Aller au contenu principal

«مقتل» فنسنت فان جوخ

هل لم يمت الرسام العظيم المنتمي إلى مدرسة ما بعد الانطباعية فنسنت فان جوخ (١٨٥٣–١٨٩٠) منتحرًا — كما سجَّل التاريخ — وإنما مات على يد مراهق مشاغب يحمل مسدسًا، سواء إثر جريمة قتل أو حادث تم التعتيم عليه؟ طُرِحت وجهة النظر الأخيرة في آخر سيرة صدرت عن الفنان المضطرب تحت عنوان «فان جوخ: الحياة»، من تأليف ستيفن نايفه وجريجوري وايت سميث (٢٠١١). (انظر: «هل مات فنسنت فان جوخ مقتولًا؟» ٢٠١١.) وأخبر نايفه مورلي سيفر مراسل برنامج «٦٠ دقيقة» الذي تذيعه محطة سي بي إس، أن فان جوخ بادعائه أنه أطلق النار على نفسه «كان يتستر على جريمة قتله» (سي بي إس نيوز، ٢٠١١).

 تساؤلات حول الوفاة

وفقًا لما ورد في مصادر متعددة — في المراجع المعتادة وكذلك في السيرة الأدبية الأكثر مبيعًا التي ألَّفها إرفينج ستون بعنوان «شهوة الحياة» (١٩٣٤)، والفيلم الذي يحمل العنوان نفسه من بطولة كيرك دوجلاس (١٩٥٦) — فقد تُوُفِّيَ فان جوخ متأثرًا بجراحه عقب إطلاقه النار على نفسه. وكان قد ذهب إلى الحقول لكي يرسم، ولكنه عوضًا عن ذلك — إذ يئس من الحياة — استخدم مسدسًا ليطلق النار على نفسه أسفل ضلوعه مباشرة.

لم يمت فان جوخ إثر إطلاق الرصاص مباشرة، ولكنه جاهد الألم وقطع بشق الأنفس مسافة تفوق الميل عائدًا إلى غرفته في أوفير سور واز (بلدة فرنسية تقع شمال شرقيِّ باريس)، وهناك أخبر أصدقاءه وأخاه ثيو والأطباء والشرطة أنه المسئول، وقال: «لا تتهموا أحدًا، أنا أردت قتل نفسي.» وظل ينازع قرابة ثلاثين ساعة قبل أن يموت بين ذراعَيْ ثيو (نايفه وسميث، ٢٠١١، ٨٥٠–٨٦٩).

وقد قدَّم نايفه وسميث (٢٠١١، ٨٥٦) سيناريو مختلفًا تمامًا استنادًا إلى شائعة ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، مفادها أن بعض «الصبية» أطلقوا النار على الرسام بالخطأ. حاول المؤلفان ربط تلك الشائعة التي صدرت متأخرة بتصريح جاء بعدها، أدلى به رجل في الثانية والثمانين من عمره بعد صدور فيلم «شهوة الحياة» عام ١٩٥٦ بفترة وجيزة، فحكى رينيه سيكريتان — الذي كان في السادسة عشرة من عمره وقت وفاة فان جوخ — كيف كان يطيب له هو وأصدقائه أن يدبِّروا المقالب لذلك الرسام غريب الأطوار. ويشير المؤلفان إلى أن ذلك السلوك قد أفضى — بطريقة أو بأخرى — إلى إطلاق النار على ذلك الفنان. وعلى الرغم من أن شقيق رينيه الأكبر كان صديقًا لفان جوخ، فقد ضمَّه نايفه وسميث إلى السيناريو الذي وضعاه أيضًا. وادَّعى رينيه أن فان جوخ كان قد سرق المسدس القاتل من حقيبته — أو لا بد أنه قد فعل ذلك — بينما كان رينيه يصطاد الأسماك؛ لأنه لم يجده بعدها (٨٧٠–٨٧٦)، وادَّعى رينيه بدوره أنه قد اشترى المسدس أو استعاره من جوستاف رافو، صاحب النُّزُل الذي كان فان جوخ مقيمًا به (٨٧١).

احتمال بديل

على الرغم من أن رينيه سيكريتان لم ينبس ببنت شفة فيما يتعلق بإطلاق النار على فان جوخ، فقد تمادى المؤلفان في إشارتهما إلى القتل الخطأ أو ما هو أسوأ؛ فطرحوا عددًا من الأسئلة اعتقدوا أنها تشير إلى شيء — أي شيء — غير الانتحار (٨٦٩–٨٨٥). وسوف أتناول هنا كل سؤال وأقدِّم له إجابة أقرب إلى الواقع.

