Salta al contenuto principale

فهم أفضل للجنون

مرَّت عقود من الزمن منذ آخِر إنجازٍ حقيقيٍّ في مجال عقاقير الأمراض النفسية، إلا أن أدواتٍ بحثيةً محسنةً ورؤًى جديدةً كاشفةً تتعلق بدور العوامل الوراثية في الاضطرابات الدماغية قد تُعيد إحياء جهود تحسين العلاج التي تدهورت بشدة.

في مختبر أبحاث شركة نوفارتس في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس، يساعد جهاز ضخم يُشبه الحضَّانة على بعث حقبةٍ جديدةٍ في مجال اكتشاف العقاقير التي تُستخدم في علاج الأمراض النفسية. داخل الجهاز توجد أطباق اختبار تحوي خلايا جذعية بشرية حية يغمرها ضوء هادئ، بينما تنثر أذرع ميكانيكية مركباتٍ مغذيةً داخل تلك الأطباق. وبفضل سلسلةٍ من التقنيات التي جرى تطويرها خلال السنوات القليلة الأخيرة في مختبراتٍ حول العالم، يمكن الآن توليد تلك الخلايا الجذعية — القادرة على التحوُّل إلى أنواع متخصصة من الخلايا — من خلايا الجلد. عندما تنمو الخلايا الجذعية التي ترجع لأناس مصابين بالتوحُّد أو الفصام على سبيل المثال داخل الحضانة، يستطيع الباحثون بشركة نوفارتس تحفيزها لتتحول إلى خلايا دماغية فعَّالة عبر تنويعٍ دقيقٍ للمواد الكيميائية في المزارع الخلوية.

تُستخدم حضانة بمختبرات شركة نوفارتس في زرْع خلايا جذعية؛ إذ يستطيع العلماء استخلاصَ تلك الخلايا من المرضى، ثم تحفيزها — في ظل ظروفٍ ملائمة — للتحوُّل إلى خلايا عصبية لأغراض البحث واختبار العقاقير.

تُستخدم حضانة بمختبرات شركة نوفارتس في زرْع خلايا جذعية؛ إذ يستطيع العلماء استخلاصَ تلك الخلايا من المرضى، ثم تحفيزها — في ظل ظروفٍ ملائمة — للتحوُّل إلى خلايا عصبية لأغراض البحث واختبار العقاقير.

لا يُنتج الباحثون بالضبط خلايا عصبية فصامية أو توحُّدية؛ لأن الخلايا المنتَجة هذه لا تعمل داخل منظومة الدوائر بالدماغ، لكن تلك الخطوة تُعتبَر إنجازًا كبيرًا فيما يتعلق باكتشاف العقاقير؛ فللمرة الأولى أصبح لدى الباحثين طريقة لدراسة أوجُه الخلل في الخلايا الدماغية للمصابين بتلك الأمراض على نحوٍ مباشرٍ وعلى المستوى الجزيئي. وعلاوةً على ذلك يوجد الآن منهج يُعتمَد عليه لاختبار العقاقير التي قد تساعد في العلاج، وهو أمر محوري بالنسبة إلى شركات الأدوية؛ فهل تبدو هذه الخلايا العصبية مختلفة عن نظيراتها الطبيعية؟ وهل يوجد عيب في طريقة تكوينها للوصلات العصبية؟ وهل من الممكن علاج هذه الاضطرابات بالعقاقير؟ تأتي الإجابة عن كل سؤال من تلك الأسئلة مبدئيًّا ﺑ «نعم».

هذه التقنية واعدة جدًّا؛ مما حدا بشركة نوفارتس إلى استئناف محاولتها لاكتشاف عقاقير نفسية جديدة بعدما كانت قد تخلَّتْ تقريبًا عن هذا المسعى. وعلاوةً على ذلك، تظهر هذه التقنية في وقتٍ يشهد نموًّا سريعًا فيما نعرفه عن التكوين الجيني المسبِّب للاضطرابات الدماغية، بينما أصبح علماء الأعصاب قادرين على فحص الدماغ مباشرةً عبر أدواتٍ أخرى جديدة مثل علم الجينات الضوئية والتعديل الأدق للجينوم. تطرح تلك التطوُّرات كافةً أملًا متجدِّدًا في أن يتمكَّن العلم في النهاية من تقديم علاجات أكثر فعاليةً لملايينَ من الناس المصابين باضطرابات دماغية مدمِّرة.

توجد حاجة ماسَّة لإحياء عملية تطوير عقاقير الأمراض النفسية؛ إذ لم تشهد الخمسون عامًا الماضية تقريبًا أي دواءٍ حقَّقَ تقدُّمًا جذريًّا في أيٍّ من الأمراض العقلية الشائعة مثل الفصام والاضطراب الثنائي القطب والاكتئاب الحاد؛ فمنذ أواخر الأربعينيات وصولًا إلى ستينيات القرن العشرين، أحدثت سلسلة من الاكتشافات العرضية — بدءًا من اكتشاف قدرة الليثيوم على مساعدة مرضى الاضطراب الثنائي القطب — تحوُّلًا في علاج المرضى العقليين، وأصبح من الممكن تهدئة الهلاوس والهواجس لدى مريض الفصام، وتقديم دواء لمَن يُعانون من الاكتئاب الحاد. أحدث التوافُر المفاجِئ للمساعدة الدوائية نقلةً في الطب النفسي، ولعب دورًا في إغلاق كثير من مستشفيات الأمراض العقلية الضخمة في هذه الحقبة، لكن بعد ذلك توقَّفَتْ هذه الثورة على نحوٍ مفاجئ، تقريبًا مثلما بدأت.

