Pasar al contenido principal

دفن رفات الماضي

يُلقي ديفيد أندرسون نظرةً على القضايا المثيرة للجدل التي تُطِلُّ برأسها أثناء محاولة كينيا التصالح مع ماضيها الاستعماري.

كانت نهاية الحكم الاستعماري البريطاني في كينيا نهايةً دموية ووحشية؛ ففي أكتوبر ١٩٥٢ أُعلنت حالة الطوارئ من أجل قتال متمردي قبيلة كيكويو المعروفين باسم الماو ماو. قُضي على التمرد عام ١٩٥٦، لكن ظلت قوات الطوارئ حتى يناير ١٩٦٠.

شنَّ البريطانيون حملةً موسَّعةً من الاعتقال دون محاكمة، وطبَّقوا عقوبة الإعدام على مجموعة كبيرة من الجرائم. أشارت الإحصائيات الرسمية إلى أن وفيات المتمردين زادت عن ١٠ آلاف شخص، لكن من المحتمل أن يكون الرقم الحقيقي ضعف ذلك؛ أما المتمردون فقد اغتالوا ما يزيد عن ٢٠٠٠ «متواطئ» أفريقي. قُدِّمت قصة هذا الصراع في كينيا بوصفها واحدةً من قصص البطولة الوطنية، وفي بريطانيا بوصفها حلقةً من حلقات تفكُّك الإمبراطورية، لكن كلتا الروايتين يمكن الطعن فيهما.

لطالما تمنَّت جمعيات المحاربين القدماء التابعة لمنظمات الماو ماو مقاضاة البريطانيين بسبب جرائم الحرب التي ارتكبوها. وعلى الرغم من أن الحكومة الكينية لم تدعم ذلك علنًا، فإنها شجعت مؤخرًا هذا الطموح بأن رفعت الحظر عن منظمات الماو ماو التي ظلت محظورة لأكثر من خمسين عامًا بموجِب تشريعات قوات الطوارئ الاستعمارية القديمة. وتولت البعثة الكينية لحقوق الإنسان هذه القضية. وبدأ أيضًا التحقيق الشعبي للتقصي عن جرائم الحكومات الكينية في ظل قيادة جومو كينياتا ودانيل أراب موي، وكذلك حكومات الاستعمار.

مع ذلك، لا يمكن اختزال حرب الماو ماو إلى قصة أخلاقية حديثة، فهذا الصراع الحامي قسَّم مجتمعات الكيكويو الموجودة في المحافظة الوسطى في كينيا؛ فكثير من الناس لم يرغبوا في دعم العنف، ووقف مسيحيو الكيكويو على وجه التحديد ضد المتمردين. أنشأ البريطانيون حركة «موالين» جنَّدوا فيها ما يزيد عن ٦٠ ألف رجل من الكيكويو، وكان معظم العنف الذي تمارسه منظمة الماو ماو موجَّهًا نحو هؤلاء «المتواطئين». جنى الموالون الكثير من المكاسب من عقاراتٍ أو أراضٍ أو حقوقٍ سياسية، أما المتمردون ومؤيدوهم فكانوا يتعرضون للسجن والتجريد من الأملاك.

إن الاحتكام إلى حقوق الإنسان وتحريك دعاوى قضائية ضد جرائم الحرب والمطالبة بتعويضات، كل ذلك يمثِّل جانبًا واحدًا فقط من هذا الصراع. لم يكن المدنيون الذين وقعوا ضحايا للأعمال الوحشية التي ارتكبتها منظمة الماو ماو — وهؤلاء كانوا كثيرين — متعاطفين مع فكرة دفع تعويضات لمقاتلي الماو ماو. وعلى الرغم من أن الماو ماو كانوا يقدمون مطالبهم تحت مسمى القومية، فإن حركتهم أدَّت إلى تقسيم الأمة.

إن كينيا — من بين الدول الكثيرة التي خضعت للاستعمار في السابق — هي آخر دولة تحوِّل نظرها إلى خطايا الماضي. فقد ظهرت موجة المطالبات التاريخية هذه عام ١٩٩٤ عندما تصدرت أفريقيا الأخبار العالمية لأفضل الأسباب وأسوئها. ففي ذلك العام وضعت انتخابات جنوب أفريقيا نهايةً لحقبة الفصل العنصري؛ في حين بدأ جحيم الإبادة الجماعية في رواندا.

