Aller au contenu principal

لماذا لا تكفينا لغة واحدة

يتحدث البشر ٧ آلاف لغة مختلفة، ليس على سبيل تصعيب الأمور فحسب؛ فكل شيء من الجينات إلى الأدغال لعب دورًا في تلك الظاهرة.

تقريبًا كل أسطورة من أساطير الخلق المتعلقة بأصل الأرض أو نشأة الجنس البشري تصحبها قصة أخرى تحكي عن التنوع اللغوي؛ ففي العهد القديم، كانت «بلبلة الألسنة» هي العقاب الإلهي للبشر على تشييد برج بابل. وفي الأساطير الإغريقية، فرَّق هرمس الألسنة نكايةً في والده زيوس. أما شعب واسانيا الموجود في شرق أفريقيا فأرجع تلك الظاهرة إلى هوس الثرثرة الذي جلبته المجاعة، بينما تحكي قبيلة الإيروكواس قصة إله أمَرَ عباده بالتفرق في أنحاء الأرض.

أساطير الخلق مجرد أساطير طبعًا، ولكن مسألة التنوُّع اللغوي مشكلة حقيقية. فإذا كان الأمريكيون والبريطانيون شعبين فرَّقَتْهما لغة واحدة، فالعالم أجمع موحَّد في عدم الفهم المتبادل لقرابة ٧ آلاف لغة. قد تكون اللغة هي السمة المميزة لنوعنا البشري، إلا أنها تكاد تكون أكثر سمة تفرِّق بيننا أيضًا؛ فلماذا نستخدم هذا الكم الكبير من أساليب التواصل؟

ذاك هو الحد الذي بلغه العلم في معالجة تلك المسألة. فخلال القرن الماضي، فُسِّر وجود لغات مختلفة عن طريق عملية شبيهة بأسطورة الأصل التي ترويها قبيلة الإيروكواس؛ وهي أن المجتمعات المنعزلة تعدِّل الكلمات والعبارات القائمة وتصيغ أخرى جديدة، ومع مرور الزمن، تتراكم التغييرات إلى حدٍّ تصير معه اللغة غير مفهومة للعالم الخارجي.

وتشبه عملية التطور الثقافي تلك عملية الانتواع البيولوجي، التي تنفصل بمقتضاها مجموعتان من نوع واحد وتتباعدان حتى لا يعود بإمكانهما التزاوج فيما بينهما. ولكن بينما استخدَمَ علماءُ الأحياء نظريةَ التطور لتفسير تنوُّع أشكال الحياة، فقد تباطَأَ علماء اللغة في تفسير التنوُّع المذهل في لغات البشر.

فلماذا — على سبيل المثال — تتسم اللغة اللاتينية بتعقد قواعدها النحوية، فيما تتبع بناتها — اللغات الرومانسية الحديثة — قواعد أبسط؟ ولماذا تكون بعض اللغات — مثل المندرينية — تنغيمية، بحيث تغيِّر طبقة الصوت معنى الكلمة؟ ولماذا يقابل التنوع الحيوي تنوعًا لغويًّا، إذ تكثر اللغات في المناطق المحيطة بخط الاستواء عن المناطق معتدلة المناخ؟

بفضل مجموعة من الدراسات الحديثة، صار بإمكاننا الآن الشروع في الإجابة عن هذه التساؤلات. فكما تتكيف الأنواع تهيُّؤًا للعيش في بيئات طبيعية معينة، تتطور اللغات للتلاؤم مع الاحتياجات الخاصة لمتحدثيها. والظاهر أن كل شيء من التكوين الجيني والاجتماعي للجماعات السكانية، إلى المناخ والغطاء النباتي في مكان معيشتها، يؤثر على تلك العملية. فإذا فهمنا تلك العوامل، قد يكون في مقدورنا التنبؤ بالكيفية التي ستتغيَّر بها لغات العالم في مواجهة العولمة.

