Salta al contenuto principale

وحوش وتنانين وديناصورات: تفسيرات خلقوية لملحمة بيوولف

ليس ثَمَّةَ مجال يستعصي تشويهه على أنصار خلقوية الأرض الفتية؛ ففي ميدان دراسات الأدب واللغويات، أساءوا تفسير ملحمة بيوولف وترجمتها وحرَّفوها تحقيقًا لأغراضهم.

 معظم المتشككين على دراية بالطبيعة المثيرة للجدل للحجج العلمية التي يدفع بها أنصار خلقوية الأرض الفتية؛ أولئك الذين يفسرون الإنجيل حرفيًّا ويؤمنون بأن عمر الأرض أقل من عشرة آلاف سنة. أما ما لا يُدرَك بالقدر ذاته فهو الأذى الذي يُلحقه بعض الخلقويين بالمؤلفات الأدبية والفن الرفيع، لا سيما ما يتضمَّن منها التنانين وغيرها من الوحوش. وبصفةٍ خاصة، حظيَتْ ملحمة بيوولف بشعبية كبيرة في أوساط الخلقويين في الآونة الأخيرة. على سبيل المثال، تضمنت «ديناصور أدفينشَر لاند» التي أنشأها كِنت هوفِند — والمتوقفة عن العمل حاليًّا — عرضًا لملحمة بيوولف،(1) كما يحتوي متحف الخلق بولاية كنتاكي على تمثال لبيوولف فوق باب مكتبة دراجون هول.(2) والعجيب أن الخلقويين لا يفسرون الإنجيل وحده باعتباره كلام الله الحرفي المنزَّه عن الخطأ، وإنما يفسِّرون أعمالًا أدبية مثل بيوولف باعتبارها سردًا حرفيًّا — إن لم يكن منزَّهًا عن الخطأ — لأحداث واقعية.

ظهرت أكثر معالجات بيوولف الخلقوية تعمقًا في كتاب «بعد الطوفان: تتبُّع تاريخ أوروبا المبكر ما بعد الطوفان حتى نوح» من تأليف بيل كوبر، أمين حركة علم الخلق التي يقول عنها موقعها: «أقدم حركة خلقوية في العالم.» (https://www.csm.org.uk/index.php). ويتمثل الهدف الرئيسي لكوبر في اختبار دقة جدول الأمم، الذي ورد في الإصحاح العاشر والإصحاح الحاديَ عشرَ من سفر التكوين، وصحته وصلاحيته؛ ومن ثَمَّ دقة بقية الإنجيل وصحته وصلاحيته؛ فقارن كوبر بين جدول الأمم — الذي يصف سلالة أبناء نوح — بسلاسل نسب سلتية وأنجلوسكسونية وإسكندنافية تتتبَّع العديد من الأُسر الحاكمة الأوروبية مرورًا بمجموعة من الأبطال الوثنيين والآلهة الوثنية وصولًا إلى أحد أبناء نوح، الذي يغلب الظن أنه وُلد على سفينة نوح. ويذهب كوبر إلى أن سلاسل النسب تلك تحفظ بدقة كبيرة التقاليد السابقة على التحوُّل إلى المسيحية والتي لا صلة لها بالإنجيل. إلا أنها إذ تأتي على ذكر نوح وأبنائه وسفينته، يفسِّرها كوبر على أنها تأكيد مستقل للرواية الواردة في الإنجيل. والواقع أنه ثَمَّةَ أدلة تشير إلى أن نوحًا وأبناءه أُضيفوا إلى سلاسل النسب المذكورة في مرحلة متأخرة. (3)

