Skip to main content

فهم جديد للاكتئاب

تزداد معدلات الإصابة بالاكتئاب العَصِيِّ على العلاج يومًا بعد يوم؛ مما يشير إلى وجود أخطاء جوهرية في فهمنا لهذا المرض، غير أن تَوَفُّر علاجات جديدة يَفْتَح آفاقَ الأمل أمام الجميع.

شملتْ أولى الحالات المزمنة التي واجهتها فانيسا برايس سيدةً سنُطْلِق عليها اسم باولا. أتتْ باولا إلى مركز لندن للطب النفسي — حيث التحقت برايس للعمل كممرضة — عقِب عامين من معاناتها من اكتئاب مستمر. في البداية، توقَّفَتْ عن رؤية أصدقائها، ثم توقَّفَتْ عن النهوض من فراشها، وأخيرًا بدأت تؤذي نفسها. ولم تساعدها الجلساتُ مع طبيب نفسي، كما لم يساعدها العلاج. وفي الحقيقة ساءت حالتها بعدهما، وانضمَّتْ باولا إلى فئة المصابين باكتئاب مقاوِم للعلاج.

إن الزيادة المطَّرِدة في هذا التشخيص على مدار العقدين الماضيين تعكس نقصَ المعرفة في هذا المجال؛ إذ بالَغَ البعضُ في فاعلية بعض الأدوية المضادَّة للاكتئاب؛ حتى إن بعض شركات الأدوية توقفَتْ تمامًا عن إجراء أبحاث فيها.

إلا أن الطبيعة المزمِنة لحالات الاكتئاب هذه شجَّعَتِ الأبحاثَ في أنواع جديدة وأحيانًا غير تقليدية من الأدوية. وتشير نتائج مذهلة إلى أننا قد أسأنا فهم هذا المرض من الأساس.

في الحقيقة، لقد فتحت الأبحاثُ الجديدةُ البابَ أمام التفكير في الاكتئاب، لا بوصفه حالة مَرَضِيَّة منفردة بل سلسلة من الأمراض، لكل منها آليات عصبية أساسية مختلفة؛ ممَّا قد يُقدِّم لنا تلميحات مفيدة بشأن بلوغ الراحة الدائمة. ولقد تسبَّب هذا الأمل في حدوث نهضة في صناعة الأدوية لم تحدُث مثيلتها منذ خمسينيات القرن العشرين.

إن شراسة الاكتئاب باعتباره مرضًا لا يضاهيها شيءٌ آخرُ سوى عناده وصعوبة علاجه. وتتفاوت التقديرات، لكن على الأرجح يتوقَّع فرد واحد من بين ستة أفراد أن يعاني من هذا المرض في مرحلةٍ ما من حياته. وتتَّسِم الأعراضُ بالقسوة الشديدة، وتشمل الأرَقَ واليأسَ وفقدانَ الاهتمام بالحياة والإرهاقَ المزمن، وحتى زيادة احتمالات الإصابة بأمراض مثل مرض القلب. ويؤدي الاكتئابُ أيضًا بالأفراد إلى عزل أنفسهم عن الآخرين، وهي نزعة تتفاقَم باستمرارية المرض، ويُعتقَد أنها تُعِيق أكثر من نصف المكتئبين عن البحث عن علاج. وقد يؤدِّي الاكتئابُ — عند عدم علاجه — إلى الانتحار، وتشير منظمةُ الصحة العالمية إلى حدوث حالة انتحار كل ٤٠ ثانية. فتُسهِم هذه العواملُ كلُّها في تقييم منظمة الصحة العالمية للاكتئاب على أنه السبب الرئيسي في العالم لفقدان الأهلية.

ما الذي يتسبب في إصابة الناس بالاكتئاب؟ النظرية السائدة هي أن الاكتئاب يَنْتُج عن خلل كيميائي في المخ، والناقل العصبي السيروتونين هو الهرمون المشتَبَه بكونه المسئول الأساسي عنه. ولقد ربطتْ تجاربُ كثيرةٌ الاكتئابَ بانخفاض مستويات السيروتونين، وهو شيء اعتُقِد أنه يُخِلُّ بقدرة المخ على نقل الرسائل عبر التشابُكات العصبية؛ وهي الفتحات الصغيرة بين الخلايا العصبية.

