا ما يُستَخدَمان بالتبادل. ولكن الأصح أن يشير الجنس إلى الاختلافات البيولوجية بين الذكر والأنثى، ويشير نوع الجنس إلى إنشاء المجتمع منظومة تعرِّف ما هو ذكوري وما هو أنثوي. ويتشرَّب الأفراد تلك المنظومة لينشئوا هوياتهم الجنسانية. وعلى الرغم من كم الأبحاث المعنية بالقضايا الجنسانية التي أُجريت على المدارس الثانوية والإعدادية والابتدائية، فقليلون هم من درسوا كيفية تطور نوع الجنس في دور الحضانة، التي يدخلها الأطفال في بريطانيا في الفترة ما بين الرابعة والخامسة من عمرهم. قد يعكس ذلك اعتقادًا في براءة الأطفال الجنسية، إلا أن ثمة أسباب أيديولوجية ومفاهيمية أيضًا وراء ذلك القصور. فكثيرًا ما ينظر البالغون والآباء والمعلمون إلى الجنس ونوع الجنس على أنهما أمران طبيعيان لا يسببان مشكلة، فالتعبيران المعتادان هما «البنون سيظلون بنين، والبنات سيظللن بنات.»

منذ أكثر من ٨٠ عامًا، رفض سيجموند فرويد الرأي المتعارف عليه والزاعم أن الميول الجنسية محددة بيولوجيًّا. وشكَّك في الرأي القائل: إن هوية الطفل الجنسية «تتجلى» بصورة حتمية في اتجاه أو آخر. واقترح فرويد في المقابل أن الأطفال يكوِّنون هوية نفسية جنسية من ازدواجية ميل جنسي كامنة، وذلك من خلال الخبرات التي يتعرضون لها داخل عائلتهم. وعلى الرغم من الجدل المستمر حول طبيعة التطور النفسي الجنسي، فقد قبل علماء النفس آراء فرويد فيما يتعلق بأهمية الخبرات المتكونة في مرحلة الطفولة. وقبلوا أيضًا بالتسلسل الزمني الذي وضعه، والذي افترض أن عقدة أوديب تُحَل ما بين الخامسة والسادسة من العمر. ومن ثم، كان مُنظِّرو التعلم الاجتماعي — عادةً — يؤمنون بأن الاختلافات الجنسانية في سلوك الأطفال تحت أربعة أعوام من العمر غير ثابتة، ورأى أنصار التطور المعرفي أن الإحساس الثابت بالهوية الجنسانية لا يظهر إلا نحو عمر الخامسة.

وقد شهدت السنوات العشرون المنصرمة تغيرًا جذريًّا في الرؤية المهنية لتطور الهوية الجنسانية، فالباحثون الآن يدرسون سلوك الأطفال الصغار سعيًا وراء مؤشرات الاختلافات الجنسانية. فما إن ينطق الأطفال كلماتهم الأولى، حتى يصغي إليهم الباحثون ترقُّبًا لظهور دلائل على التمييز الجنساني. بل إن لعب الأطفال في عامهم الثاني خضع للدراسة المدقِّقة بحثًا عن أدلة تثبت أن تفضيلات اللعب وأنماط النشاط والسعي وراء المتع الحسية، كل ذلك قائم على التمييز الجنساني.

يتبين من ملاحظاتنا — التي جمعناها في إطار دراسة لعملية تكوين الهوية الجنسانية خلال عام الطفل الأول في المدرسة — الفهم المتطور لدى الأطفال في عمر الأربعة الأعوام. والجدير بالذكر أيضًا هو الانتباه الذي يوليه المعلمون لحس الهوية الجنسانية المتنامي لدى الأطفال.

اختار جوناثان قميص نوم من النايلون لونه برتقالي مائل إلى الوردي من حامل الملابس ونجح — بعد مشقة — في ارتدائه. ثم حاول جاهدًا أن يرتدي فوقه تنورة باليه بيضاء صغيرة من الستان. ولم يكن أي من الأطفال الآخرين أو المعلمة منتبهًا إليه. وفي النهاية جاءته بنت من فصله وقالت له: «هذا ليس مناسبًا لك يا جوناثان!» فنظر لها جوناثان بارتباك، ولكنه استمر في محاولة حشر نفسه في تنورة الباليه. وبعد محاولات جهيدة مُنيت بالفشل أخذ التنورة إلى المعلمة وطلب منها مساعدته. فقالت متعجِّبة: «جوناثان، هذا أصغر ثوب لدينا، وليس على مقاسك. دعنا نذهب ونبحث عن شيء آخر.» فاختار جوناثان تنورة وساعدته في ارتدائها. وفي حين أنها قالت له: «يا للأناقة!» فقد شجَّعته أيضًا على ارتداء صدرية من حُلَّة رجالية مكونة من ثلاث قطع.