في الفصلين الأخيرين، تحوَّل كوبر من سلاسل النسب إلى قصص الوحوش، واقترح أن تلك الوحوش كانت ديناصورات في الحقيقة. فيرى كوبر أن حكايات التنانين ووحوش البحر تثبت أن البشر عاصروا الديناصورات، وأن الأرض من ثَمَّ أحدث سنًّا بكثير مما يذهب إليه العلماء. وتربط ملحمة بيوولف بين الموضوعات التي تطرَّق إليها كوبر؛ فهي تذكر الطوفان وقابيل، وتشير إلى بعض الشخصيات الواردة في سلاسل النسب التي درسها كوبر، كما أنها تتضمَّن وحوشًا. وكما هي الحال مع سلاسل النسب، يرى كوبر أنه يجب تقديم تاريخ ملحمة بيوولف إلى وقت يسبق تحوُّل الأنجلوسكسونيين إلى المسيحية. بل إنه يذهب إلى أن «القصيدة تسبق هجرة السكسونيين إلى تلك الجزر.» (١٤٧) ورغم خلافية مسألة تاريخ تأليف الملحمة،(4)فإن مثل ذلك التاريخ المبكر مستحيل؛ بادئ ذي بدء فقد شرع الأنجلوسكسونيون يتوافدون على بريطانيا في القرن الخامس؛ أي «قبل» وقوع الأحداث الرئيسية التي ترويها القصيدة بفترة قصيرة. إضافةً إلى ذلك، إذا كانت بيوولف مؤلَّفًا أوروبيًّا، فقد جاءت باللغة الخطأ. فبما أنها تركز على القبائل الإسكندنافية، فمِن شأن المرء أن يتوقع كتابتها باللغة النوردية القديمة أو ربما حتى باللغة النوردية العتيقة، ولكن هذا لم يحدث؛ فقد وردت باللغة «الإنجليزية القديمة»، وهي لغة نشأت في «إنجلترا» عقب هجرة قبائل عدة إليها من أوطانها في أوروبا.

يحتاج كوبر إلى تقديم تاريخ ملحمة بيوولف إلى الماضي قدر الإمكان؛ وذلك جزئيًّا حتى يستطيع الدفع بأن تلك القصيدة منفصلة عن الإنجيل والفكر المسيحي؛ ومن ثَمَّ فإنها تؤكد الرواية الواردة في الإنجيل عن الطوفان، وجزئيًّا حتى يستطيع أن يقول إنها نظم شعري ولكنه تاريخي بالأساس، يضم أشخاصًا حقيقيين وأحداثًا حقيقية وحيوانات حقيقية. ويشير كوبر إلى أن تلك القصيدة تحفظ «الأوصاف البدنية لبعض الوحوش التي واجهها بيوولف فحسب، إضافةً إلى الأسماء التي عَرَفَ بها السكسونيون والدانماركيون بعض أنواع الحيوانات.» (١٥٠) وقد أدرج في ملحق بالكتاب قائمة تحوي «مصطلحات مستخدمة في علم الحيوان واردة في ملحمة بيوولف» (الملحق ١٠، ٢٣٨–٢٤٠). ولا يشبه أيٌّ من تلك المصطلحات ما نعتبره عادةً أوصافًا ذات صلة بعلم الحيوان، وكثير من الألفاظ التي استخدمها كوبر في ترجمته — مثل «الشيطان» و«العفريت» و«الشرير» و«الآثم» و«الشر الجاثم» و«المدمر الخبيث» و«المارد الخبيث» و«الوحش الشيطاني» — تتنافى مع قوله إن قصيدة بيوولف سبقت المسيحية.

في حين أن قصيدة بيوولف الملحمية تحكي قصص ضغائن ومعارك وتحالفات، فإنها تركز في المقام الأول على مواجهات البطل مع الوحوش؛ ففي شبابه سافر بطل قبيلة الجيت إلى بلاط الملك الدانماركي روثجار لكي يقاتل جريندل؛ وهو وحش كان يعيث فسادًا في القاعة ويقتل من فيها من رجال ويلتهمهم. وعندما سعت أم جريندل للثأر لمقتل ابنها، تبعها بيوولف إلى عرينها وقتلها بدورها. وفي معركته الأخيرة، واجه بيوولف — الذي كان قد أصبح ملكًا عجوزًا — تنينًا هاجم بلاده. وإضافةً إلى أعدائه الرئيسيين، واجه بيوولف أيضًا عددًا من ثعابين البحر.

