Pasar al contenido principal

«ترامب بلا قناع»

أسرار شخصية الرئيس الأميركي الأكثر إثارة للجدل دونالد ترمب، وخلفيات مواقفه التي حيرت العالم يمكن للقارئ أن يتعرف إليها في كتاب تستعد «دار الساقي» لإصداره نهاية الشهر الحالي تحت عنوان «ترمب بلا قناع» مع عنوان آخر فرعي هو «رحلة من الطموح والغرور والمال والنفوذ». المؤلّف صدر بالإنجليزية، لتعريف الناخب الأميركي من دونالد ترمب على مشارف الانتخابات الأميركية، وها هو يبصر النور بالعربية.

وعمل على تقصي معلومات الكتاب أكثر من 30 مراسلاً ومحرراً من جريدة «واشنطن بوست»، وقام بالتأكد من المعلومات وتنسيقها كل من مايكل كرانيش ومارك فيشر. وتمكن المراسلون من إجراء مقابلات مع ترمب لأكثر من عشرين ساعة، ولقاءات مع محاميه وبعض أعضاء حملته الانتخابية. يخلص الكاتبان إلى أن «الرجل الذي انتخب ليكون الرئيس الرابع والخمسين أكثر تعقيداً مما توحي به لغته البسيطة، وأن دوافعه وقيمه مستمدة من والديه، ومن نشأته، وانتصاراته وهزائمه، وسعيه طوال حياته إلى الحصول على الحب والقبول». وهنا مقطع محرر من الفصل الأول يتحدث عن أصول عائلة ترمب، وما دفع جدته إلى الهجرة من اسكوتلندا، وجده من المجيء من ألمانيا.


في أحد أيام يونيو (حزيران) 2008، وفي إحدى جزر أوتر هبرديس على الساحل الشمالي الغربي من اسكوتلندا، تجمَّع بعض السكان شاخصين أبصارهم نحو السماء ومحدِّقين في طائرة آتية اتجاههم. كان شكل الجزر التي يعيشون فيها أشبه بهراوة من القرون الوسطى: ضيقة عند الطرف الجنوبي وعريضة عند الطرف الشمالي، وتتوزع داخل المياه المتلاطمة الأمواج ذات اللون الأزرق المائل إلى الرمادي. كانت معظم أراضي الجزيرة، القليلة السكان البادية من بعيد، مروجاً فسيحة وحقولاً تصل إلى المنحدرات الوعرة والشطآن الصخرية المطلّة على مجموعة من الجزر الصغيرة. انتظر سكان الجزيرة في وقت كانت فيه طائرة «البوينغ 727» تنعطف صوبهم.

على طول جسم الطائرة، كُتِبَتْ كلمة واحدة بالأحرف الكبيرة: TRUMP. هدأ هدير محركات الطائرة. أفرغ مساعدو ترمب صناديق الكتب التي أحضرها والتي كان ينوي إهداءها لسكان الجزيرة لتكون بمنزلة الرموز المقدسة بالنسبة إليهم. كُتِبَ على أحد الصناديق «ترمب: كيف تصير غنياً؟»، وعلى صندوق آخر: «إياك والاستسلام».

حيّا ترمب سكان الجزيرة. كان يرتدي بدلة غامقة وقميصاً أبيض وربطة عنق زرقاء تتدلى إلى ما دون حزامه، في حين كان شعره الأشقر يتطاير مع النسيم، ثم توجّه مع مرافقيه إلى سيارة بورش Cayenne وإلى سيارتي BMW X5. سار الموكب على الطرق المتعرجة لسبعة أميال ماراً بهضاب خضر تنحدر لتصل إلى خليج، وعبر أحياء تضم منازل تشرف على الواجهة المائية، وأبنية تضم منشآت صناعية صغيرة... إلى أن وصل إلى منزل رمادي اللون، يُعرف باسم تونغ 5 5 Tong، وهو اسم القرية الموجود فيها. ترجل ترمب من سيارته واختلس نظرة إلى داخل المنزل. كان المسكن متواضعاً إلى حدّ أنه لم يحتمل البقاء داخله أكثر من سبع وتسعين ثانية. التقِطَت الصور، وبدا أن حبكة القصة قد اكتملت بكل براعة وإحكام: «ترمب يزور مسقط رأس والدته، ماري آن ماكليود Mary Anne Macleod».

قال ترمب للمراسلين المتجمهرين: «أشعر براحة تامة هنا، عندما يعود أصل والدتك إلى مكان معين، فلا بدّ أن تحب هذا المكان. أشعر بأنني اسكوتلندي، ولكن لا تطلبوا مني أن أحدّد شعوري. ثمة شيء قوي اكتسبته من والدتي»، ثم أضاف، حتى إذا كان هناك من فاتته الملاحظة: «لدي أموال طائلة».