كل ممثل في هذه التمثيلية يتبع مجموعة من القواعد فيما يتعلق بتكوين الهوية الجنسانية. فالبنت اعتبرت سلوك جوناثان انتهاكًا لأحد مبادئ الهوية الجنسانية الذي يُعَرِّف بعض الملابس على أنها ملائمة للإناث وغير ملائمة للذكور. أما المعلمة فكانت أكثر مرونة؛ إذ سمحت لجوناثان بارتداء ملابس نسائية وإنْ حثَّته على ارتداء ملابس ملائمة لنوع جنسه أيضًا. إلا أن تلك الواقعة الموجزة لم تنبئ بشيء عن اعتقادات جوناثان المتعلقة بهويته الجنسانية. فقد لا يكون مدركًا للصبغة الجنسانية التي يحملها كل من قميص النوم وتنورة الباليه، ولكن ذلك مُستبعَد نظرًا لارتباكه عندما فاتحته زميلة له في الموضوع. وربما أنه يخرق عن عِلم قاعدة عدم ارتداء ملابس الجنس الآخر.

أحاول من خلال تحليل مثل هذه الوقائع — وما أجريته من أبحاث سابقة على المعرفة الجنسانية لدى الأطفال بعمر ١٨ شهرًا — أن أفهم أولى محاولات الأطفال الصغار لتكوين هويتهم الجنسانية.

في أوساط علماء النفس، يستخدم بعض المنظِّرين — بمن في ذلك إليانور ماكوبي وكارول جاكلِن — مصطلحيْ الجنس ونوع الجنس بالتبادل صراحةً. إلا أني في إطار عملي — مع جون آرشر وجيرارد دوفين على حد سواء — حَرَصتُ على الفصل بينهما. مثل ذلك التحديد الدقيق يتفادى «تطبيع» الاختلافات الجنسانية (معاملتها على أنها شيء طبيعي)؛ أي يتفادى افتراض أن أنماط التصرف والمشاعر والسلوك المقتصرة على نوع جنس واحد محددة بيولوجيًّا.

عند الميلاد، يستخدم الأطباء والآباء الخصائص البيولوجية لتحديد جنس المولود. هذا التقسيم بين ذكر وأنثى تقسيم ثنائي ومشتق في نهاية الأمر من دور الجنسين في عملية التناسل الجنسي. تلك الخصائص ذاتها لها أهمية حيوية في تعيين عضوية المولود في إحدى الفئتين الاجتماعيتين اللتين نطلق عليهما اسم نوع الجنس. وتحديد نوع الجنس مهم جدًّا حتى إنه في الحالات النادرة التي تكون فيها الأعضاء التناسلية الخارجية للوليد غير محددة المعالم، قد يحلل الأطباء السريريون كروموسومات المولود بغية تحديد الجنس الجيني للوافد الجديد إلى المجتمع. وما إن تتحدد العضوية في إحدى الفئتين، يصبح المواليد تلقائيًّا أعضاءً في جماعة النوع المتوافقة معهم، وتُنظِّم حياتهم مجموعة القواعد التي تعرِّف الأنوثة والذكورة. تحدد تلك القواعد جوانب عديدة من حياة المولود؛ اسمه، وملبسه، وطريقة تعامله مع الأنشطة والمشاعر والسلوكيات والتوقعات الاجتماعية المتعلقة بها.