وقد تناول كوبر في تحليله لقصيدة بيوولف الكلمات والعبارات والفقرات بنقاش متعمق إلى حدٍّ ما، موحيًا بأنه على قدرٍ من الدراية باللغة الإنجليزية القديمة؛ ففي أحد المواضع، قدَّم ترجمته الخاصة لفقرة قصيرة. تلك الفقرة لا تتسم بصعوبة جمة، وفحوى ترجمته دقيق بما فيه الكفاية، ولكنها تكشف أنه لا يفهم فعليًّا كيف تعمل تلك اللغة.(5) وفي غير ذلك الموضع، يعتمد كوبر على ترجمة مايكل ألكساندر، وإن كان لا يتضح دائمًا من استشهاداته متى يستخدم ترجمة ألكساندر. وهو يصف ترجمة ألكساندر بأنها «أفضل ترجمة» للقصيدة (١٥٤).(6) وإحقاقًا للحق، ليس ثَمَّةَ ما يعيب ترجمة ألكساندر، ولكنها ترجمة «شعرية»، فيستخدم ألكساندر مبدأ الضرورة الشعرية في تكييف القصة. ومن أجل مناقشة الاستخدام الدقيق للألفاظ، ستكون الترجمة الشعرية عديمة الجدوى إلى حدٍّ كبير؛ ففي سبيل إجراء مثل تلك المناقشة، تلزمنا ترجمة «نثرية» حرفية إلى حدٍّ كبير، على أقل تقدير. والأفضل من ذلك بكثير هو استخدام نص باللغة الإنجليزية القديمة يضم مسرد مصطلحات جيدًا، مثل طبعة فريدريك كلايبر. وقد استشهد كوبر بكلايبر واقتبس منه — وانتقد شروحه في بعض المواضع — ولكنه تجاهل مسرد المصطلحات الذي أورده كلايبر إلى حدٍّ كبير مفضِّلًا عليه ترجمة ألكساندر. وبذلك آل به الأمر إلى ارتكاب أخطاء، مثل التعمق بعض الشيء في مناقشة اسم «نوع» من ثعابين البحر، دون أن يَعِيَ أن كلمة yðgewinn التي انهمك في مناقشتها لا تشير إلى ذلك المخلوق وإنما إلى حركته.(7)

وقد حوَّل كوبر خصوم بيوولف الثلاثة الرئيسيين إلى ديناصورات بتفسير الأوصاف الشعرية على أنها مصطلحات ذات صلة بعلم الحيوان وانتقاء تفاصيل من الترجمة الشعرية، مع الإيحاء بأن النص الأصلي باللغة الإنجليزية القديمة يؤيد حجته. ولا يثير الدهشة أن يعرِّف كوبر التنين على أنه بتروصور. ولمزيد من التحديد، فهو يرى أن استخدام لفظ widfloga (أي المحلِّق لمسافات طويلة، السطرين ٢٣٤٦ و٢٨٣٠) «من شأنه أن يميز هذا النوع من الزواحف الطائرة تحديدًا عن نوع آخر مشابه لم يكن يستطيع أن يطير سوى مسافات قصيرة.» (١٥٢)؛ لذا فقد خلص إلى أنه بتيرانودون، رغم أنه لم يُعثَر على بقايا للبتيرانودون إلا في أمريكا الشمالية. وإضافةً إلى ذلك، فإن كلمة «بتيرانودون» تعني مخلوقًا مجنَّحًا بلا أسنان، في حين أن التنين في قصيدة بيوولف كان لديه أسنان بلا شك. والأهم من ذلك أنه افترض أن ذلك المخلوق يمكن تحديده حيوانًا بعينه استنادًا إلى أوصاف شعرية. إن اللغة الإنجليزية القديمة قائمة على الجناس الاستهلالي أكثر من القافية، وقد يستخدم الشاعر ألفاظًا كثيرة مختلفة للإشارة إلى المخلوق نفسه أو الشخص أو الشيء، وكثيرًا ما يستخدم اللفظ الأكثر تلاؤمًا مع القافية والوزن. وأحيانًا ما يؤدي ذلك إلى إرباك القارئ. على سبيل المثال: في قصيدة بيوولف، استُخدمت أوصاف «الدانماركيين الشرقيين» و«الدانماركيين الغربيين» و«الدانماركيين الشماليين» و«الدانماركيين الجنوبيين» كلها للإشارة إلى الشعب ذاته. وفي المرتين التي وردت فيهما اللفظة widfloga كانت مناسبة للجناس الاستهلالي والوزن في السطر.(8)