ما زال الكثير من العقاقير التي اكتُشِفَت في خمسينيات القرن العشرين وستينياته هو أكثر العلاجات المتاحة فعاليةً لأمراض الفصام واضطرابات القلق والاكتئاب، لكن في الوقت الذي حسَّنَتْ فيه تلك الأدوية من حياة بعض المرضى، لم تؤثِّر على مرضى آخَرين، وهي للأسف قاصرة فيما يتعلَّق بعلاج الكثير من الأعراض الأكثر سوءًا، وفوق ذلك قد تتسبَّب هذه العقاقير في أعراض جانبية خطيرة.

لننظر إلى الفصام على سبيل المثال، فإن العقاقير المتاحة المضادة للذهان تستطيع تبديدَ الهلاوس والوساوس، لكنها لا تحسِّن من الأعراض السلبية المزعومة مثل تعطيل المشاعر، كمشاعر السعادة؛ مما قد يؤدِّي إلى عدم اكتراث الأفراد بالتواصُل أو حتى بالعيش. كذلك لا تؤثِّر العقاقير المتوافرة على ما يسبِّبه الفصام من ضعفٍ في التركيز واتخاذ القرارات والذاكرة العاملة (التي تلعب دورًا محوريًّا في تنفيذ مهامَّ مثل فهم اللغة)، وبسبب تلك المشكلات الإدراكية الموهنة يستحيل على هؤلاء الناس العمل، بل يصبح من الصعب عليهم أيضًا الإقدام على خيارات منطقية بسيطة على ما يبدو في حياتهم اليومية. تلك الأعراض قد تهاجم غدرًا أفرادًا مرتفعي الأداء، وغالبًا ما يحدث ذلك في أواخر مرحلة المراهقة. يعلِّق جوبين فينج — أستاذ علم الأعصاب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي يدرِّس الأساس العصبي للاضطرابات النفسية — على ذلك قائلًا: «الناس لا يفهمون الأمر؛ لذا يتساءلون عن السبب الذي يمنع المريض من الذهاب إلى العمل حالما يُعطى الدواء المضاد للذهان، لكن أولئك المصابين بالفصام لا يستطيعون العمل لأنهم لا يتمتعون بوظائف إدراكية، أو بعبارةٍ أخرى لاخرأخ يتمتعون بوظائف تنفيذية طبيعية، ولا توجد عقاقير تعالج هذا الأمر.» وبالإضافة إلى ذلك، هناك أعراض جانبية تسبِّبها الأدوية المضادة للذهان، من بينها اضطرابات في الحركة تشبه مرض باركنسون، وزيادة هائلة في الوزن، أو فقدان قد يكون مميتًا لخلايا الدم البيضاء. باختصار، يدمِّر المرضُ حياةَ الكثير من المرضى.

وأخيرًا نجد أن كثيرًا من مرضى الاضطرابات الدماغية لا تُجدي معهم مطلقًا العقاقير المتاحة؛ فمضادات الاكتئاب تُحدِث مفعولًا جيدًا لدى بعض الناس، لكنها لا تُحدِث أثرًا بالنسبة إلى آخَرين كُثُر، ولا تتوافر علاجات دوائية فعَّالة للإعاقات الاجتماعية أو السلوكيات المتكررة التي يسبِّبها التوحُّد.

التكلفة العالمية

مقياس «سنوات العمر المعدلة حسب الإعاقة» هو مقياس شائع الاستخدام من مقاييس الصحة العامة، يهدف إلى تحديد عدد السنوات الضائعة نتيجةً لاعتلال الصحة أو الإعاقة أو الموت المبكر. (المصادر: كلية هارفرد للصحة العامة، والمنتدى الاقتصادي العالمي (٢٠١١).)

المرض سنوات العمر المعدلة حسب الإعاقة
الاضطرابات الاكتئابية الأحادية القطب ٦٥٠٠٠٠٠٠
الاضطراب الوجداني الثنائي القطب ١٤٠٠٠٠٠٠
الفصام ١٧٠٠٠٠٠٠
الصرع ٨٠٠٠٠٠٠
اضطرابات تعاطي الكحول ٢٤٠٠٠٠٠٠
مرض ألزهايمر وغيره من أنواع الخرف ١١٠٠٠٠٠٠
اضطرابات تعاطي المخدرات ٨٠٠٠٠٠٠
اضطراب ما بعد الصدمة ٣٠٠٠٠٠٠
اضطراب الوسواس القهري ٥٠٠٠٠٠٠

على وجه العموم، يُعتبَر المرض النفسي العصبي من المسبِّبات الرئيسية للإعاقة؛ فوفقًا للمعهد الوطني للصحة النفسية في مدينة روكفيل، بولاية مريلاند، يعاني ٢٦٪ من الأمريكيين البالغين من «اضطرابٍ عقليٍّ قابلٍ للتشخيص» سنويًّا، ويُعَدُّ الاكتئاب الحاد — الأكثر انتشارًا بين تلك الاضطرابات — السببَ الرئيسي للإعاقة في الولايات المتحدة لدى الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين ١٥ و٤٤ عامًا، ويعاني نحو ١٪ من السكان الأمريكيين من الفصام، بينما تُشخَّص حالةُ طفلٍ من بين كل ٦٨ طفلًا أمريكيًّا بأنها اضطراب طيف التوحُّد.

ورغم حتمية الحاجة إلى علاجات أفضل، فإن شركات الأدوية كانت حتى عهدٍ قريبٍ جدًّا قد استنفدت ببساطةٍ جميع ما لديها من أفكارٍ جيدة؛ فالعقاقير التي طُوِّرت في خمسينيات القرن العشرين وستينياته اكتُشِفت بالصدفة، ولم يكن أحدٌ يدري طبيعة تأثيرها أو أسبابه. وخلال العقود التالية، عكف الباحثون على دراسة هذه الأدوية وتحليلها لتحديد جزيئات الدماغ التي تؤثِّر عليها عقاقير مثل الدوبامين والسيروتونين. مع ذلك يدرك العلماء الآن، وبالنظر إلى الماضي، أنه برغم أن التعديل الطفيف لنِسَب تلك المواد الكيميائية قد عالَجَ بعضَ أعراض الاضطرابات النفسية، فإن هذه العملية كانت استراتيجية بسيطة تجاهَلَتِ الآليات البيولوجية الكامنة وراء المرض.