لا عجب في أن التنوع اللغوي يفتننا؛ فالتباين الهائل في لغاتنا من أغرب الخواص التي تميِّز الجنس البشري. فإذا أخذتَ شمبانزي وُلِد في حديقة حيوان لندن وأعَدْتَه إلى موطنه الأصلي في أفريقيا، لن يجد صعوبةً في التواصل مع أقرانه هناك؛ ذلك لأن قرود الشمبانزي كلها تتشارك في مخزون صغير من الهمهمات والصيحات والضحك. أما البشر فيحتاجون إلى قدر أكبر من المرونة، فدماغنا قادر على التعامل مع كمٍّ هائل من المفاهيم المجردة؛ لذا طوَّرْنا أسلوب تواصُلٍ غير محدود للتعبير عن أفكارنا، ذلك الأسلوب يتألف من أصوات منفصلة — تُدعَى فونيمات — نربطها معًا في توليفات مفصلة حتى نكوِّن كلمات وجُمَلًا، تحكمها القواعد التي نسمِّيها «النحو»؛ فكل لغة عبارة عن توليفة فريدة من تلك العناصر. ويقول مارك بيجل من جامعة ريدِنج في المملكة المتحدة: «يمكننا فعليًّا بلوغ حدٍّ لا نهائي من التنوع.»

الانقسام الثقافي

تلك المرونة هي أحد العوامل المحرِّكة للتنوع اللغوي؛ فهي تفتح الباب أمام التطور الثقافي، الذي سرعان ما يمكن أن يفضي إلى انقسام اللغة. وعقب الانقسام، لا يتطلب تفرُّع اللغة إلى لغتين أكثر من ٥٠٠ عام. وقد وجد بيجل وزملاؤه أن كثيرًا من التغيرات تحدث عقب الانقسام مباشَرَةً، ربما لأن الناس يخترعون أساليب جديدة للحديث بغية تأكيد هويتهم الجماعية. (ساينس، المجلد ٣١٩، صفحة ٥٨٨).

وقد يفسر ذلك الانقسام الثقافي أيضًا كثرة اللغات — مثلها مثل الكائنات الحية — في المناطق الاستوائية. فنحو ٦٠ في المائة من لغات العالم التي يبلغ عددها ٧ آلاف لغة تقريبًا موجود في منطقتين تكادان تكونان متطابقتين كليًّا مع حزامَي الغابة الاستوائية العظيمين: إحداهما في أفريقيا، والأخرى تمتد عبر جنوب آسيا والمحيط الهادئ (انظر الخريطة). وإن أكثر المناطق ثراءً لغويًّا على الإطلاق هي بابوا غينيا الجديدة — موطن سُبْع لغات العالم. قد يُعزَى ذلك إلى أن المناخ المؤاتي للتنوع الحيوي ييسِّر كذلك على الأشخاص المنتمين إلى المجموعات المنشقة زراعةَ غذائهم والعيش بمفردهم (جورنال أوف أنثروبولوجيكال آركيولوجي، المجلد ١٧، صفحة ٣٥٤). كذلك عادةً ما تزداد في المناطق الاستوائية فُرَص الإصابة بالأمراض المُعدِية؛ مما قد يفضي إلى انعزال مجموعاتٍ عن غيرها (أويكوس، المجلد ١١٧، صفحة ١٢٨٩).

ثرثرة الألسن: إن لغات العالم البالغ عددها ٦٩٠٩ لغة ليست موزَّعة بالتساوي، كما ترى من مؤشر التنوع اللغوي لبلدان عدة، وهو مؤشر يسعى إلى الوقوف على مدى التنوع اللغوي من خلال مقارنة عدد لغات إحدى المناطق بعدد سكانها.  (المصدر: إس آي إل إنترناشيونال إثنولوج: لانجويجيز أوف ذا ورلد، ٢٠٠٩)