وقد ذكر كوبر أيضًا أن الشاعر سَمَّى التنين «التنين الناري» (السطرين ٢٣٣٣ و٣٠٤٠)،(9) ولكنه لم يشرح كيفية تلاؤم ذلك اللقب مع البتيرانودون. وتكرر ربط الشاعر بين التنين والنار؛ فقد استخدم التنين النار ليُنزل انتقامه على بلاد بيوولف، مُحرقًا الديار ومقتِّلًا الناس، وقد أعد بيوولف درعًا من الحديد لتقيَه ألسنة اللهب التي ينفثها التنين. إلا أن السجل الأحفوري لم يقدِّم أي دليل واضح على قدرة البتروصور على نفث اللهب. وإن إحدى الخصائص الملحوظة أيضًا لدى التنين هي حُبه المفرط للكنوز؛ فقد أمضى ٣٠٠ عام في كهفه، راقدًا على كنزه حتى أشعلت سرقة كأس واحدة غضبه. إن حب الكنوز شائع بين التنانين الجرمانية، وقد ذُكِر في مؤلفات كثيرة باللغة الإنجليزية القديمة واللغة النوردية القديمة. وإن كان الشاعر الذي نظم قصيدة بيوولف يصف حيوانًا حقيقيًّا مثلما يزعم كوبر، فلنا أن نتوقع وجود عظام البتيرانودون فوق مخازن كنوز أو على مقربة منها، ولكن المثير للدهشة أن الكنز الأنجلوسكسوني الدفين الضخم الذي اكتُشِف مؤخرًا في ستافوردشير بإنجلترا خالٍ من بقايا البتروصور، ويسري ذلك أيضًا على السفن الكبيرة المطمورة، مثل ساتون هو في إنجلترا وجوكشتاد وأوسبيرج في النرويج.

وفي حين أن الربط بين التنين والديناصور شائع في أوساط أنصار خلقوية الأرض الفتية، فإن كوبر يتمادى أكثر بقوله إن الوحوش الأخرى المذكورة في ملحمة بيوولف هي ديناصورات بدورها، فيقول: «لا بد أن نحوِّل انتباهنا الآن إلى وحش زاحف آخر كان بلا شك أشد الحيوانات التي واجهها بيوولف فتكًا، وهو الوحش المدعوُّ جريندل.» (١٥٢-١٥٣) ففي القصيدة، وصف الملك ثروجار جريندل وأمه كالتالي:

Ðæra oðer wæs,

… … … … … … … …

idese onlicnæs; oðer earmsceapen

on weres wæstmum wræclastas træd,

næfne he wæs mara þonne ænig man oðer. (ll. 1349b-1355)

ثم قدم كوبر ترجمة ألكساندر للفقرة: وأحدهما… … … … … … … …

كان على هيئة امرأة، ولكن ذو شكل الرجل،

وإن كان منحنيًا، خطا بدوره طريق المنفى

عدا أنه كان أضخم من أي بشر. (السطور ١٣٤٨–١٣٥٢)(10)

ثم سأل كوبر: «ولكن، ما الذي تخبرنا به الأوصاف تحديدًا مما يحمل أهمية كبيرة؟ إنه ببساطة أن الأنثى كانت على هيئة امرأة … والذكر كان على هيئة رجل … أي إن كليهما كان من ذوي القدمين، لكن أضخم من أي بشر.» (١٥٥، التوكيد في النص الأصلي)، والحقيقة أن هذا ليس هو ما يخبرنا به الوصف على الإطلاق؛ فقد حذف ألكساندر — لدواعي الضرورة الشعرية على الأرجح — كلمة واحدة، هي: oðer، بمعنًى «آخر» (السطر ١٣٥٥ب). فقد كان جريندل أضخم من أي رجل «آخر». وتعتمد حجة كوبر بأكملها على حذف صفة واحدة صغيرة.(11) فقد كان جريندل ضخمًا بصورة غير طبيعية، ولكنه كان «على هيئة رجل»، وأمه كانت تشبه شكل المرأة. وقد ربط شاعر القصيدة مرتين بين عشيرة جريندل ونسل قابيل (السطور ١٠٤–١١٤ و١٢٥٦–١٢٦٨)، وأكثر من مرة وصف جريندل بالعملاق أو ربط بينه وبين العمالقة.(12) فهو لم يصفهم قط على أي نحوٍ يشير إلى كونهم من الزواحف؛ فقد سَمَّى التنين wyrm (بمعنى ثعبان) وdraca، وأكثر من مرة أشار إليه بوصف «الملتو». وعلى نحو مماثل، سَمَّى الوحوش البحرية (التي لا تحمل اسم yðgewinn) wyrm وdraca. ولم يُستخدم أيٌّ من هذين اللفظين لوصف جريندل أو أمه.