في تحليلنا للمراحل المبكرة من التطور الجنساني، اقترحت أنا وجيرارد دوفين أن الخصائص البيولوجية ثنائية الشكل ذات الصلة بالوظيفة الجنسية تقوم مقام المؤشرات في تكون الهوية الجنسانية الاجتماعية. وقد استعنَّا بنظرية سيرج موسكوفيسي للتمثيلات الاجتماعية لوصف القوانين أو القواعد المميزة التي ينشئها المجتمع لتنظيم المعرفة المتعلقة بنوع الجنس وبالعلاقات القائمة بين أعضاء الجماعتين الجنسانيتين، ونقل تلك المعرفة. ويكون مدخل الصغار إلى التمثيلات الاجتماعية الجنسانية عن طريق تعاملهم مع أفراد المجتمع المطَّلِعين. وتنظِّم تلك التمثيلات علاقاتهم مع آبائهم وأشقائهم وغيرهم من البالغين والأطفال. وبما أن الأطفال يستبطنون التمثيلات الاجتماعية الجنسانية (يعتنقونها كأنها نابعة من داخلهم)، فيمكنهم استخدامها لتأكيد الهويات الجنسانية الاجتماعية والتعبير عنها.

وخلافًا للخصائص الثنائية للجنس البيولوجي، فالسمات التي تحدد نوع الجنس لا تكون ثنائية في كثير من الأحيان، وتتداخل توزيعاتها فيما بين الجنسين، كما أنها أكثر تعقيدًا بكثير. وفي حين أن النموذج المشتق من عملية التناسل الجنسي يشكِّل فئتيْ الذكر والأنثى، فإن المغايرة الجنسية لا تقيِّد استخدامنا لكلمتيْ الذكورة والأنوثة. فاختيار الشريك الجنسي يتباين داخل الفئتين الجنسانيتين المتمثلتين في المرأة والرجل. وعلى الرغم من أن الحياة الاجتماعية لا تغمرها القواعد الجنسانية صراحةً، فلا ينبغي الاستهانة بمسألة نوع الجنس في تكوين الحياة الاجتماعية، ولا إغفال مدلولها في المجتمعات الحديثة.

ربما يكون الجانب الأهم في النظام الاجتماعي الذي تفرضه التمثيلات الاجتماعية الجنسانية هو الطبيعة الهرمية للعلاقات القائمة بين الجماعتين الجنسانيتين. ففي مجالات التعليم أو السياسة أو الاقتصاد، تتشكَّل العلاقات بين الجماعات على أساس السلطة والمكانة التي تتميز بها الذكورة. وفي دراستي لِلَّعِب المميَّز جنسانيًّا وللتفاعل الاجتماعي في المدرسة، يتضح أن ذلك الهيكل الهرمي يؤثر على تفاعل الأطفال منذ سن مبكرة.

فقد تبيَّن من واقعة ارتداء جوناثان للملابس النسائية أنه بحلول وقت دخول الأطفال المدرسة، يكونون قد استبطنوا التمثيلات الاجتماعية الجنسانية التي تمكنهم من فهم المؤشرات الجنسانية والتعبير عنها في تعاملهم مع الأطفال الآخرين والبالغين. ولاستكشاف جذور ذلك الاستبطان؛ راقبت أنا وزملائي أطفالًا تتراوح أعمارهم ما بين ١٨ شهرًا و٤ أعوام وأجرينا معهم حوارات.

حلَّلنا في دراستين أفلام فيديو مسجلة لأزواج من الأطفال يلعبون في غرفة بلُعَب وصفها الآباء بالذكورية أو الأنثوية؛ أي ملائمة للبنات أو البنين في ذلك العمر. فوجدنا أن أزواج البنين قضَوا وقتًا أطول في اللعب بالألعاب الذكورية من الألعاب الأنثوية، في حين لم يتبين لدى أزواج البنات تفضيل متسق مميز جنسانيًّا، وإن كانوا قد أمضَوا وقتًا أقل بوضوح في اللعب بالألعاب الذكورية مقارنةً بالبنين. وقد ازدادت تلك الاختلافات وضوحًا بعد عامين ونصف العام.

