Skip to main content

ألبرت أينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥)

أليستر ماكفيرلين يتأمل في حياة وأعمال فيزيائي عميق الفكر.

في عام ١۹٠٥ تغيرت نظرتنا للعالم تغيرًا جذريًّا وإلى الأبد. فقبل ذلك الحين ظن الفيزيائيون كافة أن الضوء حركة موجية ذات وسط ما، أطلقوا عليه الأثير. واعتقدوا أنه إذا قيست سرعة الضوء قياسًا مستقلًا بواسطة راصدين في حالات حركة نسبية متفاوتة، فإنهم سيسجلون سرعات مختلفة. بل كان بعض العلماء البارزين غير مقتنعين بحقيقة الذرات والجزيئات. ثم، على مدار هذا العام وحده، قدم موظف فني بسيط (من الدرجة الثالثة) بمكتب براءات الاختراع في برن بسويسرا، سلسلة من الأبحاث إلى صحيفة «آنالين دير فيزيك» («صحيفة الفيزياء»)، غيرت كل شيء. قدم أحد هذه الأبحاث الوصف الأول لحقيقة الجزيئات، واحتوى آخر على فرضية أن الضوء يمكن اعتباره تيارًا من الجسيمات الأولية (يُطلق عليها الآن اسم «الفوتونات»). وقدم بحثٌ ثالث نظرية «النسبية الخاصة»، التي تضمنت التأكيدات المدهشة على أن سرعة الضوء ثابتة عندما يقيسها جميع الراصدين بصرف النظر عن حركتهم، وعلى أنه يمكن تحويل المادة إلى طاقة. واستغرق المجتمع العلمي على مستوى العالم بضع سنوات حتى يتمكن من استيعاب الآثار المترتبة على هذه التجليات العلمية المذهلة غير المسبوقة، تحول خلالها ألبرت أينشتاين من مجرد موظف بسيط بمكتب براءات الاختراع، إلى أشهر عالم في العالم.

وُلد ألبرت أينشتاين في الرابع عشر من مارس عام ١٨٧۹، في مدينة أُولم، بمملكة فورتمبيرج، جنوبي ألمانيا، وقد احتفظ باللكنة الشوابية عند التحدث باللغة الألمانية. كان والده هيرمان يعمل بائع أدوات كهربائية، ولم تنعم العائلة برغد العيش قط. وعن والدته بولين (التي كان اسم عائلتها كوخ) ورث أينشتاين عشقًا للموسيقى دام مدى الحياة. في عام ١٨٨٠ انتقلت العائلة إلى ميونيخ، حيث وُلدت أخته ماريا (مايا) في العام التالي. وقد ظلا مقربين طيلة حياتها.

مرّ أينشتاين إبان طفولته بتجربتين سحريتين كان لهما الفضل في إثارة حس الفضول وحب المعرفة لديه وهو إحساس لم يفارقه قط؛ ففي الفترة بين الرابعة والخامسة من عمره أعطاه والده بوصلة، فأذهلته طبيعة حركة إبرتها المستقلة التي لا يمكن التأثير فيها، وأدرك أينشتاين أنه لا بد أن هناك قوة غير مرئية تحكمها. وبعدئذ، في سن الثانية عشرة تقريبًا، أُعطي كتابًا صغيرًا في أساسيات الهندسة، وعلى غرار توماس هوبز وبرتراند راسل، أذهلته قوة الحجج الهندسية ودقتها ووضوحها. لكن على خلاف برتراند راسل، لم تشغله حقيقة أن البراهين كانت تعتمد على مجموعة من الحقائق المقررة أو المسلمات، لأنه لمح إمكانية الحصول على معلومات مؤكدة عن الموضوعات محل الاختبار من خلال القدرة على التفكير السليم.

لم يحب أينشتاين المدرسة قط — وقليلون من الناس هم من كانوا أكثر منه استقلالية في التفكير— لكنه كان يبرع في الموضوعات التي تثير اهتمامه. في سبتمبر عام ١٨۹٦ اجتاز الامتحان النهائي في المدرسة، وفي أكتوبر التحق بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا، ليتلقى تدريبًا كمدرس ثانوي في الفيزياء والرياضيات. وكان الأصغر في دفعته التي ضمت ميلفا ماريك من تيتل بصربيا التي كانت تابعة حينها للإمبراطورية النمساوية المجرية. وسرعان ما عاش مع ميلفا مما أثار قنوط والدته. حملت ميلفا، ورجعت إلى صربيا لتعيش مع والديها إلى حين ولادة ابنتهما ليسيرل في أوائل عام ١۹٠٢. وفشلت جميع مساعي كُتّاب السير الذاتية في اكتشاف مصير هذه الفتاة الصغيرة.

