المفارقة في شعر بلند الحيدري
فلا مرية في أن المفارقة ظاهرة أسلوبية لها علاقة بإنتاج المعنى وتكثيره عبر التضاد والتناقض والانزياح، وهي أداة من أدوات الأسلوب الشعري تعمل على تنمية قوى التماسك الدلالي للنص، سجّلت حضورها في ساحة الأدب العربي، ولاسيما في ميدان الشعر، وهي تقدم للكاتب البارع أو الشاعر الحاذق الأدوات التي تسعفه كي يدير ظهره لدائرة التقريرية المباشرة وينعتق من أسرها، ثم لتفضي به إلى دائرة إشراق الجمال الأدبي، وكذلك تضع بين يدي المبدع الوسيلة الناجعة في كشف الحجاب عن النقائض بشتّى صورها وأشكالها في هذا العالم الذي يعج بالمتناقضات التي يتشكل منها لبابه وجوهره، فضلاً عن ذلك أنها وسيلة مخاتلة تصلح في مخادعة الرقابة والعبث بها، والتنصل من تهمة قد تُوجَّهُ إلى الكاتب أو الشاعر.
ولمّا كانت المفارقة تحمل بين جنبيها مستويين من الأداء البياني، يتسم أحدهما بالوضوح والسطحية، والآخر بالعمق والانبهام، فقد وسّعها نقل المتلقي من مضمار الاستقبال المطمئن الهادئ إلى المستقبل الحذر المريب، واستطاعت أن تغدو أداة فعّالة ووسيلة ناجعة لاختراق جدار السطحية في النص.
وعلى الرغم من العناية الفائقة- في الآونة الأخيرة- بالمفارقة في الأدب العربي (الشعر- الرواية- القصة- المقامات) فإننا نعتقد أنها ما زالت أرضاً بكراً تفتقر إلى مزيد من الفلاحة والزراعة، فمن هنا تحاول هذه الدراسة البحث في المفارقة.
وقد اخترت الشعر من نتاج الشاعر بلند الحيدري واتخذناه حقلاً للتطبيق، وكان مسوغنا في هذا الاختيار هو أن (الحيدري) مع شهرته الواسعة وغزارة شعره وإسهاماته الجادة في حركة التجديد لم تحظَ أعماله العناية اللائقة، ولم تنل نصيباً وافياً من النقد والتداول، ولم تأخذ قسمة عادلة من الدراسة في وسائل الإعلام التي أشبعت أعمال رفاقه من الشعراء نقداً ودراسةً وتمحيصاً.