فكانت النتيجة التي خلصنا إليها هي أنه حتى في هذه السن المبكرة، يتباين استخدام البنات والبنين للألعاب. فالبنون يتجنَّبون اللُّعَب الأنثوية ويوظِّفون اللعب الذكورية في الإشارة إلى عضويتهم في إحدى الفئتين الجنسانيتين، بينما لا تستخدم البنات اللعب في الإشارة إلى هويتهن الجنسانية. وأدى إجراؤنا تحليلات للتوافق أو عدم التوافق بين فئة الطفل الجنسانية واختياره للألعاب إلى تقديم سند إضافي لهذا الرأي. فالبنات والبنون كلاهما كان له خيارات غير متوافقة مع نوع جنسه عند اللعب في أزواج مكونة من بنت وابن مقارنةً بخياراتهم عند اللعب في أزواج أحادية النوع. ولكن البنين وحدهم كانوا متسقين في اختيارهم لعبًا متوافقة مع نوعهم أكثر من اللعب غير المتوافقة، سواء أكانوا يلعبون مع بنين مثلهم أم في فرق مختلطة. فقد دأب البنون على تأكيد هويتهم الجنسانية الذكورية. ولكن أيًّا من السياقين لم يحث البنات على الانغماس أغلب الوقت في الأنشطة ذات الصبغة الأنثوية.

وقد أجرينا أيضًا حوارات مع الأطفال الذين راقبناهم، بغية قياس قدرتهم على استيعاب المعرفة الجنسانية والتعبير عنها بأساليب مختلفة. فطلبنا منهم التعرُّف على صور نساء ورجال، وبنات وبنين باستخدام كلمات مميزة جنسانيًّا زودناهم بها. وطلبنا منهم أيضًا أن يقدموا الكلمات الملائمة لوصف الصور. وطلبنا منهم تصنيف صور البالغين والأطفال حسب نوع الجنس وتقسيم صور الألعاب في غرفة اللعب حسب الفئة الجنسانية الملائمة لها.

وكما توقَّعنا، تحسَّن الأداء مع تقدم العمر؛ فقد وجد الأطفال أنه من الأيسر أن يتعرَّفوا على الصور عن أن يتوصلوا إلى الكلمات الصحيحة، وكان تصنيف صور الأشخاص أيسر من تصنيف صور اللُّعَب. ونجح الأطفال تحت عمر العامين في التعرف على نوع الأشخاص في ٦٠ في المائة من الحالات، ولكن حتى الأطفال في عامهم الرابع وجدوا صعوبة في تصنيف اللعب حسب نوع الجنس. وبصفة عامة، كان أداء البنات والأولاد متشابهًا للغاية، وأتاح لنا أن نستنتج أن كليهما يبدأ في استبطان التمثيلات الاجتماعية الجنسانية منذ سن مبكرة للغاية.

ويأتي التشابه بين معرفة البنات والأولاد برموز المنظومة الجنسانية في تناقض صارخ مع تعبيرهم الفعلي عن هوياتهم الجنسانية. فذلك التشابه الفكري يجعل من المستبعد أن تفتقر البنات إلى الموارد اللازمة لتأكيد هويتهن الاجتماعية الجنسانية. وتتمثل إحدى طرق وصف أساليب لعب البنات والبنين في مقولة: إن البنين يؤكِّدون هوية ذكورية متفرِّدة، بينما ترفض البنات التعريف الضيق والمتفرِّد لأنوثتهن. ومن ثم لا يبدو أن نوع الجنس يحدد كيفية لعب البنات. ونحن نعي أن البنات قد استبطنَّ الصبغة الجنسانية المرتبطة بالألعاب؛ لأنهن نجحن مثلهن مثل البنين في مهمة تصنيف الألعاب. فهل يمكن ربط اختيارهن غير المميز للألعاب أثناء اللعب بمقاومة الأنوثة كما تعرِّفها التمثيلات الاجتماعية الجنسانية الحالية؟ فقد يكون البنون حريصين على تأكيد ذكورتهم، بينما البنات غير راغبات في التقيد بأنوثتهن. فالمكانة والسلطة بمنزلة حق طبيعي للذكور. وحتى هؤلاء الأطفال بالغو الصغر ربما يكونون قد استبطنوا القيم التي تمثِّل جزءًا لا يتجزأ من منظومتنا الجنسانية.

