Перейти к основному содержанию
خليل النعيمي يروي رحلته الإنسانية في «الطريق إلى قونية»

«الطريق إلى قونية» هو طريق خليل النعيمي الروحي، المتعدد البعد. يذهب هذا الكتاب بعيداً في الجغرافيا وفي مجاهل الروح وطوايا الماضي كما هو إيغال في السرد. يوغل الكتاب في السرد عبر تقنية تعدد الصوت ليقدّم رحلة لا نهائية بين عوالم الواقع وعوالم الخيال. ونحن ندري اليوم، بعد نظرية الإدراك، أنه لا توجد كتابة محض موضوعية، لأن الموضوعي يمرّ من مصفاة الذات. فالعالم ليس كما هو وإنما العالم هو رؤيتنا إليه. هكذا يأخذنا خليل عبر متاهة النص الحديث إلى عالمه إلى جغرافياته ويضيّع القارئ ليجد نفسه. «الطريق إلى قونية» ليس تقريراً صحافياً وليس سرداً موضوعياً لوقائع رحلة أخذته إلى الأناضول، كما يتبادر إلى قارئ الرحلة عمل فني حديث هو يعكس صور العالم في أعماقه.


يعتمد الكاتب أسلوباً مغايراً لما عرفنا في كتب الرحلة القديمة، بحيث يبقى الكتّاب مشدودين إلى الوصف والتقرير ونقل الواقع بصورته الحقيقية. إنّه يقدّم رؤية تحوِّر الواقع لتنقله كما يراه الكاتب نفسه، وليس بالضرورة كما هو في الأصل، ما يذكرنا بعبارة «الكذب الصادق» للويس أراغون.

«الطريق إلى قونية» ليس رحلة مكانية فحسب، بل إنّه سفر في الزمن، أو ربما في الذاكرة الفردية والجماعية. علماً أن السفر يمثّل في ذاته حكاية تفتتح هذا النص الجميل بفصل قصير يحدد فيه مفهومه لأدب الرحلة الذي يقول فيه: «السفر حكاية... الحكاية هي التي تسافر».

العالم في عين خليل النعيمي هو إذاً حكاية طويلة، متشعبة، لا نهائية. أوَلم يطلق العرب قصص شهرزاد ألف ليلة وليلة؟ والعنوان ذو دلالة عميقة لدى العربي في تعبيره المجازي، لكون كلمة «ألف» تتجاوز معنى العدد أو الرقم المعروف في حسابات الرياضيين لتدلّ على لا نهاية الليالي وبالتالي الحكايات... وعندما تنتهي الألف ثمة ليلة تعلن بداية الألف الثانية وهكذا إلى الأبد.

تبدأ حكاية السفر من الفصل الأول، وهو مونولوغ داخلي طويل يسترجع فيه خليل النعيمي صوراً من طفولته على نهر الخابور، مسترجعاً البادية السورية بصفائها الجغرافي. وذلك من خلال حوار داخلي مع أبيه يكتب فيه عن قونية قائلاً: «في هذه المدينة الغريبة الشأن والمزاج سأستحضر تاريخي الشخصي... أنا القادم من الصحراء العربية». ويسترجع أقوال أبيه الذي كان يردد دعاء يقول فيه: «بجاه الغروب والنبي أيوب توديني قونية وأتوب».

ويخاطب أباه: «أنا لست ذاهباً من أجل جلال الدين ولكن مدفوعاً بصوتك القديم الأسمر صوت حادي العيس الذي يحكي برهبة عن قونية».