تدهور غامض

ذهبت النظرية السائدة قديمًا إلى أن زيادة السيروتونين يجب أن تعيد الإشارات العصبية والحالة المزاجية إلى المستويات الطبيعية. وظهر أول عقار قائم على فرضية السيروتونين — وهو الفلوكستين، المشهور باسم بروزاك — في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وقد سارت تقريبًا كل العقاقير اللاحقة المضادة للاكتئاب على المبدأ العام نفسه: جعل مستويات السيروتونين مرتفعة من خلال منع المخ من إعادة امتصاصه وإعادة تدويره.

ورغم أنَّ مِثْلَ هذه العقاقيرِ تَظَلُّ الأدواتِ التي نلجأ إليها للتخلُّص من الاكتئاب، فيبدو أن فاعليتها تَقِلُّ (انظر الشكل). وأشارت التجارب الإكلينيكية في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين إلى أن هذه العقاقير تستطيع مساعدة من ٨٠ إلى ٩٠ في المائة من المكتئبين في تقليل الأعراض. إلا أن الدراسات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أظهرت أن مضادات الاكتئاب النموذجية تؤثِّر في نسبة تتراوح من ٦٠ إلى ٧٠ في المائة فقط من الناس، وهو تدهورٌ تأكَّدَ في عام ٢٠٠٦ عندما نَشَرَ المعهدُ الوطنيُّ للصحة العقلية في بيثيزدا، بماريلاند، نتائجَ تجربة إكلينيكية ضخمة على مستوى الدولة. فعلى عكس كثير من التجارب الدوائية، التي عادةً ما تنتقي مشاركين معينين، كانت هذه التجربة الأولى التي تقيس فاعلية مضادات الاكتئاب في عدد من الناس يمثِّل العالم الحقيقي. وكانت النتائج مقلِقة؛ فعدد قليل من بين ٢٨٧٦ مشاركًا تعافَوْا تمامًا دون التحوُّل إلى عقاقير أخرى أو — في كثير من الأحيان — إضافة عقاقير أخرى.

فجر زائف: بَدَتْ مضاداتُ الاكتئاب الجديدة التي ترفع مستويات السيروتونين واعدةً عند طرحها في ثمانينيات القرن العشرين، إلا أنه منذ ذلك الحين والاكتئاب يبدو أكثر شيوعًا وصعوبة في العلاج.

فجر زائف: بَدَتْ مضاداتُ الاكتئاب الجديدة التي ترفع مستويات السيروتونين واعدةً عند طرحها في ثمانينيات القرن العشرين، إلا أنه منذ ذلك الحين والاكتئاب يبدو أكثر شيوعًا وصعوبة في العلاج.

ما الذي يمكنه تفسير هذا التدهور الواضح في كفاءة مضادات الاكتئاب؟ ربما لم تكُن العقاقير نفسها قَطُّ بالكفاءة المزعومة. ومن أجل التصديق على أي مضاد للاكتئاب، تطالب إدارة الغذاء والدواء الأمريكية فقط بدراستين واسعتَي النطاق من أجل التأكُّد من أن العقار ليس مجرد علاج وهمي (بلاسيبو). إلا أن شركات الأدوية ليست ملزَمة بتزويد إدارة الغذاء والدواء بكل دراسة تُجرِيها، ويقتصر الأمر فقط على الدراسات الإيجابية.

عندما فحص ديفيد ميشولون — مدير أبحاث الطب النفسي في مستشفى ماساتشوستس العام في بوسطن — المعلومات التي لم تُنشَر من قبل والمستقاة من التجارب الدوائية، قال إنه وجد نتائجَ سلبية أكثر من الإيجابية؛ فقد أشارت نسبة كبيرة من الدراسات إلى أن العقاقير كانت أفضل قليلًا من العلاج الوهمي. واستطرد: «إننا نعتقد حاليًّا أن ما يقرب من ٥٠ في المائة من الناس ربما يستجيبون لمضاد اكتئاب معين.» وعليه فإن زيادة الاكتئاب المقاوِم للعلاج ربما تكون انعكاسًا للوقت الذي استغرقه الأطباء في التوصُّل إلى هذه الحقيقة في عياداتهم.