(١) وفقًا لرواية ابنة صاحب النُّزل، كان فان جوخ قد حصل على المسدس القديم (الذي كان يصيبه العطب أحيانًا) من أبيها مباشرةً «بغية إبعاد الغربان». فيشير نايفه وسميث إلى أن صاحب النُّزل قد ابتكر تلك «القصة الملفَّقة» حتى «يواري تورطه». وهما يعتبرانها «محض افتراء؛ إذ إن فنسنت لم يكن يخشى الطيور، وكان يتفاءل بالغربان بصفة خاصة» (٨٧٩). فهل لنا أن نصدق تلك الرواية حقًّا؟

فماذا لو كان فان جوخ قد قال إنه سيستخدمه لإخافة الغربان «حتى تطير»، لكي يتسنَّى له أن يرسمها أثناء تحليقها؛ تمامًا مثلما صوَّرها في لوحته «الأخيرة» بعنوان «حقل القمح مع الغربان»؟ (لم تكن تلك لوحته الأخيرة حقًّا؛ إذ إنه رسمها يوم ١٠ يوليو؛ أي قبل انتحاره بأكثر من أسبوعين (نايفه وسميث، ٢٠١١، ٨٧٩).) أعتقد أن تلك الفرضية الجديدة تتماشى مع رغبة فان جوخ في استخدام النماذج الحية في الرسم. فالجميع متفقون على أن المسدس كان ملكًا لصاحب النُّزل؛ لذا حريٌّ بنا أن نمنح إفادته — حتى إن نُقِلَت عن ابنته — أعلى درجة من المصداقية.

(٢) كيف يمكن تفسير غياب متعلقات فان جوخ — حامل لوحاته، وحقيبة الكتف التي بها فُرَش الرسم والألوان، وقماش الرسم — سوى أنه عقب إطلاق النار عليه توافرت لرينيه وشقيقه «على ما يبدو سعةُ الوقت وحضور الذهن الكافيان لجمع المسدس ومتعلقات فنسنت كلها قبل أن يهرعا مبتعدين تحت جنح الظلام الذي كان يهبط عليهما» (٨٥٠، ٨٧٣)؟

ولكن ما الذي قد يدفع الأخوين سيكريتان إلى أخذ ممتلكات فان جوخ باعتبارها جزءًا من «تغطية متعجلة لفعلتهما»؟ فإن إبعاد متعلقاته — غير أنه لن يساعدهما على الإطلاق في إخفاء فعلتهما — لن يسفر عن شيء سوى الإشارة إلى تورط آخرين، وإنْ رآهما أحد يحملان أدوات رسم كبيرة كتلك، فهذا من شأنه أن يؤكد إدانتهما. فربما يكون فان جوخ قد تخلص من تلك المتعلقات بنفسه (بل ربما يكون قد ألقاها في النهر) في غمار إحدى ثورات الغضب التي كانت تنتابه، وقد عقد العزم على أنه لن يحتاجها مجددًا، أو ربما يكون قد هجرها في بقعة منعزلة.

(١) لو كان فان جوخ قد ذهب إلى حقول القمح البعيدة ليرسم، كيف تمكَّن — بعد إطلاق النار على نفسه — من أن ينزل منحدرًا شديدًا ويمشي مسافة تزيد عن ميل للعودة إلى النُّزل، وهو «أمر شبه مستحيل في حالته»؟

لا تدحض تلك الحجة فكرة الانتحار؛ فبعد مرور سنوات، ذَكَر عجوزان من أهل المنطقة أن سلفَيهما — أبا أحدهما وجدَّ الآخر — قد رأيا الرسام في مكان آخر يبعد عن النُّزل مسافة تقل عن نصف الميل، وهو في طريقه للدخول إلى فناء صغير لإحدى المزارع حيث ارتكب فعلته. إلا أن كليهما قد رأى الرسام بمفرده، ولم يذكر أيٌّ منهما حيازته لأدوات رسم أو وجود مراهقين برفقته (٨٧٢-٨٧٣).