ثرثرة الألسن: إن لغات العالم البالغ عددها ٦٩٠٩ لغة ليست موزَّعة بالتساوي، كما ترى من مؤشر التنوع اللغوي لبلدان عدة، وهو مؤشر يسعى إلى الوقوف على مدى التنوع اللغوي من خلال مقارنة عدد لغات إحدى المناطق بعدد سكانها. (المصدر: إس آي إل إنترناشيونال إثنولوج: لانجويجيز أوف ذا ورلد، ٢٠٠٩)

وعلى مر الألفيات، خلَقَ التطورُ الثقافي آلافَ اللغات غير المفهومة لبعضها، أغلبها منقرض حاليًّا. وقدَّر بيجل أن مليون لغة عاشت وماتت منذ بداية نشأة الإنسان الحديث.

إلا أن باحثين قليلين هم مَن اهتموا بتفسير الاختلافات القائمة بين اللغات؛ يُعزَى ذلك جزئيًّا إلى نظرية نعوم تشومسكي القوية التأثير المتعلقة «بالنحو الكلي»، التي تنص على أن اللغات جميعًا — رغم الاختلافات السطحية بينها — تتبع المجموعة ذاتها من القواعد الأساسية. ويقول جاري لوبيان من جامعة ويسكونسن ماديسون إن معظم الباحثين ركَّزوا — واضعين تلك الفكرة نُصْب أعينهم — على أوجه الشبه عوضًا عن أوجه الاختلاف؛ فهو يقول: «لم يكن النظر إلى التنوع اللغوي يُعتبَر مسألةً ذات أهمية محورية.» ولكن مع انحسار تأييد نظرية النحو الكلي (نيو ساينتيست، ٢٩ مايو ٢٠١٠، صفحة ٣٢)، صار علماء اللغة أكثر اهتمامًا بالقوى التي تباعِد بين اللغات.

جماعات الأسلاف

يبدو تتبع تحركات الجنس البشري الأولى إلى خارج أفريقيا نقطة بداية مناسبة؛ فقد مثَّل «تأثير المؤسس التسلسلي» — الذي يفسر سبب انخفاض التنوع الجيني لدى البشر كلما زادوا ابتعادًا عن أفريقيا — مصدر إلهام بالنسبة إلى كوينتن آتكينسون بجامعة أوكلاند في نيوزيلندا. طبقًا للنظرية، لم تأخذ جماعات البشر المهاجرة سوى مجموعة جزئية من الجينات من بين مجموعة الجينات المتوفرة في مسقط رأسها، خافضة بذلك معدل التنوع الجيني كلما هاجرت إلى مناطق أبعد.

وشكَّ آتكينسون في أن تكون الهجرة قد قلَّصت اللغات على نحو مشابه، فمع انشقاق جماعات عن سكان أفريقيا الأوائل، ربما تكون قد خلَّفت وراءها بعض الفونيمات الأقل استخدامًا، التي ربما لم تكن مُستخدَمة إلا في لهجات الأقليات. وكان من شأن كل هجرة جديدة من داخل الجماعات المنشقة أن تزيد تقلص حصيلة الفونيمات.

ويقدِّم تحليل أُجري على ٥٠٤ لغات بعضَ الأدلة المؤيدة لذلك الافتراض؛ فقد وجد آتكينسون أعلى نسبة تنوع للفونيمات في أفريقيا وأقلها في أمريكا الجنوبية وأوقيانوسيا. ولغة التا — المُستخدمة في بوتسوانا — تستخدم نحو ١١٠ فونيمات، بينما تستخدم لغة روتوكاس في بابوا غينيا الجديدة ١١ فونيمًا فقط (تستخدم اللغة الإنجليزية نحو ٥٠ فونيمًا). خلص آتكينسون إلى أن تأثير المؤسس التسلسلي يُعزَى إليه نحو ٣٠ في المائة من التباين في محتوى الفونيمات الذي تتضمنه لغات العالم (ساينس، المجلد ٣٣٢، صفحة ٣٤٦).