السؤال التالي يتعلَّق بالسبب؛ فهل يمكن أن يكون السبب وراء فشل العقاقير في علاج الاكتئاب هو وجود خلل في فهمنا للآلية الأساسية؟ فعلى أي حال، لم يكُن الاكتئاب العَصِيُّ على العلاج حالة التناقُض الوحيدة التي تدعو إلى الشك في فرضية السيروتونين. على سبيل المثال، أظهرت دراسة في عام ٢٠٠٧ أن مستويات السيروتونين في مخ المكتئبين الذين لا يتلقَّوْن علاجًا كانت ضِعف الموجودة لدى المتطوِّعين غير المكتئبين.

على أثر هذا الارتباك، قررت عدة شركات أدوية إيقاف عملها على اضطرابات الحالة المزاجية بالكامل. فأعلنت جلاكسو سميثكلاين — الشركة التي تصنع مضادَّي الاكتئاب الشهيرين باكسيل وويلبوترين — في عام ٢٠١٠ أنها ستُوقِف أبحاثها في الاكتئاب.

وفي ظل الافتقار إلى أدوية جديدة تساعد العدد المتزايد من الناس الذين يُعانُون اكتئابًا متعذر الشفاء، وجد الإكلينيكيون أنفسهم في مأزق. يقول كارلوس ساراتيه، أخصائي البيولوجيا العصبية الذي يُدِير الأبحاث المجراة حول اضطرابات الحالة المزاجية بالمعهد الوطني للصحة العقلية: «لقد اعتدنا أن نوصي مرضانا بالتحلِّي بالصبر.» وبينما هم في انتظار عقار يحقِّق نتائج، اعتمد الأطباء على علاج مكثَّف ودائم لضمان ألا يفقِد المكتئبون وظائفهم أو يحاولوا الانتحار. ولم تكن هذه الاستراتيجية فعَّالة طوال الوقت، فتقول باولا: «لقد شعرت بالفشل.» وبعد أن باءت كل جهودها بالفشل، تناولت جرعة زائدة من الأقراص المنومة. ووفقًا لها لم تكُن تريد الموت؛ فهي ببساطة لم تهتم بحياتها من عدمها فحسب.

حل أخير

حرصًا من بعض الإكلينيكيين المحبَطين على مساعدة مرضاهم، بدءوا في البحث عن طرق علاج جديدة، واتَّسمت أبحاثهم بقدر كبير من التنوُّع: التحفيز الكهربائي والمغناطيسي للمخ، ومُهدِّئ يُستخدَم في الطب البيطري يُعرَف باسم كيتامين؛ وكُلِّلَتْ جهودهم بالنجاح.

فبعد فشل العلاج بالأدوية والمعالجة السلوكية، كان ما أنقذ باولا هو علاج مبتكَر يُطلَق عليه التحفيز المغناطيسي المتكرِّر للدماغ. كان أمرًا أشبه بالأفلام: تضع باولا قبعة على رأسها وتجلس تحت ماكينة كبيرة لمدة ٢٠ دقيقة تقريبًا، بينما يمر تيار كهربائي قصير عبر سلك صغير يبعد عن صدغها الأيسر ببضع بوصات، فيؤدي إلى إصدار نبضة مغناطيسية عالية الكثافة سريعة الزوال.

وبعد ١٥ جلسة، زالت رغبة باولا في إلحاق الأذى بنفسها، وبدأت ترى أن النهوض من الفراش فكرة جيدة. وعندما أخذها أصدقاؤها إلى حفل موسيقي، فوجئت إذ وَجَدَتْ نَفْسَها تستمتع بالحفل. وقالت: «ما كنت لأفكر في أي من هذا من قبلُ.»