(٢) لماذا أطلق فان جوخ — إن كانت نيته الانتحار — الرصاصة في ذلك المسار العجيب؛ إذ حمل المسدس «على ارتفاع منخفض للغاية موجهًا إياه إلى الأسفل» (٨٥٤)، إن كان ينتوي قتل نفسه برصاصة قاتلة في قلبه على سبيل المثال؟ فيقول المؤلفان إنها «بدت زاوية عجيبة ناتجة عن إطلاق النار خطأً، وليست الاستقامة المدروسة المرتبطة بانتحار متعمد» (٨٥٤). ولمَ لم يكن الجرح ناجمًا عن تماسٍّ وإنما عن «إطلاق النار من مسافة أبعد» (٨٥٥)؟

يوحي طرح مثل هذه الأسئلة بأن المؤلفين يظنان أن حالات الانتحار كلها أعمال جريئة متسمة بالهدوء والعقلانية، تتم طبقًا لصيغة محددة، في حين أنها في الواقع قد تتم في ظل تردد واضطراب وظروف استثنائية. فربما افتقر فان جوخ إلى الحزم في ارتكابه تلك الفعلة، كحالته عندما جرح نفسه سابقًا بقطع الجزء الأسفل من أذنه فحسب (٧٠٤). لذا ينبغي أن يحذر المؤلفان الثنائية الزائفة المتعلقة بالإشارة إلى أنه: إن لم يكن فان جوخ قد أطلق النار على قلبه أو رأسه، فالأرجح أن أحدًا آخر هو من أطلق النار عليه. وفيما يتعلق بالمسار، فقد يشير إلى أن الرسام كان يمسك بماسورة المسدس الصغير في يده اليسرى (واضعًا راحته أسفل ماسورة المسدس لا أعلاها)، ثم مد ذراعيه، واعتصر الزناد بإبهام يده اليمنى. وربما يكون قد ضغط الزناد ضغطة مهزوزة، غيرت مسار الطلقة تمامًا.

(١) لماذا لم يطلق فان جوخ النار ثانيةً عندما أخطأت الطلقة الأولى هدفها؟ ولماذا «اختار عوضًا عن ذلك سبيلًا أكثر إيلامًا وإحراجًا إلى حدٍّ كبير بعودته إلى غرفته في عليَّة نُزل رافو» (٨٧٤)؟

طبقًا لرواية صاحب النزل، حسبما تذكرت ابنته: «أطلق فنسنت النار على نفسه ثم غاب عن الوعي، ثم أعادته برودة الليل إلى وعيه، فجثا على ركبتيه باحثًا عن المسدس لينهي المهمة التي بدأها، لكنه لم يستطع أن يجده، فنهض فنسنت ونزل الهضبة عائدًا إلى النُّزل الخاص بنا.» (٨٥٢). إلا أنه قد ينطبق على هذه الحالة أيضًا قوْل: «لا يُلدَغ مؤمن من جحر مرتين.» فقد أخبر فان جوخ الآخرين بالفعل — وهو طريح الفراش في الساعات السابقة لوفاته — أنه كان عاقد العزم على إنهاء حياته. ويدَّعي الفنان إميل برنار أن فان جوخ قد أخبر الآخرين أنه «كان ليعيد الكرَّة» (٨٨٣، رقم ٨٧). (إلا أن المؤلفَيْن — اللذين يتبنيان وجهة نظر مخالفة — يعتبران ذلك محاولة للتضليل.)

(٢) عندما جاء رجال الشرطة للتحقيق صبيحة الحادث، سألوه: «هل أردت الانتحار؟» فأجاب الرجل الجريح قائلًا: «نعم، أظن ذلك.» وبعد أن ذكَّروه بأن الانتحار مخالف للقانون — وجريمة في أعين الدولة والرب على حد السواء — أصرَّ على أن تلك الفعلة قد اقترفتها يداه، وألحَّ قائلًا: «لا تتهموا أحدًا؛ أنا أردت قتل نفسي.» (٨٥١). ألا تشير تلك المراوغة إلى أنه كان يحمي الأخوين سيكريتان؟ ولكن لماذا؟ «الإجابة عن ذلك السؤال — من وجهة نظرنا — هي أن فنسنت كان مرحِّبًا بالموت!» بالفعل، «لا بد وأن فنسنت لم يرَ سببًا، ولا داعيًا، لأن يُلقي بالأخوين سيكريتان — حتى رينيه المزعج المهمل — في غمار التحقيق والإحراج العلني لمجرد أنهما قدَّما له ذلك الصنيع.» (٨٧٥). والواقع أن جواب فان جوخ: «نعم، أظن ذلك.» يعكس بوضوح عدم تأكده ما إذا كانت نيته هي إيذاء نفسه مجددًا فحسب، أم أنه قصد إنهاء حياته فعلًا. فتؤكد مراوغته افتقار فعلته ذاتها للحزم، كما ذكرنا آنفًا. وهي لا تشير قطعًا إلى عدم تأكده من هوية من أطلق النار عليه! ولا شك أن الهدف من إصراره بعدها على أنه وحده المسئول كان هو أن تتفهم الشرطة ما حدث ولا تلاحق الأبرياء. بالإضافة إلى ذلك، إن كان الأخوان سيكريتان ينتويان قتل فنسنت، فلماذا لم يطلقا عليه النار ثانيةً؟ وإن كان إطلاق النار حادثًا عرضيًّا، فلماذا لم يقدِّما له المساعدة؟ فقد كان الشقيق الآخر صديقًا مقرَّبًا لفان جوخ.