يقول توماس إنسل، مدير المعهد الوطني للصحة النفسية: «قادتنا دراسة العقاقير إلى الاعتقاد بأن الاكتئاب ينتج عن انخفاض نسبة السيروتونين، وأن الفصام يرجع إلى زيادةٍ كبيرةٍ في الدوبامين داخل الدماغ. لكن الدماغ لا يعمل بهذه الطريقة؛ فالدماغ ليس بهذه البساطة، بل هو في الحقيقة شبكة معقَّدة من الشبكات.» ويصف الأمراض العقلية مثل الفصام والاكتئاب الحاد والاضطراب الثنائي القطب بأنها: «في الأساس اضطرابات في دوائر الدماغ.» يضيف إنسل أنه خلال بضع السنوات الأخيرة فقط، أتاحت تقنيات كعلم الجينات الضوئية لعلماء الأعصاب أن يتحوَّلوا بتفكيرهم إلى النبضات الكهربية، وأن يبدءوا في استكشاف الدوائر المرتبطة بالاضطرابات الدماغية. مع ذلك تباطأ البحث عن علاجاتٍ بسبب «جهلنا العميق بالدماغ».

مبيعات عقاقير الأمراض النفسية

على الرغم من ندرة الأدوية الفعَّالة لكثيرٍ من الاضطرابات الدماغية، فإن معدل الطلب عليها مرتفع جدًّا. (المصدر: ساينس ترانسليشنال مديسين (٢٠١٢)، مبيعات ٢٠١٠.)

نوع العقار أو دواعي استعماله المبيعات العالمية
مضادات الذهان ٢٢ مليارًا
مضادات الاكتئاب ٢٠ مليارًا
مضادات القلق ١١ مليارًا
منشطات ٥٫٥ مليارات
علاجات الخرف ٥٫٥ مليارات
علاجات اضطرابات النوم ٤٫٥ مليارات
علاجات تعاطي المخدرات واضطرابات الإدمان ٣ مليارات

ثَمَّةَ عائق آخَر يقف بوضوحٍ كحجر عثرةٍ في طريق اكتشاف عقاقيرَ أفضل، وهو عدم وجود طرق فعَّالة لاختبارها. يقول ستيفن هايمان — مدير مركز ستانلي للأبحاث النفسية في معهد برود الذي تأسَّسَ بالتعاون مع جامعة هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — إنه نظرًا لقدرة الباحثين المحدودة على قياس مدى تأثير العقاقير النفسية المحتملة على بيولوجيا حيوانات المختبر، فقد «ابتكروا» اختباراتٍ قائمةً على كيفية تأثير العقاقير الحالية على سلوك الحيوانات. على سبيل المثال، أحد الاختبارات التقليدية للعقاقير المضادة للاكتئاب يُدعَى «اختبار السباحة القسرية»؛ حيث يعطي الباحثون الفئران عقار إيميبرامين الشائع الاستخدام — الذي اختُرِع في خمسينيات القرن العشرين وما زال يُعتبَر أحد أقوى الأدوية تأثيرًا في علاج الاكتئاب — ثم يُلقونها في دلوٍ مليءٍ بالماء البارد حيث تسبح لفترة أطول قبل أن تيأس. وكان من المنطقي أن يُنظَر إلى نزوع الحيوانات إلى التوقُّف عن الكفاح بأنه مقياس «لليأس السلوكي»، على حدِّ قول هايمان، لكن في الحقيقة لا يوجد دليل على أن السلوك الظاهر في الاختبار يعكس الاكتئاب البشري. ومع أن اختبار السباحة ظلَّ مستخدَمًا طوال خمسين عامًا لتجربة العقاقير المضادة للاكتئاب وما زال يُستخدَم على نطاقٍ واسع، فإن كل تأثيره على الأرجح ينحصر في انتقاء العقاقير التي تُحاكي مفعولَ عقار إيميبرامين فيما يتعلق بتمكين أحد القوارض من السباحة لفترةٍ أطول، وقد أدَّى ذلك إلى سلسلةٍ من «العقاقير المشابهة».

يزعم هايمان أن عملية اكتشاف عقاقير جديدة لعلاج الأمراض النفسية «قد تعطَّلَتْ على نحوٍ خطير»؛ فمن حيث الفعالية بلغت مضادات الاكتئاب «الحدَّ الأقصى» في خمسينيات القرن العشرين، وتبعتها مضادات الذهان في ستينيات القرن ذاته. ومع أن العقود الأخيرة شهدت تسويقَ عددٍ من العقاقير النفسية الجديدة، فإن هذه العقاقير ليست سوى نسخٍ جزيئية مقلَّدَة من عقاقير قديمة، على حدِّ قول ريتشارد إيه فريدمان، أستاذ الطب النفسي الإكلينيكي ومدير عيادة علم الأدوية النفسية في كلية طب وايل كورنيل بمدينة نيويورك. يضيف فريدمان قائلًا إن بعض الأدوية الجديدة أكثر أمانًا إلى حدٍّ ما، لكن في الحقيقة كل ما تفعله شركات الأدوية هو «إدخال بعض التعديلات الطفيفة على نفس الجزئيات». وبالنظر إلى قلة الأفكار المتعلِّقة بابتكار مركبات جديدة فعَّالة، وارتفاع معدل فشل العقاقير النفسية في التجارب الإكلينيكية المكلِّفة — نسبة نجاح العقاقير النفسية ٨٪ فقط مقارَنةً ﺑ ١٥٪ لباقي العقاقير عمومًا — فلا عجب إذن أن «تنتاب المخاوف» شركات الأدوية على حدِّ قول فريدمان.