في جنوب أفريقيا، كشفت لجنة الحقيقة والمصالحة النقاب عن مظالم الحكم في ظل سياسة الفصل العنصري. وفي رواندا جاء التصالح تدريجيًّا، لكن الإصرار على إنهاء «ثقافة الإفلات من العقوبة» فيما يتعلق بالفظائع التي ارتُكبت في أفريقيا كان واضحًا في الالتزام بمقاضاة المتهمين المزعومين في قضية الإبادة الجماعية في محكمةٍ انعقدت في تنزانيا.

حذت دول أخرى حذو كينيا، ففي ناميبيا سيطرت مذبحة شعب الهيريرو على يد الألمان عام ١٩٠٤ على مسرح الأحداث، غير أن التجاوزات التي ارتكبها المتمردون القوميون تحت قيادة منظمة سوابو (منظمة شعب جنوب غرب أفريقيا) لم تصل إلى بؤرة الاهتمام. وفي الجزائر، أجَّجت اعترافات جنود الاستعمار السابقين باستخدام التعذيب في الحرب ضد القوميين، نيرانَ الجدل حول دور الجزائريين الذين عاونوا الفرنسيين. وفي سيراليون كشفت لجنة الحقيقة والمصالحة عن تاريخ الحرب الأهلية الطويلة، أما في نيجيريا فإن ازدياد وطأة الفساد، ونهب كبار المسئولين لأموال الدولة قد أسفرا عن إجراء تحقيقات تاريخية.

في تلك الأمثلة، هناك حالة تضارُب بين المطالبات بالقصاص والتعويضات من جانب، وبين الرغبة الشعبية العارمة في معرفة ما حدث من جانب آخر. فمثل تلك المطالبات لها جذور عميقة في عالم السياسة الذي يشوبه النزاع، وأيضًا يغذِّيها الخوف من احتمال إخفاء الماضي عن التحقيق؛ وفي هذا الصدد لا تُعَدُّ كينيا حالة استثنائية.

خسرت منظمة الماو ماو حربها ضد البريطانيين، وخسرت السلام أيضًا. لم يكن لدى كينياتا وقت ﻟ «مقاتلي الحرية» السابقين. كان يتحدث كثيرًا عن الحاجة إلى «الصفح والنسيان» و«دفن الماضي»، لكنه لم يعترف قطُّ بحقوق أو مكافآت أو تعويضات حقيقية يستحقها مقاتلو الماو ماو. وعندما سُئل عن الدور المستقبلي لمنظمة الماو ماو في عام ١٩٦٣، كان جوابه قاطعًا: «لن نسمح للسفاحين أن يحكموا كينيا.»

تحتفل كينيا بِعِيد استقلالها كل عام في يوم ١٢ ديسمبر، ويُعرف بيوم أوهورو. ولم يُسمح مطلقًا بأن يصبح ذلك اليوم احتفالاً بكفاح منظمة الماو ماو، وهكذا أُخمدت الذكريات الشعبية الخاصة بمعسكرات الاعتقال والمذابح والعقوبات. لكن مؤخرًا، تمكن محاربو الماو ماو القدماء من إسماع الآخرين أصواتَهم؛ فهم يتجاهلون يوم أوهورو، ويجتمعون لإحياء ذكرى حربهم في فبراير الذي يوافق ذكرى إعدام زعيم الماو ماو ديدان كيماثي.

أصبحت ذكرى كيماثي موضوعًا سياسيًّا مثيرًا للجدل. فقد ألقى البريطانيون القبض على كيماثي في أكتوبر ١٩٥٦ وأعدموه في فبراير ١٩٥٧. أُودِع رُفاتُه في مقبرة مجهولة في أرض سجن كاميتي بجوار ١٠٠٠ ضحية أخرى من ضحايا أحكام الإعدام التي أصدرها البريطانيون. وقد كان السعي وراء العثور على مقبرة كيماثي والمطالبة بتخصيص مكان لإحياء ذكراه؛ هو ما دفع الحكومة الكينية إلى إعلان البحث الرسمي عام ٢٠٠٣، وتخصيص موقع وطني تذكاري في حدائق أوهورو في نيروبي. وسوف يوضَع رفات كيماثي ليرقد في سلام في «ساحة الأبطال».