لا شك أن الأطفال في سن بداية المدرسة يكونون قد طوَّروا بالفعل هويات جنسانية أنثوية وذكورية. وقد اختبرنا أنا وجيرارد دوفين في الآونة الأخيرة أثر المدرسة على تلك الهويات. فلم نقم بملاحظات وحوارات منهجية إلا بعد أن أمضينا عامًا في التعرف على فصول صف الاستقبال (يقابل الصف الأول الابتدائي) في مدرستين؛ مدرسة منهما — تقع في منطقة تغلب عليها الطبقة الوسطى — كان بها ثلاثة فصول للوافدين الجدد، منظَّمة حسب العمر. عملنا مع أصاغر الأطفال سنًّا، الذين كانوا قد بلغوا الرابعة من عمرهم حديثًا — بما يتماشى مع قوانين المقاطعة. في الفصلين الدراسيين الأولين ذهبوا إلى المدرسة نصف اليوم فقط. والمدرسة الأخرى — الكائنة في منطقة أقدم من المدينة تغلب عليها الطبقة العاملة — كان بها فصل استقبال واحد يتراوح عمر الأطفال فيه بين أربعة وخمسة أعوام. ولم يذهب هؤلاء الأطفال إلى المدرسة بدوام كامل إلا في الفصل الدراسي الذي بلغوا فيه خمسة أعوام.

ومن خلال الملاحظة المنهجية للأطفال كل على حدة، جمعنا معلومات عن أصحابهم وأنشطتهم والأشياء المادية التي يستخدمونها ودرجة تنظيم المعلمين لسلوكهم. فوجدنا أن البنين يقضون وقتًا أطول في صحبة البنين فقط، وعندما يكونون في صحبة مختلطة، يكونون في مجموعات أغلب أفرادها بنون. وكانت تلك المجموعات أكبر من نظيراتها التي شاهدنا فيها البنات. وعلى الرغم من أن البنات كنَّ يقضين وقتًا طويلًا في مجموعات مكونة من بنات فقط، فقد ظهرن في مجموعات مختلطة أكثر من البنين، سواء أكانت مجموعات تغلب عليها البنات أم مجموعات مختلطة بالتساوي بين النوعين. وبحلول الفصل الدراسي الثالث، كانت البنات يشاركن في مجموعات أكبر، مثلهن مثل البنين.

وحتى نقيس تأثير المعلِّم على لعب الأطفال قارنَّا بين تكوين مجموعات الأطفال عند تنظيم المعلم لنشاطهم وعند تنظيمهم النشاط بأنفسهم. فخلال العام الدراسي، خفض تأثير المعلمين انخراط البنات والبنين على حد سواء في المجموعات أحادية النوع. إلا أنَّ البنين — حتى في الفصل الدراسي الصيفي — أكَّدوا هويتهم الذكورية من خلال مشاركتهم في المجموعات أحادية النوع والمجموعات التي يشكِّل فيها البنون الأغلبية. وعلى الرغم من أن البنين زادت مشاركتهم في المجموعات المختلطة عندما كان المعلم ينظِّم نشاطهم، فقد ظلَّ البنات يُمضين في المجموعات التي يغلب عليها البنون وقتًا أطول من الذي أمضاه البنون في مجموعات تغلب عليها البنات.

وقد تبيَّن من التحليلات أيضًا اختلاف البنات عن البنين في استخدام المساحات والخامات. فالبنون — سواء أكانوا في مجموعات مقتصرة على البنين، أم مجموعات يغلب عليها البنون، أم بمفردهم — يستخدمون المساحات المفتوحة في الفصل أكثر مما تفعل مجموعات البنات. والبنات يوزعن استخدامهن للمساحات في الفصل كله على نحو متساوٍ أكثر. واستخدام البنين للمساحة أكثر تركُّزًا من استخدام البنات، فنحن لم نجد مساحة مكانية في الفصل تستخدمها المجموعات المقتصرة على البنات بمعدل أكبر.

ظهر نسق مشابه عند تحليل التفاعل مع الأشياء. فقد قسَّمنا الأشياء إلى مجموعات على أساس ما تنطوي عليه من إمكانيات للعب الإبداعي ولعب الأدوار واللعب الموجَّه وألعاب البناء. تضمَّنت ألعاب البناء استخدام المكعَّبات الكبيرة والسيارات اللعبة ومكعبات الليجو والقطارات وما شابهها، واحتلت تلك الألعاب موقع الصدارة في ألعاب البنين — على الرغم من أن ذلك كان بدرجة أقل عند تنظيم المعلم لأنشطتهم. أما البنات فقسَّمن وقتهن على نحو أكثر تساويًا بين الخيارات المتنوعة، ومن ثم قضين وقتًا أطول من البنين في اللعب الإبداعي باستخدام خامات مثل الماء والرمل والصلصال، ولعب الأدوار باستخدام الطعام وعربات الأطفال والهاتف وموقد الطهي والملابس، وكذلك في اللعب الموجَّه باستخدام الدهانات والعمل بالأرقام، والكتابة، وبرامج القراءة وما إلى ذلك.

