Перейти к основному содержанию

مفاتيح العالم: شق قناة بنما

في الذكرى المئوية للانتهاء من شق قناة بنما، يصف ماثيو باركر التحديات المضنية التي واجهت من تنافسوا للنجاح في مشروع ربط المحيط الهادئ بالمحيط الأطلنطي، من القرن السادس عشر وحتى وقتنا الحاضر.

 كان من المفترض أن يحمل هذا الشهر صبغة تاريخية مهيبة؛ فهذا الشهر — الذي بحلوله يكون قد مَرَّ مائة عام بالضبط على الانتهاء من حفر قناة بنما بنجاح في أغسطس من عام ١٩١٤ — كان من المفترض أن يشهد افتتاح التوسعة الجديدة للقناة التي تبلغ تكلفتها ٥٫٥ مليارات دولار أمريكي. وتُعَدُّ هذه التوسعة أَحَدَ أكبر المشروعات الهندسية الجاري تنفيذها على مستوى العالم، بَيْدَ أنَّ هذه لم تكن المرة الأولى التي خذلت فيها قناة بنما رجالًا عديدين ودمرت سمعتهم؛ فوسط الإضرابات وتجاوز التكاليف الباهظة وشائعات التعثر المالي لاتحاد شركات الإنشاءات الرئيسية المنفذة للمشروع، تأجَّل تاريخ الانتهاء من العمل أولًا إلى أكتوبر ٢٠١٤، ثم تأجَّل مرة أخرى إلى مارس ٢٠١٥، والآن تأجَّل إلى «أوائل عام ٢٠١٦». وكما ذكرت التقارير فإن كل يوم تأخير يكلِّف شركة القناة مليون دولار أمريكي تقريبًا من العائدات المفقودة. بدأ إنشاء الأهوسة الجديدة العملاقة في عام ٢٠٠٩، وكان ثمة قدر هائل من التفاؤل تمثَّل في أن السفن التي تحمل حاويات يصل عددها إلى ١٢ ألف حاوية — أي ما يفوق ضعف الحد الأقصى المسموح به حاليًّا في قناة بنما — ستتمكن من عبور البرزخ؛ مما سيعود بالنفع الكبير على التجارة العالمية ويحقق عائدات ضخمة لحكومة بنما. ورغم ذلك، فقد اشتمَّ النُّقاد رائحة الفساد وشكَّكُوا في المقدرة المالية لاتحاد الشركات الذي ترأسه شركة إسبانية. وكان هذا الاتحاد قد فاز بمقاولة إنشاء الهويس الرئيسي عندما قدَّم عرضًا أقل من عرض أقرب منافس له بمليار دولار أمريكي. وتهكَّمت مؤسسة بكتل — المؤسسة الهندسية الأمريكية العملاقة التي كانت تتوقَّع حصولها على المشروع — قائلة إن سعر العطاء لن يغطِّي حتى تكاليف الخرسانة المطلوبة.

عمال الحفر الأشداء في عهد روزفلت متجهون إلى العمل في شقِّ قناة بنما. وقد أدَّت سياسة الرئيس القاسية في بنما إلى انقسام الرأي العام في الولايات المتحدة.

عمال الحفر الأشداء في عهد روزفلت متجهون إلى العمل في شقِّ قناة بنما. وقد أدَّت سياسة الرئيس القاسية في بنما إلى انقسام الرأي العام في الولايات المتحدة.

لطالما تسبب مشروع القناة بمقدار جنوني من التفاؤل والفساد والكوارث، وتمثَّل جزء من ذلك الخطر الذي أصبح بعد حين معروفًا باسم «إغواء بنما» في أنه — ومنذ الأيام الأولى — ظهر دائمًا واضحًا وسهلًا. فبعد أن أسَّسَ الفاتح الإسباني فاسكو نونييس دي بالبوا أولَ مستعمرة على الساحل الأطلنطي للبرزخ في عام ١٥١٣، قاد فريقًا من الرجال إلى الداخل عبر الجبال بحثًا عن المحيط الكبير الذي سمعوا أقاويل عن وجوده. ولم ينجُ من الحرارة والحشرات والثعابين وهنود الكونا العدوانيين الموجودين في الأدغال سوى ثلث الفريق فحسب. لكن في ٢٥ سبتمبر تسلَّق بالبوا أحد التلال «ووقف صامتًا على إحدى القمم في دارين»، ثم التفت ناظرًا إلى إحدى الجهات، ثم ولَّى وجهه نحو الجهة الأخرى فتمكن من رؤية كلا المحيطين بوضوح تام، فجثا على ركبتيه تضرعًا ثم نادى رجاله «وأراهم البحر الكبير الذي كان قبل تلك اللحظة مجهولًا لسكان أوروبا وأفريقيا وآسيا».