التشريح النفسي

نظرًا لأنني توليت التحقيق في عدد من الوفيات — من جرائم قتل وانتحار وحوادث لحساب الشرطة وغيرها من الجهات (على سبيل المثال: نيكل، ١٩٩٢)، فضلًا عن التحقيق في الوفيات الغامضة في التاريخ (على سبيل المثال: نيكل، ٢٠٠٥) — يمكنني القول إن مثل هذه الوفاة لا يصح فيها البدء بإجابة افتراضية وتقصِّي الأدلة استنادًا إليها. وأعتقد أن نايفه وسميث قد ارتكبا ذلك الخطأ بعينه؛ فذلك مثال على «الانحياز التأكيدي».

ويقول أحد الخبراء إنه عند التحقيق في حالة انتحار مشتبه بها أو محتملة، «من المهم ملاحظة أن المُتَوَفَّى قد يكون قد عبَّر عن رغبته في الانتحار من خلال أنشطة قام بها أو عبارات أدلى بها قبل وفاته.» ويمكن فعلًا إجراء عملية تشريح نفسي متعمِّق «بغية الوقوف على حالة الشخص العقلية قبل واقعة الوفاة» (جيبرث، ١٩٩٣).

وتقدِّم رسائل فان جوخ الشهيرة (فان جوخ-بونجر ١٩٨١) وغيرها من المواد المأخوذة عن سيرته معلومات وافرة عن اكتئابه المزمن، بل وعن فترات أُصيب فيها بجنون مطبق. فمنذ عام ١٨٧٧ في أمستردام كان يتأمل في الموت باعتباره مَهْربًا؛ فرصة «للابتعاد عن كل شيء». وتحدَّث مرارًا وتكرارًا عن مشاعر «الخواء» و«الحزن العميق» و«أسًى يعجز عنه الوصف»، وكان يأتي على ذكر الانتحار في كثير من الأحيان — وإن كان عادةً ما يرفضه. إلا أنه في بعض الأحيان كان يشعر أن «فظاعة» و«بُغض الحياة» يطغيان عليه بحيث كان ليُقبل على الموت بصدر رحب (نايفه وسميث، ٢٠١١، ٨٥٢-٨٥٣).

ومن حين لآخر كان يذكر إمكانية الانتحار غرقًا؛ فكتب ذات مرة: «إنني أحاول أن أتعافى، كمن انتوى الانتحار لكنه اتجه إلى الشاطئ لأنه وجد الماء شديد البرودة.» (لاحِظ مجددًا أسلوب المراوغة.) وعندما نُبِذ حبه في عام ١٨٨٢، خطر على باله «القفز في الماء» من فرط يأسه (ورد في نايفه وسميث، ٢٠١١، ٨٥٣).