ذُهِلَتْ برايس بالتقدُّم الذي حققته الحالة، وقالت: «يجب أن أكون صادقة، لقد شككت في الأمر، إلا أن النتائج أذهلتني.» فمُنذُ بداية هذا العام، نَجَحَتْ برايس في علاج ١٠ مرضى آخرين هناك باستخدام التحفيز المغناطيسي المتكرر للدماغ. وتَظْهَر خبرة برايس في مجموعة متزايدة من الأبحاث على مدار السنوات القليلة الماضية، والتي اكتشفت أن التحفيز المغناطيسي المتكرِّر للدماغ يبدو فعالًا بالتحديد في مواجهة الاكتئاب المقاوِم للعلاج. وفي إحدى الدراسات، استفاد منه ١٢ شخصًا من أصل مجموعة تتكون من ٢٨ شخصًا لم ينجح معهم أي شيء آخر.

في الوقت الحالي، لا يُعَدُّ العلاج بالتحفيز المغناطيسي المتكرر للدماغ زهيدَ التكلفة. ففي المملكة المتحدة لا توفِّر هيئة الخدمات الصحية الوطنية هذا العلاج؛ لذا يجب على من يتلقَّون العلاج في عيادة برايس دفع ٦٠٠٠ جنيه استرليني. وفي أستراليا، أقرَّتِ اللجنةُ الاستشاريةُ للخدمات الطبية بعدم وجود أدلة كافية على نجاح التحفيز المغناطيسي المتكرر للدماغ؛ لذا رفضت تمويل مثل هذا العلاج.

أما في الولايات المتحدة، فقد لجأ بعض الإكلينيكيين إلى خيار زهيد التكلفة يَعِد بنتائج واعدة مشابهة؛ وهو خيار التحفيز الكهربائي للمخ. ويشمل ببساطة توصيل تيار كهربائي صغير إلى قطبَيْن متَّصِلَيْن بالرأس باستخدام عصابة للرأس. وعلى عكس معدَّات التحفيز المغناطيسي المتكرر للدماغ الضخمة، فإن الجهاز تقريبًا في حجم عُلبة أوراق اللعب ومتوفر بتعليمات الاستخدام.

يستخدم ستيفن زيناكِس الجهازَ، وهو طبيب وأيضًا لواء متقاعد ومستشار سابق لوزارة الدفاع الأمريكية، ولكنه لا يستخدمه فقط على مرضاه، بل أيضًا على نفسه. ويطلب من مرضاه استخدامه لمدة ٢٠ دقيقة في المرة الواحدة، مرتين على مدار اليوم. فيقول: «أحيانًا يمكن أن ينجح هذا الجهاز على نحو لا يحدث مع الأدوية. وكان أكثر شيء رأيتُه ينجح في علاجه هو الأرق والقلق.» وهي حالات تزيد من الاكتئاب المقاوم للعلاج وفي الوقت نفسه يعمل هذا النوع من الاكتئاب على تفاقمهما.

إلا أن أفضل خيار فيما يتعلَّق بسهولة الاستخدام هو عقار كيتامين. فسابقًا — في عام ٢٠٠٠ — أشارَتْ دراسةٌ ضمَّت ثمانية أشخاص يُعانُون منذ وقت طويل من اكتئاب عَصِيٍّ على العلاج أن جرعة واحدة من عقار كيتامين — عن طريق الوريد — يمكنها تقليل الأعراض تقريبًا على الفور.

قامَتْ عِدَّةُ دراسات بتكرار النتائج. وفي أكبر تجربة إكلينيكية حتى يومنا هذا ضمَّت ٧٢ مشاركًا، اكتشف الباحثون من كلية طب آيكان بماونت سايناي في نيويورك، أن من لم يستجيبوا لأي علاج آخر تخلَّصوا من الأفكار الانتحارية عندما تناولوا عقار كيتامين لمدة ٤٠ دقيقة عبر الوريد. ويقول ساراتيه إن مجموعة متزايدة من الأبحاث تشير إلى أن هذا العقار يمكن أن ينجح مع ٦٠ في المائة من المرضى. ويقول: «تَقِلُّ الأعراض لدى بعض المرضى في خلال يوم واحد.» ويمكن أن يَظَلُّوا بلا اكتئاب لفترة تصل إلى ١٠ أيام.