ويستمر على امتداد هذا الفصل الثاني الممهد للرحلة في الارتداد إلى الماضي الذي دفعه إلى ارتياد بلاد الأناضول. الماضي المستمر في أعماقه الماضي الذي هو ذكرى وهوية فتبدو هذه الرحلة كما لو أنها رحلة طقسية يحقق من خلالها نذراً لأبيه ويخاطبه: «إلى قونية يا أبي ولكن تراني أخاطب من في هذا الفجر المشتمل بالبرد... تذكر (يا أبي) كنت تمشي وتحكي مستريحاً لكأن الفضاء الخالي لا يمتلئ إلا بالكلمات. تذكر كنت تمشي وتحكي وتحكي عنها عن المزارة التي كنت تحلم بها هذه التي أنا الآن في طريقي إليها لكم أحب أن أحقق أحلامك...». ويناجي أباه: «كنت تعرف قونية بقلبك أكثر مما سأعرفها بعيني».

ويستمرّ الكتاب على امتداد الفصول الموالية في هذا الحوار الداخلي مع أبيه وفي التنقل المكوكي بين الحاضر والماضي وبين الهنا والهناك: بين بلاد الأناضول والبادية السورية اللتين تتداخلان هنا في كتابة تمزج أدب الرحلة بالسيرة الذاتية والتأمل الروحي. وعبر رصد ممارسات الطريقة المولوية والإخبار عن عقيدتهم ونظامهم التراتبي وطقوسهم، تمضي الفصول مفعمة بالومضات الشعرية التي تتخلل السرد المتعدد الصوت. يبرز صوت السارد وهو يصف أنقرة التي يشبهها بالقاهرة ولكن من دون النيل وسهوب الأناضول: «الأناضول كان سقف ذلك العالم الذي انبثقت منه الديانات التوحيدية الثلاث».

وهو يرى في وجوه سكان الأناضول السمات السورية أو قل هي الأقوام التي انحدرت من سفينة نوح بعد الطوفان ومن الأناضول يرتد هذه المرة ليستذكر أمه: «تتذكر الآن أمك وهي تروز بعينيها نهود البنات».

وفي قونية، وبعد حديث عن المغول وعمارتهم وحبهم للسهول، وبعد أن يمضي خطوات، ها هو يسترجع مرة أخرى ماضيه يسترجع شاعرية طفولته: «بعد توتر واضطرابات أقرر السير حتى الفندق القريب من التكية أمشي وكأنني أسير على الماء رغبة عذبة تحملني إلى طفولتي».

وفي الفصل وعنوانه «طوق الحب يعيد»، يقول: «أفكّر، أفرح كثيراً عندما أتذكر أهلي وأنساهم تماماً».

«الطريق إلى قونية» نص سردي حداثي متعدد مفتوح على الأجناس الأدبية فيه شيء من السيرة الذاتية بحيث نلفى شذرات متفرقة من طفولته وشبابه وشيئاً من أدب الرحلة، حين يتوحد بتلك السهوب الملحمية سهوب الأناضول، وشيئاً من الشعر وبعضاً من التأمل الروحي والفكري، إذ لا تقوم كتابته على الدفق العاطفي الخاوي وإنما يستند نصه إلى رصيد معرفي بالتاريخ وبالفلسفة وبالعلم.

«الطريق إلى قونية» يرمز إلى الطريق إلى دمشق، وهو طريق تحول بولس الطرسوسي إلى المسيحية. هكذا تبدت قونية جلال الدين الرومي في آخر الكتاب محجة طقس تحول وعبور يقول الكاتب: «لقد دخلتها وحشياً وغادرتها صوفياً»...

أخيراً، يذكرني خليل النعيمي الجراح في المستشفيات الباريسية، بصديقي الشاعر لوران غسبار، الطبيب الجراح الذي على ملامسة يومية للجسد الإنساني ومعايشة لوجيب الحياة المتدفقة فيه ومن خلاله. وقد ذكر لوران غسبار في كتابه «ملاحظات سريرية» أن هذه المعايشة اليومية للحياة والموت تمنح الكاتب الطبيب حساسية خاصة تميزه من غيره من الكتاب، حساسية إزاء الحياة والنص اللذين هما وجهان لحقيقة غريبة غامضة... فالحياة و الإبداع يشتركان في هذا السر.

19 авг, 2018 10:28:54 AM
0