ما الذي قد يفسِّر السبعين في المائة الباقية؟ بما أن الفونيمات الإحدى عشرة التي تتضمنها لغة روتوكاس تنقل المعنى بالقدر ذاته كالفونيمات المائة والعشرة في لغة التا، فمن الواضح أننا لسنا بحاجة إلى مخزون هائل من الأصوات حتى يفهمنا الناس. ذلك الإطناب يتيح حيزًا كبيرًا للتحولات العشوائية؛ فكل لغة يمكن أن تضيف فونيمات أو تفقدها دون التقليل من فائدتها، مراكِمةً التنوع اللغوي مع مرور الزمن بالكيفية ذاتها — تقريبًا — التي يمكن بها للانسياق الجيني أن يضاعف الاختلافات بين الأنواع.

ترتب على ذلك قدر هائل من التغير العشوائي الذي قد يغطي على تغيُّرات أخرى أكثر منهجية، ربما يفلح ذلك في تفسير استغراق الباحثين ذلك الوقت الطويل حتى يفكروا في عامل آخر مهم؛ ألا وهو: التحديات التي يمثلها التحاور في ظل ظروف صعبة.

ورد ذلك الاحتمال ببال روبرت إل مونرو — عالم الأنثروبولوجيا بكلية بيتزر في كليرمونت بكاليفورنيا — أول مرة أثناء رحلات ميدانية قام بها في بِليز وكينيا وساموا الأمريكية، فقد لاحظ أن اللغات في تلك المناطق المدارية تنزع إلى الفصل بين حروفها الساكنة بحروف صوتية، فتكاد تنعدم لديها الكلمات من قبيل «لنجويستيكس» (أي لغويات)، على سبيل المثال بما تشتمل عليه من مجموعات من الأحرف الساكنة المتلاصقة. وبما أن سماع الحروف الصوتية أسهل عبر المسافات البعيدة عن معظم الحروف الساكنة، فقد انتاب مونرو شك في أن الناس في البلدان الأكثر دفئًا يستخدمون أصواتًا تساعدهم على التواصل في العراء. وعلى العكس، يُرجَّح أن يتحدث الناس في الأجواء الأكثر برودة داخل أماكن مغلقة؛ لذا لا يكون استخدام أصوات قادرة على عبور المسافات بالأهمية ذاتها.

وأكدت الدراسات التي أجراها مونرو وزملاؤه لاحقًا أن الناس في الأجواء الدافئة ينزعون فعلًا إلى استخدام حروف صوتية أكثر. فكِّر في الإيقاع المميز للغة الإيطالية، بما تتركه من مسافات متساوية بين الأحرف الصوتية والأحرف الساكنة — سباجيتي، تورتيلليني، بافاروتِّي — وستجدها مختلفة عن اللغات الأوروبية الشمالية. ويبدو أن المناخ يؤثر أيضًا على الحروف الساكنة التي نستخدمها؛ فالأصوات الأنفية مثل «ن» و«م» أكثر شيوعًا في المناطق الدافئة، بينما تكون الأصوات الوقفية (الناتجة عن منع مرور الهواء) مثل «ت» و«ج» وصوت «أوخ» في اللغة الاسكتلندية أكثر شيوعًا في المناطق الباردة.

إضافةً إلى ذلك، توصلت دراسات أجرتها كارول إمبر وملفين إمبر بجامعة ييل إلى أن تلك التأثيرات أقل وضوحًا في المناطق كثيفة النباتات؛ فوجود أوراق شجر بينك وبين متحدث آخر يزيد صعوبة التواصل عبر المسافات، ومن ثَمَّ تكون الأصوات الرنانة أقل جدوى. وعلى العكس من ذلك، قد يقلل حجم معين من غطاء الأشجار برودة الرياح في المناطق الأكثر برودة، فيتمكن الناس المقيمون في تلك المناطق من قضاء وقت أكبر في الخارج عمَّا قد يفعلوه على سهل قارس البرودة، وتتكيف لغاتهم على هذا الأساس (أمريكان أنثروبولوجيست، المجلد ١٠٩، صفحة ١٨٠).