وبالفعل أعلنت شركة نوفارتس عام ٢٠١١ عن إغلاق مركز الأبحاث الأساسية في مجال علم الأعصاب التابع لها في بازل في سويسرا. لم تكن نوفارتس هي الشركة الوحيدة التي انسحبت من درب البحث عن عقاقير نفسية، فعلى مرِّ السنوات الخمس الأخيرة قرَّرت شركات أدوية أخرى — من بينها جلاكسو سميث كلاين وأسترا زينيكا — تقليل الجهود المبذولة وخفض الاستثمارات في مجال علم الأعصاب واكتشاف العقاقير المرتبطة به. لكن الخطوة التي اتَّخذتها نوفارتس كانت لافتةً للنظر، لا سيما أن اكتشاف العقاقير النفسية لعب دورًا كبيرًا في تاريخها؛ ففي ستينيات القرن العشرين لعبت شركة ساندوز الواقعة في مدينة بازل — والتي اندمجت مع سيبا-جايجي عام ١٩٩٦ لتكوِّنا شركة نوفارتس — دورًا فعَّالًا في تطوير عقار كلوزابين، الذي ما زال يُعتبَر أحد أكثر علاجات الفصام الحاد فاعليةً. كذلك قدَّمت شركة سيبا — وهي شركةٌ أمٌّ سويسريةٌ أخرى لنوفارتس — في أواخر خمسينيات القرن العشرين عقار إيميبرامين.

لكن الآن في مدينة كامبريدج، عادت نوفارتس إلى درب البحث، ويتولَّى ريكاردو دولميتش — الرئيس العالمي لقسم علم الأعصاب لدى الشركة — مهمة تحويل ما يُطلَق عليه الثورة الحديثة في علم الجينات والأدوات المرتبطة بالجينوم إلى أدويةٍ آمنةٍ وفعَّالة. انضم دولميتش — أستاذ علم الأعصاب سابقًا في جامعة ستانفورد — إلى الشركة في أغسطس الماضي، وبدأ فورًا في تعيين باحثين، وفي أقل من عام لاحِق كان فريقه يُجرِي تجاربه وسط أكوامٍ من صناديق نقل المعدات البلاستيكية، بينما كانوا يواصلون تأسيس المختبر. وبرغم جوِّ الحماس الذي كان يحيط بالفريق، فإن تصريحات دولميتش اتَّسمت بالاتزان: «الآن لدينا الأدوات اللازمة للمحاولة من جديد.»

أحجية الصور المقطوعة

تلعب الجينات المعيبة دورًا بارزًا في إحداث اضطرابات دماغية؛ فإذا كان هناك توءمان متماثِلان أحدهما أصيب بالفصام، فإن احتمال إصابة الآخَر بهذا الاضطراب سيتراوح بين ٤٠٪ و٦٥٪، وفي حالة إصابة شقيق لك بالمرض، تبلغ احتمالية إصابتك به نحو ١٠٪، وتتوافر إحصائيات مشابهة لمرض التوحد والاضطراب الثنائي القطب. وبينما تُعتبَر الجينات إلى حدٍّ ما عاملًا أقل أهميةً في الاكتئاب مقارَنةً بالاضطرابات الأخرى، فإنها تلعب دورًا حاسمًا ها هنا أيضًا، إلا أن الباحثين لم يُدركوا مدى تعقيد علم الجينات إلا في السنوات الأخيرة، على حدِّ وصف هايمان من معهد برود. يحكي هايمان أنه أثناء عمله مديرًا للمعهد الوطني للصحة النفسية في تسعينيات القرن العشرين، كان مفهومًا لديه ولدى آخَرين أنه لا يوجد جين واحد مسئول عن الفصام أو التوحد، مضيفًا: «لكني كنتُ أعتقد وجود ٢٠ جينًا على الأكثر أو ١٠٠ جين في الحالات المتطرفة، إلا أننا كنَّا مخطئين إلى حدٍّ بعيد.»

حتى الآن اكتشف الباحثون مئات التنويعات الجينية المرتبطة بزيادة خطر الإصابة بالفصام، ويقدِّر هايمان أن الرقم قد يرتفع ليصل إلى الألف. تبدو بعض الطفرات شائعة، في حين يبدو أن بعض التنويعات النادرة تُسبِّب نفس الأعراض التي يعاني منها أفرادٌ يحملون مجموعةً مختلفةً تمامًا من الطفرات النادرة، وعلاوةً على ذلك يبدو أن التنويعات المختلفة تعكس درجات مختلفة من الخطر، وقد أوضحت الدراسات الحديثة أن العديد من الاضطرابات — من بينها الفصام والتوحد — تشترك في عدد من الجينات المسئولة عن حدوثها. يصف هايمان تلك الظاهرة بأنها لعبة بازل معقَّدة للغاية.