ألعاب البنين

عندما ناقشنا النتائج التي توصلنا إليها مع المعلمين، كان تعليقهم هو أن البنات لم يكن بإمكانهن دائمًا أن يصلن إلى المكعبات والسيارات والقطارات المتوافرة في الفصل. وأسفر الحديث عن التدخل لضمان وصول البنات إلى ألعاب البناء عن تساؤل المعلمين عما إذا كان في ذلك خرق لالتزامهم بمناهضة التحيز لجنس دون آخر. ولم يتضح ما إذا كان ذلك الالتزام هو الذي أفضى إلى ترددهم أم أنه عدم ارتياحهم لتحدي السلطة الذكورية.

وبغية قياس مدى ما يعرفه الأطفال عن نوع الجنس في استعمالهم للغة والألعاب والسلوك، أجرينا معهم حوارات في الخريف وحوارات أخرى في فصل الصيف. فأدرجنا كلامًا ينسبه البالغون بصورة نمطية إلى الرجال والنساء، مثل «اللعنة! إنه مكسور.» أو «يا لها من صورة جميلة!» في شكل قصة. وعلى الرغم من أن البالغين نسبوا أربعة أقوال من ١٦ إلى الرجال والبقية نسبوها إلى النساء، فقد كان الأطفال متلهِّفين إلى أن ينسبوا التعبيرات إلى الجماعة الجنسانية التي ينتمون إليها. فنسبت البنات كلامًا أكثر للفتاة الواردة في القصة، بينما نسب الأولاد كلامًا أكثر للفتى. وقد تشابهت الاستراتيجيات التي انتهجها كل من البنات والبنين من هذه الناحية الشكلية، ولم يكن ثمة اختلاف واضح بين الجنسين في الأداء. فالبنات والأولاد نسبوا عددًا قليلًا من الأقوال على نحو يتسق مع الصور النمطية الجنسانية لدى البالغين. ولم يُنسَب إلى الولد في الفصلين الدراسيين صواب سوى المرتين اللتين ظهر فيهما قول «تبًّا»، ونُسِب قول «لطيف» في مرتيْ ظهوره إلى الفتاة في الخريف، بينما نُسِب ظهور واحد لقول «انظر إليَّ» إلى الولد في الصيف.

تبنَّى الأطفال استراتيجية مشابهة في نسب الأشياء إلى الجماعة الجنسانية التي ينتمون إليها عندما طلبنا منهم أن يختاروا صورًا لأشياء من فصلهم لفتًى وفتاة. ففي الفصلين الدراسيين على حدٍّ سواء، نسبت البنات أشياء أكثر للفتاة. وبالمثل، نسب البنون أشياء أكثر للفتى. وزاد ذلك بالنسبة إلى البنين في فصل الصيف. وقليلة هي الأشياء التي كان البنون والبنات متسقين في نسبها إلى نوع جنساني بعينه، وإن كانت صورة الدمية هي الاستثناء. فقد بدا أن البنين يتجنَّبون نسب تلك الأشياء المتفق على أنثويتها إلى البنين. أما البنات، فنسبن إلى أنفسهن المكعبات الكبيرة ومكعبات ليجو، مؤيداتٍ مخاوف المعلمين بشأن إمكانية وصول البنات إليها في مواجهة مطالبات البنين القوية والمشروعة في ظاهرها.

وقد ظهرت أدلةٌ أوضح على التمييز الجنساني عندما طلبنا من الأطفال أن يشيروا إلى الصورة المختلفة في مجموعة مكونة من ثلاثة رسومات، كل منها يتضمن طفلًا يحمل لعبة ملائمة لنوعه أو غير ملائمة. فكان الأكثر ترجيحًا أن يختار البنات والأولاد على حد سواء صورة طفل يلعب بلعبة «طفلة»، وعند ظهور طفل في صورة مع طفلتين، كان احتمال أن يُختار على أنه مختلف أكبر من احتمال اختيار طفلة واحدة مع طفلين. فالبنات والبنون يشتركون في مجموعة واحدة من التمثيلات الاجتماعية التي تبرز فيها الذكورة وترتبط بالتفرُّد.