وربما يكون ثمة عامل آخر مؤثر على التنوع اللغوي مختبئ في جيناتنا؛ فقد اكتشف دان ديديو من معهد ماكس بلانك لعلم اللغة النفسي في نيميجن بهولندا، وروبرت لاد بجامعة إدنبره في المملكة المتحدة أن ثمة متغايرين جينيين معينين مرتبطين بنمو الدماغ أكثر شيوعًا في المناطق التي يتحدث أهلها لغات تنغيمية، ومنها الصين وجنوب شرق آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ليس معلومًا إن كانت المتغايرات الجينية هذه ذات صلة باللغات، ولكن ديديو يشك في أن الأمر من قبيل المصادفة، وقد وضع نموذجًا حسابيًّا تبيَّن منه أنه إذا كانت تلك الجينات تساعد الناس على التمييز بين طبقات الصوت، ففي مناطق شيوعها سوف تدفع اللغة تجاه منظومة تنغيمية (هيومان بيولوجي، المجلد ٨٣، صفحة ٢٧٩). ولا يمثل ذلك النموذج دليلًا بأي حال من الأحوال على أن الجينات تؤثر على اللغة، ولكنه يشير إلى أنها فكرة جديرة بالدراسة.

والأصعب على الفهم من اختلافات الأصوات هو تفسير تضمُّن اللغات المختلفة قواعد نحوية متباينة إلى ذلك الحد الكبير، فإذا فكرت في جملة I walked the dog (لقد أخذت الكلب للتمشية)، فستجد اللغة الإنجليزية تغيِّر نهاية الفعل إشارةً إلى  أن الحدث وقع في الماضي. أما في اللغة المندرينية، فالفعل لا يتغير، فإذا لم يكن توقيت وقوع الحدث واضحًا، تُضاف كلمة لإيضاحه بكل ببساطة. أما متحدثو لغة الياجوا في بيرو، فعليهم أن يختاروا واحدة من خمس نهايات للفعل حسبما إذا كان حدث التمشية وقع منذ ساعات، أم أيام، أم أسابيع، أم شهور، أم سنين.

يصيبك ذلك التنوع بالحيرة حتى تنظر إلى متحدثي اللغة، على حد قول لوبيان؛ ففي دراسة تحليلية أجراها على أكثر من ألفي لغة، وجد لوبيان أن القواعد النحوية المعقدة أكثر شيوعًا في اللغات محدودة النطاق التي لا يكون متحدثوها على اتصال قوي بالعالم الخارجي. أما اللغات التي تتبع قواعد نحوية أبسط — مثل الإنجليزية والمندرينية — فعادة ما تتحدثها جماعات سكانية أكبر تكون على صلة بمجتمعات أخرى كثيرة (بلوس وان، المجلد ٥، صفحة e8559). فالعامل الحيوي هنا هو أنك ستجد أشخاصًا يتعلمون تلك اللغات في الكِبَر أكثر بكثير مما ستجدهم يتعلمون اللغات الأكثر انعزالية، ويؤثر ذلك فيما يبدو على مدى تعقيد قواعدها النحوية.

إشارات لغوية

يشير لوبيان إلى أن البالغين يجدون صعوبة في إجادة القواعد المعقدة أو الشاذة، ومن ثم يميلون إلى التبسيط عند تعلم اللغات. وعلى العكس منهم، يبدو أن الأطفال يفضلون التعقيد؛ إذ تساعد الإشارات اللغوية الإضافية على توضيح معنى الجملة. وتشير نماذج المحاكاة الحاسوبية الأخيرة التي أجراها لوبيان إلى أن القواعد النحوية تتأثر بالحاجة إلى الموازنة بين تلك المطالب المتنافسة، ويبدو أن اللغات المبسَّطة واللغات المولَّدة — التي تنشأ عند اضطرار أشخاص لا يتحدثون لغة واحدة إلى العمل معًا — تعزز تلك الحجة؛ فكلتاهما تنزع إلى استخدام قواعد نحوية أبسط مما قد تجده في لغات أخرى.