يتوقَّف إيمانك بأن التعقيد الجيني الشديد للاضطرابات الدماغية يبشِّر بالخير في مجال اكتشاف العقاقير من عدمه على كَوْنِك متشائمًا أم متفائلًا، على حدِّ زعم باميلا سكلر التي تدير قسم علم جينوم الأمراض النفسية بكلية طب أيكان في ماونت سيناي في نيويورك. إن المنهج التقليدي المتَّبَع في اكتشاف عقاقيرَ لأمراضٍ ذات مكوِّن جيني قوي هو تحديد الجين المتسبِّب في المرض، أو الذي يلعب دورًا بارزًا فيه، ثم اختبار عدد من المركبات استنادًا إلى البروتين الذي يحمل شفرته هذا الجين. من غير المرجَّح أن ينجح هذا المنهج مع معظم الأمراض النفسية، بما أنها تنتج عن توليفاتٍ من تنويعاتٍ جينيةٍ كثيرةٍ جدًّا، لكن سكلر تميل ميلًا واضحًا نحو وجهة النظر المتفائلة؛ إذ تشير إلى أن التنويعات المتعددة تتيح مزيدًا من احتمالات العثور على مسارات محورية ترتبط بهذه الاضطرابات، ومزيدًا من فرص التوصُّل إلى طرقٍ بارعةٍ لعلاجها.

الآمال معقودة على أن تميل جميع تلك التنويعات الجينية إلى التأثير على مجموعات مشتركة من المسارات الجزيئية، أو أنواع من الخلايا، أو دوائر عصبية محددة. قد يساعد ذلك العلماءَ على تحديد مكمن الخطأ، ويتيح لهم كذلك معرفة أهدافٍ جديدةٍ لعلاجات محتمَلة. مع ذلك تعترف سكلر — المتخصصة في البحث عن الأسباب الجينية للفصام والاضطراب الثنائي القطب — بأنه على الرغم من التطورات السريعة في علم الجينات طوال بضع السنوات الماضية، فإنه ما زالت هناك أشياء كثيرة جدًّا بحاجةٍ إلى فهم. تقول سكلر: «نحن لا نعرف جميع عوامل المخاطرة، وفي ظل توافر أجزاء قليلة جدًّا من لعبة البازل، ما زال من الصعب معرفة كيفية توافُق جميع الأجزاء معًا.»

أضِفْ إلى هذا اللغز الجيني حقيقةَ أن الدماغ يحتوي على نحو ٨٦ مليار خلية عصبية، ونحو كوادريليون مشبك عصبي (نقاط الاتصال بين الخلايا العصبية)، وسيتضح جليًّا مدى ضخامة مهمة فهم أسباب الاضطرابات الدماغية؛ وهذا هو السبب وراء أن القدرة على أخْذ خلايا من المريض وتحويلها إلى خلايا عصبية في طبق بتري جعلت الباحثين متحمسين جدًّا. فالآن أصبحت لديهم وسيلة لإجراء دراسات مباشِرة حول كيفية تأثير التنويعات الجينية على الخلايا العصبية لدى مصاب بأحد الأمراض. ربما ما زلتَ لا تعرف جميع تفاصيل الدور الذي تلعبه العوامل الجينية، لكن على الأقل بإمكانك ملاحظة النتائج. وعلاوةً على ذلك، تتيح وسائل تعديل الجينوم الجديدة التغيير الدقيق لجينات الخلايا الجذعية التي تنمو منها الخلايا العصبية بما يضيف طفرةً ترتبط بالمرض، لملاحظة الكيفية التي تؤثِّر بها على الخلايا العصبية الناتجة.

يؤمن باحثون مثل أميت إتكين من جامعة ستانفورد، وكاي تاي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن تحقيق فَهْمٍ أفضل للدوائر والوصلات العصبية يُعَدُّ أمرًا ضروريًّا لاكتشاف علاجاتٍ أفضل للاضطرابات النفسية. (تصوير: ليا فاسن.)

يؤمن باحثون مثل أميت إتكين من جامعة ستانفورد، وكاي تاي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن تحقيق فَهْمٍ أفضل للدوائر والوصلات العصبية يُعَدُّ أمرًا ضروريًّا لاكتشاف علاجاتٍ أفضل للاضطرابات النفسية. (تصوير: ليا فاسن.)

لكن كيف تعمل تلك الخلايا العصبية في دماغٍ حقيقيٍّ بكل ما يحويه من شبكات ووصلات ضخمة؟ وكيف تؤثِّر حقًّا الطفرات الجينية التي تلعب دورًا في التوحُّد والفصام على تلك الدوائر من أجل تغيير السلوك؟ بدأت أبحاث جديدة في البحث عن إجابات لتلك الأسئلة.

في وقتٍ لاحقٍ من الصيف الحالي ستبدأ مستعمرة من قرود القشة — نوع من الرئيسيات يستوطن أمريكا الجنوبية — في الإقامة في معهد ماكجفرن لأبحاث الدماغ التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. لدى كلٍّ من القرود والبشر قشرةٌ جبهية أمامية فائقة التطور، ويزعم فينج من معهد ماساتشوستس وجود أدلة متزايدة على أن كثيرًا مما نجده في الفصام من اختلالات عصِيَّة على العلاج، وفي التوحد من جوانب قصور التواصل الاجتماعي والسلوك؛ يمكن إرجاعه إلى هذه المنطقة الدماغية.

من أجل البدء في فَهْم الخطأ الحادث، يخطِّط فينج وزملاؤه لاستخدام تقنية تعديل الجينوم لتوليد قرود تحمل طفراتٍ محدَّدةً ترتبط بالاضطرابات النفسية. سيركِّز العلماء أولًا على طفرةٍ نادرةٍ في جينٍ يُدعَى SHANK3، ونظرًا لأن هذا الجين مثال غير معتاد على جين واحد يتسبَّب في تغيُّرات جلية في السلوك تشبه التوحُّد، فإنه من السهل البدء به. ويمكن أن تحمل أجيال القرود اللاحقة الطفرات المتعددة التي توجد في معظم صور التوحد والفصام.