لكن ما الآليات التي بإمكانها تفسير نجاح مجموعة من العلاجات التي تبدو غير ذات صلة بينما فشلت العلاجات التقليدية؟ عندما بدأ الباحثون في تجميع النتائج، كانت الصلة التي وجدوها هي مادة الجلوتامات.

الجلوتامات هي الناقل العصبي التنبيهي الأبرز في المخ، وتلعب دورًا حيويًّا في التعلم، والتحفيز، والذاكرة، والمرونة. ويعتقد بعض الباحثين أن مستويات الجلوتامات، مثل السيروتونين، تكون منخفضة للغاية في مخ المكتئبين.

إلا أن نقاط الشَّبَه تقِف عند هذا الحدِّ. فبدلًا من مجرَّد المساعدة في نَقْل رسائل بين الخلايا العصبية، ربما تكون الجلوتامات عاملًا يساعد خلايا المخ العصبية في إصلاح نفسها. قد يتماشى هذا مع نظرية عن الاكتئاب حَظِيَتْ بقدر كبير من المؤيدين في السنوات الأخيرة، وتقول إن الاكتئاب يتسبب في ذبول بعض التغصُّنات، وهي «أطراف» ناقلة للرسائل في نهاية الخلايا العصبية. فتصبح التشابكات العصبية مثل الجسور المكسورة، فلا تتمكن الرسائل من الانتقال بين الخلايا العصبية المتضرِّرة. ومن بين الأدلة الأخرى التي تدعم هذه النظرية اكتشاف أن كل نوبة متعاقبة من الاكتئاب يبدو أنها تجعل الناس أكثر عرضة للإصابة بنوبة تالية (انظر الشكل).

احتمالات الإصابة العالية

تتزايد احتمالات الانتكاس بصورة ملحوظة مع كل نوبة اكتئاب؛ ممَّا يلمح إلى وجود آلية جسدية تؤدي إلى ذلك.

نسبة المنتكسين خلال السنوات الخمس من التعافي من الاكتئاب.

نسبة المنتكسين خلال السنوات الخمس من التعافي من الاكتئاب.

كانَتْ تجاربُ عقارِ الكيتامين الإشارةَ الأولى إلى أن الجلوتامات ربما تساعد في العلاج. يبدأ الكيتامين تفاعلًا تسلسليًّا معقدًا: أولًا يعمل على إعاقة المستقبِلات المعينة التي تتَّحد معها مادة الجلوتامات؛ مما يُطْلِق كمًّا هائلًا من هذه المادة الكيميائية في التشابُكات العصبية. يُؤدِّي هذا إلى زيادة في بروتين يُطلَق عليه العامل التغذوي العصبي المشتق من المخ، وهو الذي يتسبَّب — كما تشير التجارب المجراة على الحيوانات — في إنبات التغصُّنات شوكات جديدة؛ مما يساعدها في استقبال رسائل من الخلايا العصبية المجاورة.

عندما حقن رونالد دومان من جامعة ييل الفئرانَ بالكيتامين، شَهِد اندفاعًا لمادة الجلوتامات في القشرة الأمامية الجبهية لدى هذه القوارض، مع زيادة سريعة في تكوين تشابُكات عصبية جديدة. وتُظْهِر دراساتٌ أخرى أن التحفيز المغناطيسي المتكرِّر للدماغ يرفع أيضًا مستويات مادة الجلوتامات من أجل التسبُّب في بدء تأثير بنائي مماثل.

إذن فالجلوتامات، بدلًا من أن تمكِّن عقلًا تالفًا من نقل الرسائل — رغم ما يكون عليه من تلف — ربما تعمل على تعليم مُخِّ المكتئبين كيفيةَ إعادة بناء نفسه. ويقول ساراتيه إنه في بعض الحالات ربما يكون من الأفضل وصفُ الشعور بالاكتئاب بأنه خَلَلٌ في بناء الخلايا العصبية وليس خللًا نتيجةً لعدم توازُن كيميائي. إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن السيروتونين خارج الصورة.