وبعد أن حوَّل كوبر كائنات بشرية إلى حدٍّ ما إلى مجرد كائنات ذات قدمين، حرَّف وصف معركة بيوولف مع جريندل إلى شيء مختلف بدرجة كبيرة عما وصفه الشاعر؛ فقال كوبر إن الدانماركيين «حاولوا بأنفسهم قتل جريندل باستخدام الأسلحة التقليدية … إلا أن جلده المنيع استعصى عليهم جميعًا، فتمكَّن جريندل من مهاجمة الدانماركيين وأفلت من العقاب. وقد أخذ بيوولف ذلك كله في حسبانه، وقرر أن السبيل الوحيد للتعامل مع الوحش هو مواجهته عن كثب» (١٥٥-١٥٦). والحقيقة أن بيوولف قرَّر أن يقاتل وهو أعزل من السلاح لأنه يعلم أن جريندل لا يستخدمه. فكان يعتبرها مسألة شرف (السطور ٤٣٣–٤٤٠).(13) ولم يكتشف إلا أثناء معركته مع أم جريندل — التي استعان فيها بسيف فعلًا — أن كليهما منيع أمام الأسلحة العادية.

ورغم التفسير الذي قدَّمه بيوولف لتصرفاته، ذهب كوبر إلى أنه كان موقفًا استراتيجيًّا؛ لأن «قائمتَي الوحش الأماميتين … كانتا صغيرتين وهزيلتين نسبيًّا. فقد كانت تلك هي نقطة ضعف الوحش الوحيدة، وقد عمد بيوولف إليها مباشرةً؛ فقد كان مشهورًا عنه بالفعل قوة قبضته المذهلة، وقد استخدمها لينتزع إحدى ذراعَيْ جريندل الضعيفتين الصغيرتين من مكمنها بالمعنى الحرفي للكلمة.» (١٥٦) وقد كان كوبر مراوغًا في تحديد أي نوع من الديناصورات هو جريندل. فسأل: «هل ثَمَّةَ حيوان مفترس في السجل الأحفوري الذي نعرفه، كان لديه قائمتان خلفيتان ضخمتان وقائمتان أماميتان هزيلتان نسبيًّا؟» (١٥٩) وأجاب أنه ثَمَّةَ حيوانات عدة تنطبق عليها تلك المواصفات. وبعد أن راح يصف النوع الذي أشار إليه باسم «الجريندل» في صفحة أخرى، خلص إلى التالي: «أشك في أن يكون القارئ بحاجة إلى توجيهٍ مني فيما يتعلق بنوع الديناصور المفترس الأكثر تلاؤمًا مع تفاصيل الأوصاف البدنية.» (١٦٠) ورغم رفضه البوح باسمه مباشرةً، فمن الجليِّ أنه يقصد الإشارة ضمنًا إلى أن جريندل ما هو إلا تيرانوصور ريكس.(14)

المشكلة هنا هي أن الوصف الذي قدَّمه غير دقيق؛ فالشاعر لم يقل «قط» أن ذراعَيْ جريندل هزيلتان أو ضعيفتان أو صغيرتان، أو أن قائمتيه الخلفيتين ضخمتان. فعلى حد قول كوبر، كان بيوولف يتمتع بقوة هائلة؛ وقيل إن قبضته كانت قوتها تعادل قوة قبضة ثلاثين رجلًا (السطرين ٣٧٩-٣٨٠). وقد أدرك جريندل قوة بيوولف على الفور وأراد أن يهرب منه (السطور ٧٥٠–٧٥٦). فعلى وجه الدقة، بيوولف لم ينتزع ذراع جريندل مطلقًا، وإنما تسببت قوة الخصمين وإصرارهما مجتمعين في إصابة جريندل. فقد كان بيوولف مصرًّا على إحكام قبضته على جريندل، بينما كان جريندل يحاول الفكاك باستماتة. وفي النهاية، حقق كلٌّ منهما مبتغاه؛ حيث هرب جريندل إلى البحيرة، وبَقِيَ بيوولف ممسكًا بذراعه.