قد تتيح القرود طريقةً أكثر فعاليةً لاختبار العقاقير النفسية مقارَنةً بالقوارض التي تملك منظومة دوائر دماغية تختلف كثيرًا عن منظومة الدوائر الدماغية لدى البشر. إن الفكرة هنا لا تتعلق بإنتاج حيوانات مصابة بالفصام أو التوحد — لأن المزيج المعقَّد من السلوك البشري الشاذ لا يمكن تكراره بدقةٍ حتى في أنواعٍ أخرى من الرئيسيات — بل بملاحظة الكيفية التي تغيِّر بها الطفراتُ الجينية منظومةَ الدوائر على مستوًى جزيئي، والكيفية التي يتغيَّر بها سلوك الحيوانات تبعًا لذلك. يوضِّح فينج ذلك قائلًا: «ربما لا يكون سلوك تلك الحيوانات مطابِقًا لسلوك البشر، لكنه على الأقل وسيلة تقريبية. إنه يؤكِّد على أن بوسعنا تصحيح الدوائر، وأن التغييرات تؤدِّي إلى تحسُّنٍ في السلوك.»

لا تقلق

ينكمش الفأر مرتعدًا في أحد أركان المتاهة، وحتى في مقطع الفيديو الذي يعرض التجربة يبدو قلقه واضحًا بينما يلتصق جسده بالحائط. يتصل برأس الحيوان سلك رفيع من الألياف الضوئية، وفجأةً بعد مرور دفقةٍ من ضوءٍ أزرقَ عبر السلك يبدأ الحيوان في التحرُّك مُسرِعًا، ويستكشف أفرُع المتاهة الأربعة بطاقةٍ وشجاعةٍ جديدتين.

لقد أحدث اختراع علم الجينات الضوئية ثورةً في دراسة منظومة الدوائر العصبية، لكنه حتى ضمن جميع الدراسات المبهرة التي استخدمت هذه التقنية، تبرز تجربة الفأر السابقة التي أجرتها الباحثة كاي تاي عام ٢٠١١، بينما كانت طالبة أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة ستانفورد؛ إذ أثبتت تاي — التي تعمل الآن أستاذًا مساعدًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — أن بوسعها إثارة القلق وإيقافه بضغطة زر. ومع أنها كانت تستهدف جزءًا من الدماغ يُسمَّى اللوزة الدماغية، وهو المعروف بارتباطه بالخوف والقلق، إلا أنها «ذهلت من مدى مفاجأة التغيير وقوته»؛ حيث تصفه قائلةً: «كان التغيير شبهَ فوري، أصابني بحالةٍ من الانبهار، لقد غيَّر تصوُّري عن الدماغ.»

كيف يمكن ترجمة هذه المعرفة المتنامية بدوائر الدماغ ووصلاته — والدور الذي تلعبه في مشاعر مثل القلق — إلى علاجات فعلية؟ هل يستطيع الباحثون إيجاد طرق آمنة وفعَّالة للتدخُّل في تلك الدوائر والوصلات العصبية داخل أدمغة المرضى، أو بعبارةٍ أخرى التوصُّل إلى طرق تُمكِّننا من إصلاح الخطأ؟

لا يبدو علم الجينات الضوئية — على الأقل في صورته الحالية — هو سبيلنا لتحقيق ذلك؛ إذ يتطلَّب تعديلًا جينيًّا للخلايا التي يرغب الباحثون في تنشيطها، بالإضافة إلى إدخال سلكٍ من الألياف الضوئية داخل الدماغ. لتلك الأسباب ينحصر استخدامه على القوارض، رغم أن بضع تجارب قد أُجرِيت على القرود. إن استخدام هذه التقنية في علاج دوائر الدماغ المختلَّة وظيفيًّا علاجًا مباشرًا ليس خيارًا عمليًّا الآن، وقد لا يصبح كذلك أبدًا، لكن في وسعه كتقنية بحثية أن يمنح الباحثين ما هم في أمَسِّ الحاجة إليه، وهو أهداف جزيئية جديدة. يؤمن باحثون مثل تاي وفينج أن التجارب الجينية الضوئية التي يُجرونها قد تساعد على تحديد أنواعٍ معينةٍ من الخلايا في الدوائر التي تكمن خلف بعض الأعراض النفسية. بعد ذلك سيتعيَّن عليهم اكتشاف علامات مميزة على تلك الخلايا تتيح للعقار التعرُّف على الخلية. إنها طريقة واعدة للغاية، وبالفعل تشير النتائج الحديثة إلى وجود طرق لتمييز الخلايا الخطيرة كأهداف لمركبات دوائية، لكن هذه الأبحاث ما زالت في مرحلةٍ مبكرةٍ جدًّا.

أحد البدائل هو محاولة التدخُّل مباشرةً في الدوائر، وتجاوُز استخدام العقاقير. أحد العلاجات القياسية لمرض باركنسون يتمثَّل في زرْع مجموعة أقطاب كهربائية في دماغ المريض لتهدئة الارتجافات، ويُطلَق على هذه التقنية اسم التحفيز الدماغي العميق، ويحاول الباحثون في جامعة إيموري إدخال تعديلات عليها بحيث تعالج الاكتئاب، عبر إدخال قطب كهربائي في منطقةٍ داخل الدماغ تُعرَف باسم المنطقة ٢٥. ويستخدم باحثون آخَرون التحفيز الدماغي العميق لعلاج اضطراب الوسواس القهري، وقد توصَّلوا إلى نتائج واعدة.

قد توجد كذلك طرق للتأثير مباشرةً على الدوائر المعيبة دون اللجوء إلى الجراحة؛ إذ يستخدم أميت إتكين — أستاذ الطب النفسي المساعِد في جامعة ستانفورد — التصويرَ بالرنين المغناطيسي الوظيفي بجانب التحفيز المغناطيسي الخارجي لرسم خريطةٍ توضِّح منظومةَ الدوائر المختلَّة لدى المرضى، ويهدف من ذلك إلى تعديل التحفيز المغناطيسي — الذي يُستخدَم بالفعل على نطاقٍ واسعٍ لعلاج حالات الاكتئاب المستعصية — بما يناسب التعامُل مع مشكلاتٍ محدَّدةٍ في منظومة الدوائر العصبية لدى المريض.

