Skip to main content
فرح وجودي في «أزاهير العبث»

كيف يكون العبث مصيدةً للفرح وبطولةً في الوجود، على ما خطّته ريشةُ ناتالي الخوري غريب في تأمّلاتها الجديدة (أزاهير العبث، بيروت- دار سائر المشرق، 2018)؟ أظنّ أنّ الكاتبة، بعدما غاصت غوصًا عميقًا في باطن الذات الإنسانيّة، تهيّأ لها، في هدأة الصفاء الذهنيّ، أن تصطاد من صميم الذات الإنسانيّة نقائض الابتهاج الممهور بخيبة المحدوديّات الوجوديّة. فالإنسان، في عرفها، كائن التوق إلى الوهم يُسعده ويُنعشه وينقش في كيانه أمارات النضج. تستوي العبورية في هذا الكتاب الوديع مقولةً أصيلةً تصف واقع الوجود الإنسانيّ. لذلك تجتهد ناتالي الخوري غريب في استجلاء تعابير هذه المقولة وتردّداتها المربكة. فإذا بها تعاين العبوريّةَ لصيقةً بكلّ اختبار إنسانيّ، على تنوّع مقاماته وتلاوينه ونغماته. في نظرها كلّ شيء عابرٌ وكلّ شيء وافدٌ. وبين العبور والوفود تنبسط حقولُ الاختبار الإنسانيّ.

تستهلّ الكاتبةُ الجريئةُ تأمّلاتها باستنطاق العبث، فتمدح فيه فضائلَه فيما أغلبُ الناس يذمّه ذمًّا ويتطيّر منه. ذلك أنّ العبث هو المهماز الفريد الذي يستنهض الإنسان، ويحثّه على الإبداع، وكأنّي به فضيلةٌ من فضائل الاعتراف بعبوريّة الأشياء، وبتوق الإنسان المضطرد للابتكار والتجديد. غير أنّ الحياة لا تُبدع إلّا في الضباب والتلمّس والتردّد والتوثّب المتحيّر. ليست الحياة سيرًا في وضح النور، بل تمايلٌ رشيقٌ خفرٌ في تعرّجات الزمان. وللضباب أيضًا فضائلُه لأنّه يستر الانكفاءات الوجوديّة، ويلفّ الانعطاب الكيانيّ بمعطف التعاطف الودود. ومن ثمّ، تنجلي الحياة موضعًا مربكًا من مواضع البتر والشقّ التي تضرب بها فأسُ الفوات الزمنيّ. فما الأزمنة الوجوديّة التي تتراخى علينا سوى مقطوعات حطبيّة يرميها الحطّابُ في موقدة النور الذي يضيء العبور المتسارع. لكنّ مثل هذا العبور يجعل المعنى خاضعًا لتموّجات الضباب وهباءات الغبار، فيحرم الإنسان من الفوز برؤية الهداية الصائبة على الدوام. من الضبابيّة إلى العبوريّة إلى الرماديّة فالهبائيّة تتنقّل خطى الإنسان في مصطرع الرماد الذي يحفّ به من كلّ حدب وصوب.

أمّا الأمثولة الأفصح فتوصي الإنسان بالاعتصام الرضيّ بعِبَر الماضي التي يُزهر بها الغدُ، ومنها يُثمر فهمًا للحرّيّة الممكنة، وإدراكًا لمقاصد التجاوز التي تمنح الإنسان شيئًا من بهجة الأمان العطوب. أمّا إذا رام الإنسان أن يتغلّب على صروف الزمان، فما عليه سوى الاعتصام بزهرة المشاعر، عنيتُ بها الحبّ الذي يمنح الحرّيّة الحقّة، ويعرّي الروح من رداءاتها المصطنعة. هو المعنى الذي ينغلّ في مطاوي الطين البشريّ، فيصقل منه قوامًا رشيقًا منعتقًا من الجاذبيّات الاجتماعيّة والإكراهات الثقافيّة.

في صميم هذا المسرى الوجوديّ تضرب الأعاصير من كلّ حدب وصوب حتى ليُخيَّل للإنسان أنّ الوجود إعصارٌ متأجّج يفتك بالبدايات وبالنهايات، وبما يستوي بينها من فسحات أمل ومّاضة. فإذا بالحرّيّة التي يمنحها الحبّ تجعل الإنسان يفوز بقسط رحيب من النضج الباطنيّ يهيّئه لإدراك مقاصد الاحتباس الذاتيّ، والانغلاق الذاتيّ، والانحصار الذاتيّ. فالإنسان جلّادُ نفسه، يقهرها حتّى يفوز ببغيته. وسرعان ما يدرك الإنسان أنّ جوهر الحبّ هو الكشف الشفّاف عن الذات العارية يقذف بها في حدائق الوصال الكيانيّ والاستمتاع الخلّاق.