ورغم أن كوبر عرَّف جريندل خطأً على أنه أعتى خصوم بيوولف (كانت كل معركة أصعب من سابقتها)،(15) فقد انتقص من قدر جريندل ومن الإنجاز الذي حققه بيوولف بتحريفه النص باستمرار؛ فجريندل من وجهة نظر كوبر ليس ذا ذراعين هزيلتين فحسب وإنما «صغير، لم يصل حسبما رُوي عنه كله إلى أن يكون ذكرًا من نوعه مكتمل النضج.» (١٥٦) لا يمكنني أن أجزم أي «روايات» يقرؤها كوبر، ولكن القصيدة لا تؤكد زعمه بأي شكل من الأشكال. فجريندل — كما قلنا — أكبر من أي إنسان آخر، ويتمتع بقوة غير عادية؛ فهو ليس تيرانوصور ريكس هزيل الذراعين غير مكتمل النضج، وإنما هو كائن ضخم قوي له هيئة البشر ويطيب له الْتِهام الدانماركيين.

قد يبدو كتاب كوبر إضافةً سخيفة بعض الشيء لترسانة الخلقويين. ومن المؤكد أنه يسهل على أي شخص عنده دراية بتاريخ العصور الوسطى أو لغاتها أو أدبياتها أن يدحض كثيرًا من حججه. ولكن للأسف، الأرجح أن الجمهور الذي يستهدفه لا يتضمَّن باحثين كُثُرًا في مجال العصور الوسطى؛ فقليلون جدًّا العارفون بسلاسل نسب العصور الوسطى الخاصة بويلز أو أيرلندا أو إنجلترا الأنجلوسكسونية أو إسكندنافيا، على سبيل المثال. وإن المظهر الأكاديمي الذي يصطبغ به عمل كوبر يضفي عليه بعض الموثوقية، وقد أصبح فائق الشعبية في أوساط الخلقويين؛ فالبحث في محرك البحث جوجل عن كلمتَيْ «بيوولف» و«ديناصورات» يأتي بأكثر من اثني عشر مليون نتيجة. بعض تلك المواقع تدحض مزاعم الخلقويين، ولكن كثيرًا منها عبارة عن نُسخ حرفية من كتاب «بعد الطوفان» كله أو أجزاء منه أو بعض الاقتباسات المعدَّلة منه.

والأكثر إثارةً للقلق أن أفكار كوبر ترددت في أعمال يُقصد بها تثقيف الأطفال. تعيد روث بيتشيك استخدام الحجج التي دفع بها كوبر في مقالها «بيوولف: خيال أم تاريخ؟» على موقع Crosswalk.com للدراسة المنزلية.(16) ورغم أن اللغة التي تستخدمها موجَّهة للأطفال الصغار، فإنها تحذو حذو كوبر في حججه، مضيفةً أخطاءً من جانبها من حينٍ لآخر.