لقي والد أينشتاين نحبه عام ١۹٠٢، بعدما طلب من العائلة أن تتركه ليموت وحده، مما كدر أينشتاين للغاية. عُين أينشتاين في تلك الآونة في وظيفة بمكتب براءات الاختراع ببرن، حيث انتقل للعيش هناك وتزوج من ميلفا زواجًا مدنيًّا في عام ١۹٠۳. أنجبا ولدهما الأول هانز ألبرت عام ١۹٠٤، ثم ولدهما الثاني إدوارد عام ١۹١٠. طلق أينشتاين ميلفا عام ١۹١۹ وتزوج بعدها بفترة وجيزة من ابنة عمه المطلقة إيلسا أينشتاين ليونتال، متبنيًا ابنتيها إيلزي ومارجوت. وماتت إيلسا عام ١۹۳٦، وانتقلت أخته مايا للعيش معه منذ عام ١۹۳۹ حتى وفاتها عام ١۹٥١.

نبعت قوة أينشتاين النظرية من إدراكه الحدسي العميق لآليات عمل الواقع المادي، بالإضافة إلى قدرته على النظر إلى الأشياء دون أن يثقل نفسه بالافتراضات التقليدية. في نظرية «النسبية الخاصة» وضع في حسبانه تجارب الراصدين الذين يتحركون في خطوط مستقيمة بسرعة ثابتة بعضهم بالنسبة لبعض (ومن هنا جاء اسم «النسبية»). وفي نظرية «النسبية العامة» التالية، يمكن أن يتبع الراصدون مسارات منحنية بسرعات غير ثابتة (على سبيل المثال، أثناء ازدياد سرعتهم). في الواقع، نظرية النسبية الخاصة هي حالة خاصة من نظرية النسبية الأكثر عمومية (ومن هنا جاء اسم «خاصة»، و«عامة»).

تقوم النظرية الخاصة على افتراضين: جميع قوانين الفيزياء واحدة بالنسبة لجميع الراصدين، والجميع يرون للضوء نفس السرعة، سواء انبعث الضوء من جسم ثابت أو من جسم يتحرك بسرعة ثابتة نسبيًّا. وقبل هذه النظرية، اعتبر الناس كلًّا من بقاء الكتلة وبقاء الطاقة قانونين منفصلين، لكن ثبت الآن أن الكتلة هي شكل من أشكال الطاقة. أوضحت «النسبية الخاصة» أيضًا التعديلات اللازمة للنظرية الفيزيائية كي تتعامل مع الأشياء المتحركة بسرعات قريبة من سرعة الضوء، وأوضحت «النسبية العامة» التغيرات اللازمة للفيزياء عند التعامل مع الأجسام الهائلة مثل النجوم أو الكواكب. وأعاد هيرمان مينكوفسكي صياغة نظرية «النسبية الخاصة» في ضوء متسلسلة إقليدس رباعية الأبعاد للزمكان، أو الفضاء «المسطح». وقد مزح أينشتاين — الذي لم يكن يستخدم الرياضيات قط بقدر أكبر مما يحتاج إليه — قائلًا إنه بعد الصياغة الجديدة التي وضعها مينكوفسكي كاد هو نفسه لا يفهم نظريته.

بعد صراع فكري محتدم وطويل، أدرك أينشتاين أن التحول من النسبية الخاصة إلى العامة يقتضي التخلي عن قيد التسطح المفروض على الفضاء، بل على الأحرى لا بد أن يكون الفضاء منحنيًّا، وثبت أن مقدار الانحناء يتوقف على مقدار المادة في هذا الفضاء. وعليه تشكل المادة الفضاء، وتمخض هذا عن مولد نظرية هندسية جديدة للجاذبية. وكان النظام الرياضي اللازم متاحًا بالفعل في شكل الهندسة الريمانية التي وضعها برنارد ريمان في القرن التاسع عشر.

أعادت نظرية الجاذبية العامة الجديدة لأينشتاين اشتقاق جميع النتائج التي تمخضت عنها نظرية الجاذبية لنيوتن، التي لا تزال تعتبر نموذجًا جيدًا في الحالات التي يكون فيها التجاذب التثاقلي ضعيفًا نسبيًّا. لكن الشيء الجدير بالذكر هو أن «النسبية العامة» تنبأت بشيئين جديدين يمكن إثباتهما بالتجربة العملية؛ فقد عللت للمرة الأولى الانحراف الذي يحدث في حركة كوكب عطارد (بسبب تأثيرات جذب نسبية من الشمس)، وتنبأت بالمقدار الذي يمكن أن ينحرف به الضوء عند المرور بالقرب من أحد النجوم مثل الشمس. ونُشر إثبات مسألة انحناء الضوء بفعل النجوم، الذي توصلت إليه إحدى البعثات بقيادة السير آرثر إدنجتون لملاحظة كسوف الشمس في ٢۹ مايو عام ١۹١۹، في جريدة التايمز بلندن في السابع من نوفمبر عام ١۹١۹ تحت عنوان: «ثورة علمية، نظرية كونية جديدة»، وبات أينشتاين، ولا زال، أشهر العلماء على الإطلاق.