وقد كان فان جوخ معتادًا على إيذاء نفسه؛ إذ كان يميل إلى عقاب الذات؛ فقد اعتنق مذهب الإحساس بالذنب وكراهية الذات، والذي كان يعزوه جزئيًّا إلى خلفيته المسيحية، وقال: «عندما ننظر إلى الآخرين الذين حققوا أكثر مما حققناه، أو مَن هم أفضل منَّا، سرعان ما نصير نكره حياتنا لأنها لا ترقى لحياة الآخرين.» (رسالة مؤرخة في ٩ ديسمبر ١٨٧٧). وكثيرًا ما كان لا يأكل سوى الخبز ويتجنب ارتداء المعطف الواقي في المطر والبرد، ويعاني الحرمان من النوم، وكان ينام أحيانًا على أرضية صلبة، أو حتى على الأرض الباردة. وفي أحيان أخرى كان يضرب نفسه بعصا المشي، ضمن ألوان الإيذاء الأخرى التي أذاقها لنفسه. وعلى الرغم من أن عقاب الذات دافع يختلف بطبيعته عن الانتحار، فإن فان جوخ ليس حالة طبيعية؛ فقد كان من الواضح أن إيذاءه لنفسه يزداد (انظر: نايفه وسميث، ١٦٧، ٨٨٣، رقم ٣٩).

وقد تعرَّض فان جوخ للانهيار عدة مرات في حياته. وفي فترة من فترات المعاناة الشديدة، عاش فان جوخ في ظل نقاشات محتدمة مع زميله الرسام بول جوجان في مدينة آرل، وكان فان جوخ على شفا الانهيار؛ فكان يشرب الأفسنتين ويعاني من الهلاوس. وكتب في مذكراته: «أسأل نفسي: هل أنا مجنون؟» وعندما عقد جوجان العزم على الرحيل خوفًا من حدوث «نوبة مأساوية وقاتلة» (نايفه وسميث، ٢٠١١، ٧٠١) من شأنها أن تهدد سلامته الشخصية، خرج جنون فان جوخ عن نطاق السيطرة. فقُبيل عيد الميلاد المجيد لعام ١٨٨٨، قطع الجزء الأسفل من أذنه اليمنى مستخدمًا ماكينة حلاقة مباشرة. وأثناء فترة النقاهة، أدرك أنه يعاني فعلًا اختلالًا عقليًّا، وأدخل نفسه — لمدة عام، من مايو ١٨٨٩ إلى مايو ١٨٩٠ — مصحَّة نفسية في سانت ريمي؛ حيث تعاقبت عليه نوبات الاكتئاب وفترات العبقرية. وكتب في مرحلة ما إلى ثيو قائلًا: «آه لو أمكنني العمل دون ذلك الداء اللعين! كم كنت أبدعت!» (نايفه وسميث، ٢٠١١، ٦٨٤–٨٢٠).

وكانت آخر رسائله موجهة إلى ثيو (التي تحمل ملحوظة بخط يد ثيو مفادها: «رسالة وُجِدَت بحوزته يوم ٢٩ يوليو»، يوم وفاة فان جوخ)، وهي لا تبدو رسالة أخيرة، وعلى الأرجح كُتِبَت بين يومَي ٢٣ يوليو و٢٧ يوليو. إلا أن جزءًا من فقرتها الأخيرة نصَّ على التالي: «عملي الخاص، أعرِّض حياتي للخطر من أجله، وكاد صوابي يطير بسببه …» وكانت الرسالة غير مكتملة وغير موقَّعة (انظر: فان جوخ-بونجر، ١٩٨١، الجزء الثالث: ٢٩٨). وقبل ذلك بأسبوع فحسب، كتب ثيو كلمات مؤثرة: «ما دام ليس حزينًا وفي طريقه إلى أزمة أخرى، فالأمور على ما يرام.» وبعد أن تحدَّث مع أخيه، توصل ثيو بعد حادث إطلاق النار إلى أن فنسنت فَقَدَ «إيمانه بالحياة». وكانت إخفاقاته المتكررة، وفقره الدائم، وصحته المتدهورة عوامل مزمنة واضحة (نايفه وسميث، ٢٠١١، ٨٤٣، ٨٥٦، ٨٥٨).

تكشف حياة فان جوخ عن العديد من الإشارات التحذيرية التي كثيرًا ما ترتبط بالانتحار، ويبدو أن استمرار حالته أفضى إلى ما يُطلِق عليه خبير حالات الانتحار د. إرفينج بيرينت (١٩٨١) «متلازمة الإجهاد المزمن المستمر»، والتي تحدث نتيجة «هجوم» صدمة تتسبب في «انحلال الروح» ومن ثَمَّ يُحتَمَل أن تفضي إلى الانتحار.