يَستخدم هذا العلاج — الذي يُعطَى للمريض عبر سلكٍ كهرومغناطيسيٍّ ملفوفٍ يُوضَع على فروة رأسه — نبضاتٍ مغناطيسيةً لتوليد تيارٍ كهربائيٍّ يستطيع زيادة النشاط الدماغي أو خفضه. صُمِّمَت النسخة التجارية من هذه التقنية لاستهداف نفس الجزء الصغير من القشرة الجبهية الأمامية لدى جميع المرضى، ولكن بإضافة تقنية تصويرٍ إليها، ويأمُل إتكين في توجيه التحفيز بمزيد من الدقة إلى حيث يحتاجه المريض. لن تأتيَ هذه الطريقة بالمعجزات؛ إذ تساعد بعض الناس فحسب على ما يبدو، لكن الإحباط الذي يصيب إتكين، والناتج عن عجزه عن تزويد مرضاه بمزيدٍ من الخيارات الأكثر نجاحًا، هو ما يدفع إتكين لمواصلة أبحاثه.

يستخدم إتكين — الذي يعمل كذلك في عيادةٍ بمستشفى المحاربين القدامى في مدينة بالو ألتو تختص بعلاج المحاربين القدامى الذين يعانون من القلق والاكتئاب الحاد — مجموعةً متنوعةً من الأدوات لمساعدة المرضى، من ضمنها العقاقير والعلاج النفسي إضافةً إلى التحفيز المغناطيسي. ويقول إن أهم ما يجعل جميع الوسائل أكثر فعاليةً هو معرفة المزيد عن كيفية تسبُّب الدوائر والوصلات العصبية المعيبة في السلوك الشاذ. وأثناء محاولته حل تلك المشكلات يقول إتكين: «أحاول ألَّا أبالغ في تحمُّسي لتقنية العلاج هذه.» ويضيف أن تعامله مع المرضى لم يكن محفزًا لأبحاثه المتعلقة باكتشاف علاجات أفضل فحسب، بل أحاطه علمًا كذلك بجوانب قصور هذه التقنية من الناحية العملية. يواصل إتكين حديثه بالقول: «ربما يبدو العديد من الدراسات العلمية منطقيًّا، لكن ثَمَّةَ فجوة بينه وبين ما يمكن تنفيذه على أرض الواقع، وفي بعض الأحيان تكون الفجوة كبيرة.»

رحلة البحث عن عقاقير

في شركة نوفارتس يتولَّى ريكاردو دولميتش مسئولية السعي لسد الفجوة بين الفهم العلمي الهائل لاضطرابات الدماغ وإتاحة عقاقير أكثر فعاليةً، وهو يتسم بالواقعية فيما يتعلَّق بما سيكون عليه الموقف: «آمل أن تكون قصتنا مليئةً بالإثارة، لكننا لا نعلم ذلك إلى الآن؛ فالأمر يستغرق وقتًا طويلًا.»

دولميتش ليس مدير شركة أدوية عاديًّا؛ فمنذ أقل من عامٍ كان لا يزال يدير مختبرًا في جامعة ستانفورد، ويساعد في إنشاء مكتبةٍ تضمُّ خلايا عصبية مستخلَصة من مرضى التوحُّد لتتمَّ استضافتها في معهد آلن برين في مدينة سياتل. وما زال موقعه الإلكتروني التابع لجامعة ستانفورد — التي حصل على إجازة رسمية منها — يعكس شخصيته غير التقليدية؛ إذ يتضمَّن الموقع روابط لقصصٍ تصف «روح الدعابة التي يتمتع بها وتصرفاته المضحكة»، كمحاولته الذهاب إلى الجامعة في أول أيامه بها مستخدِمًا عصا القفز.

منذ عقد تقريبًا حدث تحوُّل جذري في أبحاث دولميتش. كان قد بدأ حياته المهنية بجامعة ستانفورد حيث بحث عددًا من المسائل الرئيسية المتعلقة بالكيمياء الحيوية في خلايا الدماغ، وكان عمله مثيرًا للإعجاب، حتى إنه عُيِّنَ بسببه في منصب أستاذ مساعد، لكن بعد ذلك — تحديدًا في عام ٢٠٠٥ — شُخِّصَتْ حالة ابنه بأنه مصاب بمرض التوحُّد، ومع شعوره بالإحباط نتيجةً لنقص خيارات العلاج، أعاد بناء مختبره بحيث ينصبُّ اهتمامه على هذا المرض، ومنذ ذلك الحين ساعَدَ في ابتكار تقنيات تتضمَّن استخلاص خلايا جلدية من مرضى التوحُّد وإعادة برمجتها للتحوُّل إلى خلايا جذعية، ثم تحفيزها للتحوُّل إلى خلايا عصبية يمكن دراسة ما يصيبها من خلل. يؤمن دولميتش بأن تلك التقنية — بجانب الثورة الحادثة في علم الجينات، والناتجة جزئيًّا عن التحليل السريع وغير المكلف المستخدَم في تحديد تسلسل الحمض النووي (دي إن إيه) — سوف تصبح محورَ جهودِ نوفارتس المتجددة من أجل اكتشاف عقاقير جديدة لعلاج الأمراض النفسية.