وعليه، فإذا كان الوجود ممهورًا بختم العبوريّة، كان النسيان هو الداء والدواء؛ وكانت السكينة هي المقام الأنسب لاحتضان تفوّرات الروح؛ وكانت الأولويّة أن ينشد المرء خفقان الحياة بين أضلاعه؛ وكانت الحكمة أن يصبر المرء على تقلّبات الدهر، فيُسعف انعطاباته بالتماعات دافئة من الهوى يضيء بها عتمة العبور الصامت؛ وكان التعقّل أن يثق الإنسان بدورات الجنون التي تنهمر على السالكين مسالك الابتكار الفذّ؛ وكان المشفى الوجوديّ أن يبكي الإنسان مرارات عجزه عن الإتيان بمعجزات الخلاص له وللآخرين؛ وكان المنفسح أن يشكر الإنسانُ قدراته الخارقة على العطاء الجذلان؛ وكان الامتلاء أن يتجرّد الإنسان من كلّ تعلّق وانتماء، ويُبحر في المحيطات الشاسعة ينشئ في مجاهلها الفارغة مضاربَ هممه واندفاعاته وجساراته الفتّاحة.

هذه اللوحة الغنّاء التي رسمتها ناتالي الخوري في استجلاء نقائض الوجود، أعانتها على الانتقال إلى ترسّم طبائع الناس وأخلاقهم. فإذا بها تعاين، في المقلب الثاني من سِفرها، أمارات الارتباك التي توشك أن تُجهز على سلامة الذات الفرديّة. فالناس يتوادّون في ابتسامة السحر والانسحار؛ ويتعاتبون في إهمال التعمّد الجارح أو الإغفال البريء؛ ويفاتح بعضهم بعضًا إمّا في وداعة الاعتذار، وإمّا في دهاء التبرير الاستكباريّ؛ ويستأمن بعضهم بعضًا إمّا في راحة الاستسلام، وإمّا في قلق التحاذر؛ ويتصادقون إمّا في جرأة المصارحة الشفّافة، وإمّا في زيف الانتفاع الآنيّ الضيّق؛ ويتلاعنون إمّا في حقد المضرّة القبيحة، وإمّا في رياء المظهر الخلّاب. في غمرة هذا الاضطراب تختلط أمزجة الناس بعضها ببعض، فينبري رهطٌ منهم يتخبّطون في جموح الرغبات المتناقضة، وينصرف رهطٌ آخر إلى اجتراح المتعة المزاجيّة يتجاوزون بها ضجر الزمن الفتّاك.

تأمّلت ناتالي الخوري في وضعيّة الإنسان، فغاصت في تجارب شتّى من الوجود، وسبرت أغوار التناقضات التي تغمر مسالك الحياة. فجرّدت ريشتها لترسم هيئة الحقائق والمعاني التي يغترفها الناسُ من صميم اختباراتهم اليوميّة. فإذا بها، في نهاية مطافها، تتجاوز مخاوف الذات المنكفئة، وتعتصم بعزاء الكتابة المفرّجة، فتُفصح في حرّيّة العابرين وبساطة الزهّاد عن المشاهد التي ارتسمت في أفق تأمّلاتها، ويقينها الوحيد أنّها تشهد لما تختبره هي في ذاتها وفي الآخرين. لذلك، جاءت تأمّلاتها أشبه بمناشدات وجوديّة تلتئم فيها أساليبُ الأدب الحياتيّ العفويّ وأنماط التفكير الفلسفيّ الحرّ. أزاهيرُ العبث كتابٌ وجوديٌّ يضمّ تأوّهات الذات المتسائلة في بيان ساحر وعمق أخّاذ. يستوي نمطُه بين مقام الأدب البليغ والتفكّر الفلسفيّ الجريء. ومن ثمّ، فهو ينطوي على تناولات وجوديّة تصف أحاسيس الباطن الإنسانيّ في عبارات الإفصاح الرقيق الذي يترك للقارئ حرّيّة التأويل والإغناء والإكمال.

في ظنّي أنّ هذا النمط من الكتابة الأدبيّة المتفكّرة أو الإنشاء الفلسفيّ الوجوديّ العفويّ المتأدّب يحمل إلى الأذهان خلاصات المعاينات التحليليّة التي يحتاجها الناسُ، ولاسيّما الناشئة منهم، لاكتساب نضج التبصّر الحقيقيّ. فالنمط الجامع بين الأدب والفلسفة هو الذي يرتاح إليه القرّاء في هذه الأيّام، ينعمون بطراوة تعابيره، وسلاسة مبانيه، وجرأة مكاشفاته. وإذا ما استثنى المرء جمال العبارة ورصانة التحليل، تبقى ضمانة الكتاب الأبرز صدق النفس التي اعتملت فيها هذه التأمّلات، فهذّبتها وصقلتها وعرّتها من أوهام التألّق المزيّفة. فنادرًا ما تتساكن في أدبيّات اللبنانيّين المعاصرين بهاءاتُ النفس النقيّة وجمالاتُ السبك الأدبيّ. كتاب ناتالي الخوري غريب شهادةٌ حيّةٌ على تناصر الصدق الذاتيّ والإبداع الأدبيّ من أجل توعية الكائن الإنسانيّ وتهذيبه وتنويره وتفعيل طاقاته الخيّرة.

03 Jan, 2018 10:17:29 AM
0

لمشاركة الخبر