لم يتمكن الكينيون من التعرف على رفات كيماثي، لكن مشروع «ساحة الأبطال» قد بدأ. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: مَنْ سيحظى بشرف الدفن في هذا الموقع التذكاري القومي؟

تستمر المقابر المجهولة في الظهور في كل أرجاء أرض قبيلة جيكويو. بعض هذه المقابر يضم رفات المتمردين والمشتبه بهم الذين قتلتهم قوات الأمن، والبعض الآخر يضم رفاتَ أشخاص أعدمتهم منظمة الماو ماو. وبعض المواقع كان معروفًا منذ زمن، مثل موقع أوثايا؛ حيث كان يُدفن المتمردون المقتولون أثناء الهجوم على المقار الشرطية البريطانية. والبعض الآخر أُعيد اكتشافه مؤخرًا. ظلت بعض مواقع الدفن تحت الحماية على مدار سنوات، ومَنَع السكان المحليون البناء على هذه الأرض.

هل ينبغي إحضار العِظام من كل هذه المواقع إلى «ساحة الأبطال»؟ وإذا كان هذا ممكنًا، فهل يمكن تمييز المتمردين من الموالين؟ هل ينبغي دفن الموالين في «ساحة الأبطال» من الأساس؟

تأكدت الحاجة إلى ضرورة الإجابة عن تلك الأسئلة مع اكتشاف مجموعة من الرفات البشري في المتحف القومي الكيني في نيروبي. وهذه المجموعة مكونة من ٤٧٥ هيكلًا عظميًّا بشريًّا، ومعظم هذه الهياكل به علامات تدل على التعرض للعنف عند الوفاة. وُجدت مع هذه الهياكل لافتة توضيحية تقول: «هذه الهياكل العظمية هي مجموعة من رفات أفارقة (معظمهم من قبيلة جيكويو) تعرضوا للقتل أثناء فترة الطوارئ الكبرى ما بين ١٩٥٢–١٩٦٠. كشفت قوات الشرطة عن هذه المجموعة، واستخرجتها، ثم استخدمتها كدليل ضد الماو ماو. وقد تبرع الطبيب موريس روجوف — الذي كان يشغل منصب كبير الأطباء الشرعيين آنذاك — بهذه المجموعة للطبيب ليكي.»

معظم أصحاب تلك الجثث كانوا ضحايا عمليات اغتيال نفذتها منظمة الماو ماو؛ حيث وُضعت جثامينهم أسفل المراحيض أو دُفنت في قبور ضحلة ليُعثر عليها في التحقيقات الشرطية التالية. ومع جمع الأدلة، بدأت المحاكمات في بعض قضايا القتل المتعلقة بتلك الهياكل. لكن بعد الاستماع إلى الأقوال، لم يطلب أحد من أقارب القتلى جمع رفات ذويهم، وظلوا مع الطبيب الشرعي إلى أن أعطاهم أخيرًا للطبيب لويس ليكي في المتحف.

ما زالت تلك الجثث تقبع في المتحف حتى الآن. كل واحد من هؤلاء القتلى — سواء أكان مواليًا أم متمردًا — هو ضحية لكفاح كينيا من أجل الاستقلال. ويجب الآن أن يُدفنوا جميعًا دفنًا كريمًا، وستكون «ساحة الأبطال» مكانًا جيدًا مثلها مثل أي مكان آخر. ومع أن هذا الأمر لن يقرِّب محاربي الماو ماو القدامى من الحصول على التعويضات، فإنه قد يقرِّب الأمة الكينية من التصالح. وقد يبدو هذا عملاً مناسبًا في عصرٍ تكفِّر فيه أفريقيا عن خطاياها.

29 Dic, 2015 12:00:40 PM
0