استمر تقدم أينشتاين الأكاديمي السريع بالتوازي مع التطور السريع بالمثل في النازية، التي كان ناقدًا مجاهرًا لها. وبعد نجاحه المبهر المفاجئ الذي حققه من خلال شغل مناصب عديدة في الجامعات، جلس على عرش العلم الألماني بصفته أستاذًا بجامعة برلين. ولكن بحلول عام ١۹۳٥ كانت حياته في خطر، وفرّ إلى الولايات المتحدة عن طريق ألبانيا، حيث أصبح أول أستاذ في «معهد الدراسات المتقدمة» الجديد في برينستون بولاية نيوجيرسي، وظل هناك حتى مماته. وفي السابع عشر من أبريل عام ١۹٥٥، أُصيب بتمدد في الشريان الأورطي البطني نتج عنه نزيف داخلي حاد، وتوفي في صباح اليوم التالي بعد رفض الخضوع للجراحة. ثم أُحرق رفاته، ونُثر رماده في أرض «معهد الدراسات المتقدمة». لكنهم أخرجوا مخه أثناء التشريح بسبب الاعتقاد الغريب بأن الفحص المفصل لمخه قد يعلل قدراته العقلية الهائلة.

في أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين عقد أينشتاين وصديقه نيلز بور المتخصص في فيزياء الكم، سلسلة من المناقشات الشهيرة حول ما أسماه بور «مشكلات خاصة بنظرية المعرفة في نظرية الكم». وابتكر أينشتاين مرارًا وتكرارًا تجارب تخيلية قد تتنافى نتائجها مع التفسير التقليدي («تفسير كوبنهاجن») لنظرية الكم، التي لم يستطع أن يقبل تفسيرها غير الواقعي. وضعت التجارب الفكرية تصوره عن الواقع الكمي الموجود بموضوعية في تعارض مع اعتناق بور للمنهج الذرائعي (الذي يعتمد على التنبؤ بالنتائج وليس على وصف الواقع) لنظرية الكم. وكان بور هو الذي يفوز دائمًا في هذه الجدالات، غير أن الإبداع الذي كان يظهر من كليهما كان مذهلًا، وعلى الرغم من أن أينشتاين كان يقبل النجاح التنبئي الساحق لنظرية الكم، فإنه لم يتخل مطلقًا عن دعمه للمنهج الواقعي.

قدم أينشتاين آخر إسهاماته الجليلة للعلم عام ١۹٢٥ عندما تعاون مع الفيزيائي الهندي ساتيندرا ناث بوز في وضع النظرية الإحصائية للغازات المثالية أحادية الذرة (إحصائيات بوز-أينشتاين). وحصل على جائزة نوبل للفيزياء لعمله في التأثير الكهروضوئي عام ١۹٢١ (فعمله على النسبية كان لا يزال مثار جدل حينها). قضى أينشتاين الثلاثين سنة المتبقية من عمره يحاول وضع «نظرية الحقل الموحد» التي كانت ستجمع بين النسبية العامة ونظرية الكم؛ وهو هدف لم يتحقق بعد. وكتب إلى الرئيس روزفلت قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية يحذره من خطر حصول ألمانيا النازية على قنبلة ذرية، ويحثه على تطوير مثل هذا السلاح في أمريكا.

بدل أينشتاين علم الكونيات، كاشفًا آفاقًا جديدة للكون، سواء الكبير أو الصغير. وفي عام ١۹۹۹ اختارته «تايم ماجازين» ليكون رجل القرن، وقد أُطلق اسمه على كويكب وعنصر كيميائي (العنصر رقم ۹۹، أينشتاينيوم). وظل أينشتاين طوال حياته مناهضًا للشمولية، وداعمًا قويًّا للقضايا الإنسانية. وقد جمع ما بين القدرات الهائلة للبصيرة العلمية النافذة وحس الفضول الطفولي. قليلون هم من يتسمون بالتواضع، وربما أقل منهم من يكون لهم مثل هذا التأثير؛ لذا فإننا ربما لن نرى مثيلًا له قط.

17 Dec, 2015 03:43:01 PM
0

لمشاركة الخبر