ومن المواد الموجَّهة لتعليم الأطفال في المنزل أيضًا «المغامرة المسموعة» التي تحمل عنوان: جوناثان بارك والبحث عن بيوولف. «البحث عن بيوولف» هي العدد الرابع (من بين ثمانية) من مغامرات جوناثان بارك، وهي عبارة عن حلقات إذاعية تُباع أيضًا في صورة مجموعات من الأقراص المدمجة. تلك السلسلة متاحة للبيع من خلال خدمة «الإجابات في سفر التكوين» ومحل الهدايا التابع لمتحف الخلق (وكذلك كتاب «بعد الطوفان»)، وكان أول من أعدها معهد أبحاث الخلق،(17)وتنتجها حاليًّا خدمة منتدى الرؤية.(18) تتتبَّع السلسلة فريق الاستجابة الخلقوي، بقيادة والد جوناثان — كيندل بارك — عالم الإحاثة الذي تحوَّل — استنادًا إلى «الأدلة العلمية» — من الإيمان بنظرية التطور إلى التزامٍ صارمٍ بخلقوية الأرض الفتية. وفي «البحث عن بيوولف»، يسعى فريق الاستجابة الخلقوي إلى استعادة مخطوطة بيوولف المسروقة، «أقدم مخطوطة إنجليزية اكتُشِفت على الإطلاق».(19) والفريق متلهِّف لإيجاد المخطوطة (وهو أشد لهفةً بكثير من الشرطة البريطانية أو المكتبة البريطانية، على ما يبدو)؛ لأنها تحتوي على أدلة تثبت أن الديناصورات والبشر عاشوا معًا. وكما في كتاب كوبر، أُضيفَ جريندل إلى قائمة الديناصورات الحديثة (نسبيًّا). وفي مغامرة جوناثان بارك، تحوَّل إلى تنين أيضًا. وكل مغامرة مسموعة يرافقها دليل دراسة كبير يتضمن أنشطة مسلية وكثيرًا من المعلومات الخاطئة والعلم المزيف. كما أن الإعلانات الجادة التي تعقب كل جزء تحث المستمعين على البحث عن مزيد من مواد الدراسة على موقع www.jonathanpark.com

عندما يطوِّع الخلقويون ملحمة بيوولف لتكون أداة لأغراضهم، فإنهم يساهمون في تضليل أطفالهم الدارسين في المنزل؛ فقد حرَّفوا القصيدة وشوَّهوها حتى تتلاءم مع العلم المزيف والتاريخ المزيف. والمُقلِق بنفس الدرجة تقريبًا هو كيف أن ذلك يحد من تذوق واحدة من أقدم روائع لغتنا واستيعابها؛ فالنقد الأدبي يبيح خروج تفسيرات متعددة لأي عمل، طالما أن تلك التفسيرات يمكن تأييدها بأدلة نصية وسياقية. أما الخلقويون فلا يسمحون بسوى تفسير واحد لملحمة بيوولف، وهو تفسير يتعارض تعارضًا صريحًا مع الأدلة النصية والسياقية. فبمحاولة إكراه الملحمة على التوافق مع فهم مُتصلِّب ومضلل لأحداث العالم، يتجاهل الخلقويون أيضًا القيمة الأدبية لذلك العمل؛ فيصف كوبر اللغة الشعرية للملحمة باستخفافٍ قائلًا: «لقد كان للأنجلوسكسونيين (مثل الألمان والهولنديين في العصر الحديث) أسلوب بسيط للغاية في تكوين الكلمات، وقد تبدو الأسماء التي كانوا يطلقونها على متعلقات حياتهم اليومية مضحكة لآذاننا الإنجليزية المعاصرة عند ترجمتها حرفيًّا … لذا فقد كانت لغة حَرْفية بامتياز، ولكنها في الآن ذاته لغة شعرية للغاية وتتمتع بقدرات وصفية فائقة وواضحة.» (١٥٠) هذا التعريف للغة التي كُتِبت بها القصيدة ملائم لأغراض كوبر؛ فتكوين الكلمات بسيط، والأوصاف لا تتسم بالغموض؛ مما يجعل تفسيراته بديهية. والحقيقة أن ملحمة بيوولف تنطوي على كثير من الغموض وعدم الوضوح، كما أن الفجوة الثقافية واللغوية القائمة بين القرَّاء المعاصرين والشاعر تزيد تفسيرها صعوبة. وإضافةً إلى ذلك، فمن الصعب أن نفهم كيف يمكن اعتبار قصيدة تُكثر من استخدام صور بلاغية (كالاستعارة) «حَرْفية بامتياز»، وإن كانت وجهة نظر كوبر قد تساعدنا على فهم سبب ظنه الخاطئ أن الأوصاف الشعرية هي «مصطلحات مستخدَمة في علم الحيوان».

ورغم أن كوبر وأتباعه قد يتملقون قوة قصيدة بيوولف من الناحية الشعرية من حينٍ لآخر، فمن الواضح أن قيمتها الوحيدة بالنسبة إليهم تكمن في استخدامها أداةً للتلقين، ولا يمكن أن يُعهَد للأطفال بمسئولية تفسيرها بأنفسهم.

13 Dic, 2015 05:34:25 PM
0