يقول ميشولون: «لا أعتقد أننا كُنَّا مخطئين، بل أعتقد أن الصورة الكاملة كانت غائبة عَنَّا.» ويقسِّم بالفعل كتابُ «الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية» — وهو الكتاب المرجعي في الطب النفسي في الولايات المتحدة — الاكتئابَ إلى فئات، منها: اكتئاب ما بعد الولادة، والاكتئاب ثنائي القطب. لكنه يَعْتَبِر الآلياتِ العصبية النفسية الأساسية لهذه الفئات واحدةً. بَيْدَ أنَّ الأبحاث الجديدة يمكن أن تُغيِّر هذا. فيقول ميشولون: «إننا نفكر حاليًّا في احتمال وجود سلسلة واسعة من الأمراض مجتمعة معًا تحت مسمى الاكتئاب.» والمتهم فيها إما الجلوتامات أو السيروتونين.

بداية جديدة

إذا كان الأمر كذلك، كيف يعرف الأفراد أي نوع من الاكتئاب يعانون منه؟ من طرق معرفة هذا الالتفات إلى أي الأدوية فعالة في التخلص من الاكتئاب. وفي هذا الصدد يقول ساراتيه: «إذا لم تحصل على استجابة من الكيتامين في اليوم الأول، فربما لن تحدث أي استجابة أبدًا.» وحاليًّا يجري العمل بالفعل على الوصول إلى اختبار تشخيصي يساعد في تحديد نوع المرض. ويقول ميشولون: «إننا نحاول تحديد عوامل معيَّنة في الدم ترتبط بفئات معينة من الاكتئاب.» ويمكن أن تكون صُوَر المخ الضوئية احتمالًا آخر؛ فتظهر هذه الصور بالفعل ما إذا كان المريض سيستجيب على نحو أفضل للعلاج بالكلام أم الأدوية.

لا تزال كل هذه الأبحاث في مراحلها الأولية إلى حَدٍّ كبير، لكن قبل ظهور اختبارات المؤشرات البيولوجية، يجب أن يكون هناك كَمٌّ كبيرٌ من الأدوية الجديدة التي تستخدم الجلوتامات في مكافحة الاكتئاب. وتعمل على الأقل خمس شركات على مشتقات الكيتامين. أحد الأمثلة، عقار جي إل واي إكس −١٣، الذي بشَّرَ بالنجاح في التجارب ما قبل الإكلينيكية في بداية هذا العام. تعمل أيضًا شركات استرازينيكا وروش وجانسن، ضمن شركات أخرى، على صُنع أدوية في صورة حبوب وحقن في الوريد، من المفترض أن يكون إنتاجها الأول بين أيدينا خلال بضع سنوات. ويقول ساراتيه إن حتى بعض شركات الأدوية تركِّز على عقاقير الجلوتامات كخيارها الأول بدلًا من جعلها خيارًا أخيرًا في علاج الاكتئاب.

لكن هناك إمكانية مثيرة أخرى، فإذا كانت مادة الجلوتامات تؤثِّر في المرونة العصبية، فهل يمكن أن يؤدي هذا إلى تغيُّرات بنيوية دائمة في المخ؟ يقول جورج أغاجانيان بجامعة ييل — الذي أَلْهَمَ عملُهُ الإبداعيُّ جميعَ الأبحاث التي أُجْرِيَتْ على عقار الكيتامين — إنه لدى الأشخاص المعرَّضين لاكتئاب متكرر، ربما يساعد الكيتامين الخلايا العصبية في الحفاظ طوال الوقت على روابط جديدة وأكثر كثافة. وفي الأبحاث الأخيرة على الفئران، وجد أن هذا العقار — عند دمجه مع مركَّبات أخرى — «يؤدي إلى إصلاحات بنائية طويلة الأمد في المخ.» على حد قوله. إلا أن معرفة ما إذا كان الأمر نفسه ينطبق على البشر ستتطلب مزيدًا من الدراسة.

أيًّا كانَ ما يَحْمِلُه المستقبلُ، فإنَّ مادةَ الجلوتامات، والإمكانيات الجديدة التي طرحتها، قد مَكَّنَتْنا على الأقل من البدء في التفكير في الاكتئاب بطريقة مختلفة. وهذا أمر نادر في وسط التعقيد الذي يتَّسم به الطبُّ النفسيُّ.

25 Dec, 2015 09:02:16 PM
0

لمشاركة الخبر