وقد اتفق الأطفال أيضًا على كيفية نسب الأشياء والأنشطة والسمات السلوكية لشخصية البنت وشخصية الابن. وفعلوا ذلك بما يتماشى مع التمثيلات الاجتماعية الجنسانية إلى حد ما، وإنْ كان الأطفال في كل جماعة جنسانية بلغ اتفاقهم أقصى حد في نسب الأشياء إلى نوع جنسهم. وقد نسب البنون صورة الدمى والدمى المحشوة إلى البنات، ولكن البنات أنفسهن لم يكنَّ متسقات في نسب الأشياء إلى الأطفال حسب نوع الجنس. واختارت البنات بنتًا للعب دور شخصية تعرضت للدفع والأذى في قصة، في حين اختار البنون شخصية ولد لإصلاح الهاتف. واختارت البنات وليس البنون شخصية بنت لتكون خائفة، بينما اختار البنون ابنًا ليصيح ويتصرف بشجاعة. ففي تلك المهمة، نسب البنات والبنون إلى أنفسهم هويات جنسانية متمايزة.

لا شك أن الأطفال يدخلون المدرسة بهويات جنسانية متكونة وولاء للجماعة الجنسانية التي ينتمون إليها. وتشير الأدلة على تأثير المعلمين إلى أن التزام الأطفال بالتمثيلات الاجتماعية الجنسانية يتسم ببعض المرونة، وإلى أن المدرسة يمكن أن توفر مساحةً يمكن في نطاقها تلطيف آثار الامتثال الصارم للقواعد الاجتماعية. وكشفت نقاشاتنا مع المعلمين عن رغبة حقيقية في توفير مجال أكبر للبنات والبنين للحصول على الخبرات دون التكبُّل بالقيود الجنسانية التقليدية. على الرغم من ذلك، فقد أدى تصلُّب الأطفال الأكبر سنًّا في الالتزام بالإرشادات الجنسانية إلى إشارة منظِّرين — مثل جون آرشر — إلى أن البنات والبنين يعيشون في عالمين اجتماعيين مختلفين ويتبعون سبلًا تنموية متباينة. وأنا أرى أن ذلك الفصل العميق بين الأنوثة والذكورة يعكس تطبيع مسألة نوع الجنس والانهيار المفاهيمي للتمييز بين الجنس ونوع الجنس.

مرة أخرى تجلت تلك الحجة في واقعة حدثت في إحدى المدارس. ففي المناقشة المذكورة آنفًا عن استخدام البنات والبنين لألعاب البناء، أشار مدير المدرسة إلى أنَّه من الطبيعي أن يكون البنون أكثر حيوية وقوة، وهم من ثم يحتاجون مساحة أكبر. وقد أشرتُ — مستشهدة بالبحث الذي أجريته مع كارولين سميث والذي أثبت أن الرضيع ذاته ذا الأشهر الستة شجعته أمه على أن يكون نشيطًا في حالة كونه ابنًا، ولكن هادئًا ومنضبطًا في حالة كونه بنتًا — إلى أن توقعات البالغين قد تؤثر على طريقة ممارسة الرضع والأطفال الصغار للنشاط وتعاملهم مع المساحة.

قوبلت تلك الأدلة بالدهشة والسرور. فقد طبَّع المعلمون غير متعمِّدين الهويات الجنسانية الاجتماعية التي أتى بها الأطفال في صف الاستقبال إلى المدرسة. وإن توقعاتهم التي لم تخضع للدراسة والقائمة على افتراضات متعلقة بخواص محدَّدة بيولوجيًّا من شأنها أن تمثل عائقًا أمام أي تغيير قد يرغبون في إحداثه. فمثلما قال جون ستيوارت ميل منذ أكثر من مائة عام مضى: «أرفض أن يكون ثمة من يعرِّف — أو يمكن أن يعرِّف — طبيعة الجنسين، طالما أنهما لم يُنظَر إليهما سوى في إطار علاقة أحدهما بالآخر وقتها.»

17 Dec, 2015 01:23:06 PM
0

لمشاركة الخبر