كان ترمب قد زار المكان مرة واحدة قبل ذلك، عندما كان في الثالثة أو الرابعة من عمره، وكانت زيارته قصيرة قدر الإمكان؛ إذ لم تتعدّ ثلاث ساعات. كانت هناك أقاويل حول نية ترمب تحويل إحدى القلاع المحلية إلى فندق فخم، ثم تغير المكان إلى موقع آخر في اسكوتلندا، حيث كان ترمب يأمل أن هذا التذكار النادر لإرثه قد يساعد في إقناع السياسيين بالسماح له ببناء منتجع ضخم يضم ملاعب غولف، إضافة إلى تنفيذ مشروع إسكاني على أرض ذات حساسية بيئية تقع قرب أبيردين.

كانت حكاية والدة ترمب قصة تقليدية تحكي عن الرغبة في حياة جديدة في أرض غريبة، ويُثقِلها حلمٌ بعيد عن الواقع بالحصول على ثروة لا تخطر في البال. في حالة أسرة ترمب، كانت الثروة ستأتي آجلاً أم عاجلاً، ولكن كان من الصعب تصوُّر هذه النتيجة في حال عدنا بالزمن إلى الوراء وتأملنا المشهد الموجود في صورة باهتة المعالم التقطت قرب الموقع الذي زاره ترمب لمدة وجيزة في ذلك اليوم الصيفي.

التقطت الصورة، وهي بالأبيض والأسود، عام 1930 في تونغ 5، وتبدو فيها امرأة منحنية قليلاً إلى الأمام ترتدي ثوباً طويلاً وشعرها مربوط خلف رأسها، وقد التف نطاق حول كتفها. كان النطاق مربوطاً إلى صرة فوق ظهرها يبلغ حجمها عشرة أضعاف حجم رأسها. واستناداً إلى الجملة التي كتبتها الجمعية التاريخية في تونغ، هذه المرأة هي إحدى أسلاف ترمب، وقد تكون جدته لأمه: «تحمل على ظهرها سلة مليئة بالأعشاب البحرية». تظهر في خلفية الصورة شابة، قد تكون والدة ترمب، ماري ماكليود، وكانت آنذاك في الثامنة عشرة من عمرها، وبدأت تخطط لمغادرة جزيرتها، حيث الفقر المدقع، للذهاب إلى أميركا.


نشأت ماري في ذلك المكان البعيد وكانت تتكلم باللهجة الغاليّة Gaelic المحلية. كانت قرية تونغ هي مسقط رأس والدَي ماري وجدّيها وأسلاف جدّيها، وعدد لا يُحصى من أبناء الأعمام والأخوال والعمات والخالات. كانت الأرض المحيطة بالمنزل مجرّد حقل صغير مسوَّر، أشبه بالمزرعة الصغيرة التي كانت الأم تُعنى بها، وهو ما مكَّن الوالد من قضاء معظم وقته في صيد السمك. كانت حياة شحيحة، وصفتها إحدى الوثائق التاريخية المحلية بأنها «قذرة على نحو لا يوصف... كانت أبواب المنازل منخفضة حتى كان السكان يضطرون إلى الزحف للدخول إليها والخروج منها». كانت العائلات تكافح معاً لتتدبّر الدخل كيفما اتفق، عن طريق زراعة التربة الحمضية وتربية المواشي، والصيد في الخلجان والأنهار القريبة، وجمع الفحم لبيعه أو لاستخدامه وقودا، وجمع أعشاب البحر لاستخدامها سمادا في تلك الأرض العسيرة على الزراعة. كان من الشائع أن يغرق الرجال في مراكب الصيد التي يعملون عليها، وهو ما حدث لجد ماري، دونالد سميث Donald Smith عام 1868، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز الرابعة والثلاثين. وبعد عقود، أطلقت ماري اسمه على ابنها، دونالد ترمب.

كانت عائلة ماكليود تُفاخر بالمواشي القوية البنية الموجودة في الجزيرة؛ وكانت الشارة المميزة للعائلة رأس ثور وشعار يقول: «ابق صامداً»، لكن الصمود صار شبه مستحيل مع بداية الكساد الكبير Depression Great. وفي خريف 1929، لم تكن تتوافر للشابات، إلا نادراً، الفرصة ليعشن حياة غير حياة المزارعات أو جامعات الأعشاب البحرية ومنجبات للأطفال. هكذا، في السابع عشر من فبراير (شباط) 1930، وفي أعقاب الثلاثاء الأسود Black Tuesday (يوم انهيار أسعار الأسهم في بورصة نيويورك) وكل ما رافق الكساد من كآبة وبؤس، صعدت ماري آن ماكليود إلى سطح سفينة ترانسلفانيا Transylvania، وهي سفينة ذات ثلاث مداخن كانت قد بنيت قبل ثلاث سنوات. كان طول السفينة، بين مقدمتها ومؤخرتها، 552 قدماً، وكان طول دعامتها الأفقية 70 قدماً، وكانت تقل 1432 راكباً.