حجج الغياب وتساؤلات أخرى غير محسومة

إذا كان نايفه وسميث يظنان أنهما قد وجدا دليل الإدانة الدامغ في إفادة رينيه سيكريتان، فعليهما أن يعيدا التفكير؛ فيبدو أن الأخوين سيكريتان كان لديهما حجة غياب؛ فقد كانا قد انتقلا من أوفير إلى نورماندي قبل إصابة فان جوخ المميتة.

فالرواية التي قدمها رينيه وهو في الثانية والثمانين من عمره والتي قدمها نايفه وسميث، واستخدماها في محاولة لتجريمه — رغم أنه لم تبدر منه أدنى إشارة إلى أنه هو أو أي صبي آخر قد أطلق النار على فان جوخ — تقدِّم له في حد ذاتها حجة غياب. فقد فهم المؤلفان إحدى العبارات التي أدلى بها رينيه على أنها تعني «أن فنسنت قد سرق منه المسدس في يوم الحادث نفسه»، ولكن العبارة لم تتضمن ذلك المعنى إطلاقًا؛ فما قاله رينيه كان الآتي: «تركنا [المسدس الذي لم يكن يعمل على ما يرام] على الفور إلى جانب معدات الصيد كلها وحقائب الظهر … وحتى سراويلنا … وشاء القدر أن يعمل المسدس جيدًا يوم استخدمه فان جوخ.» (٨٨٢، رقم ٦٩). فلم يقل إنه «أُخِذ» ذاك اليوم.

تلك مسألة مهمة؛ لأن رينيه قال بوضوح إنه هو وشقيقه الأكبر كانا قد غادرا أوفير (حيث كانا يقضيان فصل الصيف في فيلا والدهما الثري على ضفاف نهر واز) في وقت سابق من ذلك الشهر، وذهبا إلى فيلا أخرى تمتلكها العائلة في نورماندي. وأثناء الفترة التي قضياها بعيدًا عن أوفير، نما خبر وفاة فان جوخ إلى علم الأخوين للمرة الأولى من الصُّحُف. وذكر رينيه أيضًا أنه لم يكتشف اختفاء المسدس قبل مغادرة أوفير.

وعلى أية حال، أظن الرواية التي قدَّمها رينيه في شيخوخته عن المسدس ليست جديرة بالثقة؛ فربما يكون قد استعاره من صاحب النُّزل ثم أعاده، ونسي ذلك خلال السنوات الست والستين التالية. فقطعًا لا بد وأن نتساءل: لو كان فان جوخ قد سرق المسدس من رينيه حتى يطلق النار على نفسه، كيف استرده رينيه عوضًا عن ذلك حتى يتسنى له «هو» أن يطلق النار على فان جوخ قبل أن يطلق النار على نفسه؟ وإن كان رينيه يكذب بشأن السرقة المزعومة، فلماذا نصدق أي شيء يقوله؟ وبالإضافة إلى ذلك، لو كان رينيه قد أطلق النار على فان جوخ — سواءٌ أكان ذلك حادثًا أم غير ذلك — يبدو مستبعَدًا أن يتطرَّق إلى موضوع فان جوخ والمسدس من الأساس. فلمَ لا يدع ما مضى وشأنه؟ يظن نايفه وسميث أن الهدف من ذلك كان «إراحة ضميره في النهاية»، ولكنَّ رينيه لم يُرِحْ ضميره من عبء الفعلة نفسها التي كان يلزم الاعتراف بها.

الوسيط الروحاني

إذا نحَّيْنا جانبًا مسألة ما إذا كانت وفاة فان جوخ وقعت نتيجة لحادث أم جريمة قتل أم انتحار مؤقتًا، نتريث لنفكِّر فيما يلي: هل لا يزال حيًّا في صورة روح؟ ذلك ما ادَّعاه وسيط روحاني برازيلي يُدعى فلورنسيو أنطون، والذي يزعم أنه متصل روحانيًّا بذلك الرسام الهولندي الشهير، وأنه يصنع أعمالًا فنية حديثة تتبع أسلوبه (إلى حدٍّ ما)، ثم يوقِّعها «فنسنت»، ويزعم ذلك الشخص أيضًا أنه متصل روحانيًّا برينوار وبيكاسو وميرو وغيرهم.