يصف دولميتش التقنية قائلًا: «إنها تتيح لنا أن نبدأ بالمريض.» ويضيف قائلًا إنه في حين يملك أطباء الأورام القدرة على أخْذ عينة من الورم، «لا يمكنك ببساطةٍ إحداث ثقوب في أدمغة البشر وأخْذ أجزاءٍ صغيرة منها.» ثم يستدرك بالقول: «لكن الآن أصبحنا قادرين على إنتاج عيِّنات باستخدام الخلايا الجذعية.» وفي محاولةٍ للتوسُّع في استخدام هذه التقنية، يستعدُّ الباحثون بشركة نوفارتس لإنتاج عضيَّات، وهي عبارة عن أجزاء صغيرة من الدماغ تتكوَّن في طبق بتري مع نمو الخلايا العصبية وتحتشد معًا في أشكال ثلاثية الأبعاد؛ ومن ثَمَّ لم يصبح في وسع الباحثين البحث عن أوجه الخلل فحسب، بل تمكَّنوا كذلك من اختبار مركبات من مكتبة نوفارتس الضخمة للعقاقير المحتملة من أجل معرفة مدى تأثير المواد الكيميائية على الخلايا العصبية.

مع ذلك تظل إمكانية تصميم عقاقير تستهدف دوائر عصبية محدَّدة في الدماغ بعيدةً إلى حدٍّ كبير، وهو ما يعترف به دولميتش قائلًا: «لدينا الآن فكرةٌ ما عن أنواع الخلايا والمناطق الدماغية التي نحتاج إلى تثبيطها أو تنشيطها من أجل جعْل أحد الأشخاص أكثر سعادةً أو أقل قلقًا، ولم نَعُدْ نحتاج إلى التعامل مع الدماغ باعتباره كتلةً واحدةً من الجزيئات التي تُصدر إشارات.» لكن ذلك لا يزال يتجاهل التحديَ الصعبَ الذي يتمثَّل في إنتاج عقار انتقائي يُنشط أنواعًا محدَّدة من الخلايا في دوائر معينة أو يثبطها. يتساءل دولميتش: «كيف تحقَّق ذلك؟ إن أحدًا لم ينفذه من قبلُ. لم تصل رحلة اكتشاف العقاقير إلى تلك المرحلة بعدُ، لكنها تتجه إليها.»

انضمَّ دولميتش إلى مجال الأدوية لأنه أدرك أن العلم والتكنولوجيا حقَّقَا التقدُّم الكافيَ لخلق فرصٍ تتيح تطوير عقاقير جديدة لعلاج الأمراض النفسية، وقد أدرك كذلك بعدما قضى سنوات في مجال البحث الأكاديمي أن تسويق عقار جديد يتطلَّب موارد وأموالًا وأعدادًا من المرضى، وهو ما تتيحه شركة مثل نوفارتس. يعلِّق دولميتش على ذلك قائلًا: «كان الوقت قد حان لبدء التطبيق العملي.» بعد سنوات من الحديث عن علاجاتٍ ممكنةٍ للتوحد والفصام.

رغم ذلك، من الواضح أن الإخفاق في اكتشاف عقاقير جديدة فعَّالة لعلاج الاضطرابات الدماغية — بجانب ما اشتُهِر عن تلك الإخفاقات من كلفة عالية — لا يفارق أبدًا عقول اللاعبين في تلك الصناعة. يقول دولميتش إن الشركات «قد طوَّرت بعض العقاقير المذهلة على مدار السنوات العشر الأخيرة، والتي كانت آمنة وتصيب الهدف.» قبل أن يكتشف حقيقة أنها كانت غير فعَّالة تمامًا. ومع أن دولميتش وفريقه على قناعةٍ من أن لديهم «طريقة أفضل لاكتشاف عقاقير جديدة»، فإنه يقرُّ كذلك بأن أمامهم خمس سنوات قبل أن يعرفوا مدى فعالية استراتيجيتهم القائمة على الأدوات الجينية الجديدة والأدوات المعتمدة على الخلايا الجذعية.

بالنسبة إلى أولئك الذين يحاولون اكتشاف أدوية جديدة، فإن الأمر برمته يتعلَّق بإيجاد أهدافٍ جزيئيةٍ جديدةٍ يستطيع المركَّب الكيميائي التأثيرَ عليها على نحوٍ آمِنٍ وبطريقةٍ تعالج أعراضَ المرض. إنه لَتحدٍّ صعب. وما زلنا نجهل تمامًا الكيفية التي يمكن بها التوصُّل إلى أدويةٍ لعلاج الاضطرابات النفسية اعتمادًا على المعرفة المتنامية بمكمن الخلل في أدمغة مَن يعانون من تلك الاضطرابات، بل إنه أبعد ما يكون عن الوضوح ما إذا كان هذا الأمر ممكنًا من الأساس أم لا. لكن على الأقل الآن، وبعد عقودٍ من التعثُّر، يملك باحثو العقاقير أخيرًا الأدوات التي يحتاجونها لبدء عملية اختبارٍ منهجيةٍ لاستراتيجيات اكتشاف تلك الأهداف والتأثير عليها. يقول دولميتش إنه عندما يصبح لدينا في نهاية المطاف طريقة أفضل للبحث عن عقاقير تعالج اضطرابات مثل التوحد والفصام، «فقد يكون عدم استغلالها بمثابة جريمة.»

يأمل ريكاردو دولميتش في إحياء مجال اكتشاف العقاقير النفسية في شركة نوفارتس، مستغلًّا التطوُّرات المتحققة في علم الجينات وتقنيات الخلايا الجذعية. (تصوير: آدم ديتور.)

يأمل ريكاردو دولميتش في إحياء مجال اكتشاف العقاقير النفسية في شركة نوفارتس، مستغلًّا التطوُّرات المتحققة في علم الجينات وتقنيات الخلايا الجذعية. (تصوير: آدم ديتور.)

10 Dic, 2015 11:04:03 AM
0