يبدو أن ماري الشابة الجذابة ذات البشرة البيضاء والعينين الزرقاوين، كانت وحدها، فقد ورد اسمها في ملفات السفينة ضمن أسماء McIntoshes وMcGraths وMcBrides. سجلت ماري نفسها «مساعدة منزلية»، وهو تعبير فضفاض يتسع لكلمة «خادمة» أو لأي عمل آخر قد تجده لدى وصولها إلى نيويورك. أخبرت ماري المسؤولين في دائرة الهجرة، في جزيرة إيليس، أنها تخطط للإقامة في منطقة كوينز مع شقيقتها الكبرى كاترين، التي كانت قد تزوجت وأنجبت طفلاً منذ وقت قريب، وقالت ماري إنها تخطط أن تكون مقيمة دائمة، وتأمل في الحصول على جنسية البلد الذي اختارت العيش فيه.


بحلول 1929، كان الكونغرس قد أقر تشريعاً يقلص حصص المهاجرين من بلدان عدة، من بينها بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا. وسرعان ما طرد مئات الألوف من المكسيكيين. أما المهاجرون من الصين واليابان وأفريقيا والجزيرة العربية، فصارت فرصهم محدودة للحصول على الجنسية. وفي الوقت نفسه، رفع الكونغرس إلى الضعف تقريباً حصص المهاجرين من عدد من الجزر البريطانية. هكذا، لقي قدوم ماري، وهي المنحدرة من العرق المفضَّل من البيض البريطانيين، ترحيباً في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تغلق الأبواب بوجه الكثير من المهاجرين من مناطق أخرى.

بينما كانت ماري تعبر المحيط الأطلسي، واجهت سفينة ترانسلفانيا عاصفة عاتية. أخيراً، عندما وصلت السفينة إلى ميناء نيويورك، أثارت الأمطار المنهمرة بغزارة أمواجاً عاتية. وأدت الصواعق إلى انقطاع التيار الكهربائي، حتى عن مشعل تمثال الحرية، الذي كان رغم كل شيء يرحب بالفقراء وبالكادحين في العالم. في اليوم الذي وصلت فيه ماري إلى نيويورك، كانت القصة الرئيسية على الصفحة الأولى من صحيفة «نيويورك تايمز»، مطمْئِنة: «مرّت أسوأ أيام الكساد، هكذا يقول هوفر، بالتعاون نتغلب على المحنة Cooperation Lessening Distress». كان هوفر يعلق آماله على ازدهار حركة العمران، التي كان يصرّ على أنها تسارعت «أكثر مما كنا نأمل»،. لكن آماله كانت مفرطة في التفاؤل. وسرعان ما جرى إحلال حاكم نيويورك الديمقراطي فرانكلين ديلانو روزفلت Franklin Delano Roosevelt محله في البيت الأبيض، وتطلّب الأمر سنوات من التدخل الحكومي لإنقاذ أميركا من الكساد، ولكن كان هناك رجل يشارك هوفر آماله في حصول ازدهار عمراني، وهو شاب يدعى فريد ترمب Fred Trump، وكان ابناً لمهاجر ألماني، كما كان على وشك تكوين ثروة عن طريق بناء مساكن متواضعة في المنطقة نفسها من نيويورك التي أُرسلت إليها ماري ماكليود.

يبدأ الفصل الخاص بأسرة ترمب في القصة الأميركية الطويلة للعائلة من جدّ دونالد، فريدريك Friedrich. نشأ فريدريك في قرية تنتج الخمر وتقع جنوب غربي ألمانيا تدعى كالشتاد، وكانت القرية تبدو للوهلة الأولى خضراء ومزدهرة، لكنها كانت أصغر من أن تتسع لطموحات المراهق الذي سيصير جد دونالد ترمب لأبيه.

رغم ذلك، لم يكن فريدريك يرى لنفسه أي مستقبل في قرية بلاتِنت، وقرر الانضمام إلى ركب الألمان الباحثين عن حياة أفضل في الولايات المتحدة. قطع فريدريك مسافة 350 ميلاً صوب الشمال إلى بريمن، وهو ميناء يعج بالمهاجرين، وصعد إلى ظهر سفينة أيدر Eider. كانت السفينة الألمانية، ذات المدخنتين، العابرة للمحيط الأطلسي، متجهة نحو مدينة نيويورك، حيث سيلتحق بشقيقته الكبرى، كاترين، التي كانت قد تزوجت مهاجراً من كالشتاد. وصل فريدريك إلى نيويورك في التاسع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) 1885. ورد في سجلات الهجرة أن مهنته كانت «مزارعاً»، وأن اسمه كان فريدريك ترمبف Trumpf، لكنه سرعان ما صار يُعرف باسم ترمب، وكان لا يتجاوز السادسة عشرة من العمر.

 

25 Mayo, 2017 05:32:28 PM
0