البعض يقبل تلك الإبداعات الزائفة دون غضاضة، ولكن ثمة آخرين يتساءلون عن سبب استمرار هؤلاء الفنانين المتنوعين في رسم مشاهد تبدو أرضية بلا شك؛ فيُجيب أنطون بأن الصور ليست من هذا العالم وإنما من حيز وجودي ينتمي إلى العالم الآخر المشابه لعالمنا، وإن كان مما يثير العجب — مثلما لاحظ روي ستيمان (٢٠١٠) من موقع مجلة «بارانورمال ريفيو» — هو أن الأطياف الموجودة في العالم الآخر «لا تزال ترتدي الطراز نفسه من الملابس التي ارتدتها وقت وجود أولئك الفنانين على الأرض».

الحقيقة أن أناسًا على شاكلة فلورنسيو أنطون يظهرون من حين لآخر. على سبيل المثال: كان ثمة امرأة بريطانية تُدعَى روزماري براون لم تتخصص فحسب في عزف مقطوعات موسيقية جديدة لموسيقيين راحلين مشهورين، مثل: باخ وشوبان وموزارت وفرانز، وإنما تلقَّت إملاءات من الكاتب المسرحي جورج برنارد شو وغيره، واستقبلت رسومات ولوحات من فنانين متنوعين. وتبعها آخر يُدعى ماثيو مانينج الذي تلقى بدوره نصوصًا وأعمالًا فنية من خلال الاتصال الروحاني بفنانين مشاهير (جايلي، ٢٠٠٠، ٢٦-٢٧). تُسمَّى تلك الظواهر «حركات تلقائية»، وهي ناتجة عن التأثير الحركي الفكري؛ أي النشاط العضلي اللاإرادي المسئول أيضًا عن حركة عصا الاستنباء وألواح ويجا. فعادةً ما يكون أولئك الأشخاص مجرد مقلِّدين لا أكثر. وإن أحد النصوص التي وُضعت من خلال الاتصال الروحاني بأبراهام لينكولن التي تفحَّصتها ذات مرة لم يتطابق مع الخط المميز للرئيس المغتال، ولا اجتاز اختبار اللغويات الشرعي (نيكل، ٢٠٠٧، ٣٩–٤٧).

وعادةً ما يكون هؤلاء الأشخاص من الشخصيات الميَّالة إلى التخيل؛ أي إنهم أشخاص طبيعيون وفي كامل قواهم العقلية وإن كان لديهم ميل ملحوظ للتخيل. وفلورنسيو أنطون أحد هؤلاء الأشخاص؛ إذ يظهر عليه عدد من السمات المرتبطة بالنزعة إلى التخيل، مثل: تلقي رسائل خاصة من كائنات عليا، والتعرض لحالات من غشية النشوة، وامتلاك هويات بديلة (انظر: نيكل، ٢٠٠٧، ٢٥١–٢٥٨).

الحُكم

من الواضح أنه لا أنطون ولا أي وسيط روحاني آخر تمكَّن من إقامة اتصال ناجح مع فان جوخ بشأن تفاصيل الطلقة النارية التي أودت بحياته. وحتى يحدث ذلك بصورة جديرة بالثقة (وأنا لا أنتظر مثل هذا الأمر) ستظل النتيجة التي خلصت إليها هي أنه قتل نفسه. ينبغي أن يكون ذلك هو الحكم الذي يصدره التاريخ، استنادًا إلى أفضل الأدلة المتاحة — الأدلة الجنائية البدائية والتشريح النفسي — باستحضار مبدأ شفرة أوكام القائل بأن: الفرضية التي تتضمن أقل عدد من الافتراضات هي الأقرب إلى الصواب.

فالمؤلفان نايفه وسميث يريدان أن نفترض صحة إشاعة ظهرت مؤخرًا بشأن إطلاق بعض الصبية النار على فان جوخ؛ وأن مراهقًا بعينه هو الجاني؛ وأن ذلك الشاب قال الحقيقة في عدة جوانب ولكنه كذب كذبًا بيِّنًا في جوانب أخرى؛ وأنه أبعد أدوات الرسم الخاصة بفان جوخ من مسرح الجريمة لسبب غير معلوم، وأن فان جوخ ادَّعى كذبًا أنه أطلق النار على نفسه، وأنه كان من المستبعد أن ينتحر، وأن ابنة صاحب النُّزل كررت رواية كاذبة نقلتها عن والدها بشأن المسدس، وهكذا دواليك. وعلى النقيض، فالأرجح أن فان جوخ بعد أن يئس من حياته أطلق النار على نفسه بمسدس استعاره — ظاهريًّا — «لإخافة الغربان».

13 déc, 2015 06:03:30 PM
1