ليس من العسير تخيُّل كيفية مساهمة ذلك في تشكيل الماضي اللغوي، فالرومان إذ نشروا حضارتهم في العالم القديم نشروا لغتهم أيضًا. واللغة اللاتينية تتضمن قواعد معقدة تتغير وفقها نهايات الأسماء بست طرق حسب موضعها في الجملة، فعندما بدأ البالغون في أقاليم الرومان تَعلُّم اللغة، بسَّطوها إلى صور دارجة صارت في النهاية اللغات الإيطالية والإسبانية والفرنسية وغيرها من اللغات، وكلٌّ منها يفتقر إلى بعض تعقيدات اللغة اللاتينية. وقصة اللغة الإنجليزية مشابهة؛ فقد جلبت الموجات المتعاقبة من الغزوات أعدادًا هائلة من المهاجرين الذين كانوا يضطرون إلى التحاور مع جيرانهم الجدد. يقول لوبيان: «لقد اضطروا أن يصيروا ثنائيي اللغة.» وهو ما قد يفسر افتقار اللغة الإنجليزية إلى كثير من القواعد التي تجدها في شقيقاتها من اللغات الجرمانية.

درس لوبيان أيضًا التغير الذي طرأ على اللغة مؤخرًا، وحلل أرشيف الأدبيات على جوجل لعقد مقارنة بين الإنجليزية الأمريكية والإنجليزية البريطانية؛ فوجد أن الأمريكيين يستخدمون — على ما يبدو — أشكالًا أكثر قياسية من الكلمات من شأن تعلمها أن يكون أيسر على البالغين. يتلاءم ذلك مع افتراضه؛ إذ إن معدل الهجرة المرتفع في أمريكا على مدى التاريخ يستتبع وجود نسبة أكبر من متعلمي الإنجليزية كلغة ثانية.

رحب علماء اللغة الآخرون بأفكار لوبيان ترحيبًا حذرًا، فيقول ستيفن ليفنسون — الذي يعمل أيضًا في معهد ماكس بلانك لعلم اللغة النفسي: «إنها أفكار مقبولة بالتأكيد.»

قد تكون الاكتشافات الأخيرة أول الغيث لا أكثر، فبعد أن ثَبَتَ أن الاختلافات القائمة بين اللغات ليست عشوائية، بدأت الآن عملية البحث عن مزيد من القوانين التي تحكم تطورها، فيقول آتكينسون: «أمامنا بضع سنوات شائقة.»

مع زيادة استيعاب عملية تطور اللغة، قد يصير علماء اللغة قادرين على الإجابة عن سؤال أصعب؛ وهو: كيف ستبدو اللغات في المستقبل؟ فاللغة الإنجليزية تحديدًا تتعرض للجذب من جهات شتى (نيو ساينتيست، ٢٩ مارس ٢٠٠٨، صفحة ٢٨). يقول لوبيان: «مع التعرض لوسائل إعلام واحدة، لك أن تتوقع تضاؤل الاختلافات، ولكنها لن تزول؛ إذ إننا نستخدم اللغات لتأكيد هويتنا الاجتماعية.» ولهذا السبب، يتنبأ لوبيان باتساع الفجوة بين الإنجليزية البريطانية، والإنجليزية الأمريكية، والإنجليزية الأسترالية.

وللأسف فإن كثيرًا من اللغات الأضيق نطاقًا لن تتمكن من ممارسة استقلاليتها بهذا الأسلوب، فيقول بيجل: «الانقراض الجماعي هو المستقبل.» فنحو نصف لغات العالم معرض لخطر الانقراض، ومعظمها ليس له توثيق من الأساس حتى الآن، فما إن تزول حتى تضيع تفاصيلها إلى الأبد، فلم يسبق أن كانت الحاجة إلى دراسة ظاهرة بلبلة الألسنة وفهمها مُلِحَّة أكثر من الآن.

 

15 Mar, 2017 12:09:23 PM
1