وعندما «اكتشف» بالبوا المحيط الهادئ أدرك أمرًا آخر؛ تمثَّل في أن شريطًا أرضيًّا ضيقًا على نحو مستفز هو فقط ما يحول دون الوصول إلى خيرات الشرق، التي كانت بالطبع الدافع الأساسي وراء الرحلات الاستكشافية. وكان ضمن فريق بالبوا مهندس يُدْعَى ألفارو دي سافيدرا، الذي قال في تقرير أرسله إلى الملك الإسباني كارلوس الخامس: إنه على الرغم من ضرورة استمرار البحث عن مضيق بين المحيطين، فإنه في حالة عدم العثور على ذلك المضيق «فلن يكون مستحيلًا حفر مضيق يربط بينهما.» وبحلول عام ١٥٣٠ أصبح واضحًا أن هذا المجرى المائي غير موجود في المنطقة الاستوائية. وفي عام ١٥٣٤، أمر الملك كارلوس بإجراء مسح للمنطقة بهدف التخطيط لحفر مجرًى مائي. وفي أول مظاهر الزهو والأمل المفرط الذي أثاره حلم تلك القناة على مدار التاريخ، كتب أحد القساوسة إلى الملك كارلوس مخاطبًا إياه من بنما فقال:

إن كانت هناك جبال، فهناك أيضًا أيادٍ عاملة … وبالنسبة لملك إسبانيا الذي تقع تحت إمرته ثروات جزر الهند، وعندما يكون الهدف المنشود هو تجارة التوابل؛ فسيكون الممكن سهلًا.

ولحسن حظِّ الأشخاص الذين كان سيصدر لهم الأمر بحفر القناة؛ فقد قرَّرت السلطات الإسبانية سريعًا أنه سيكون من وافر الأمان وجود حائل أرضي بين ثروات بيرو وبين القوى الأوروبية المنافسة؛ ولذلك لم تُنفَّذ أي أعمال. ورغم ذلك، قدَّم أحد المغامرين الاسكتلنديين في نهاية القرن السابع عشر خطةً جريئةً.

جون بول ممثلًا للإنجليز ينظر باستحسان إلى فرنسا التي تتحدى مبدأ مونرو وتُظهِر الضَّعْف العسكري لأمريكا بالتخطيط لإقامة قناة في بنما (من صحيفة هاربر ويكلي، ١٨٨٠).

جون بول ممثلًا للإنجليز ينظر باستحسان إلى فرنسا التي تتحدى مبدأ مونرو وتُظهِر الضَّعْف العسكري لأمريكا بالتخطيط لإقامة قناة في بنما (من صحيفة هاربر ويكلي، ١٨٨٠).

وُلد ويليام باترسون في عام ١٦٥٨، وفي شبابه سافر إلى جزر الهند الغربية بوصفه تبشيريًّا، وبوصفه أيضًا أحد المغامرين، وعندما عاد إلى إنجلترا كوَّن ثروة في الأعمال التجارية وعمل «في وضع خطط المشروعات»؛ أي مروِّجًا لخطط جَنْيِ الأموال القائمة على المضاربة. ومنذ إقامته في منطقة البحر الكاريبي، ظل باترسون أسير «فكرة عظيمة»؛ مشروع سيتفوق على كل المشروعات الأخرى. فإذا أمكن إنشاء موانئ على كلا ساحليْ برزخ بنما، فسيُمكن نقل الشحنات عبر الشريط الأرضي الضيق؛ مما يوفِّر على السفن الرحلة البحرية الطويلة والخطيرة عبر كيب هورن. كان قد حدَّد المكان المناسب لهذا المشروع، والذي تمثَّل في بقعة «لا توجد فيها سلاسل جبلية على الإطلاق»، وبها أيضًا «وديان واسعة خفيضة» تمتدُّ من الساحل إلى الساحل. لقد كان المكان مثاليًّا على نحو يكفي لتصوُّر إمكانية إنشاء طريق، بل وشقِّ مَمَرٍّ مائي في الوقت المناسب. خطط باترسون لإقامة مركز عالمي حقيقي للتجارة العابرة لمنافسة أي مركز غيره في العالم، وزعم هذا المواطن الاسكتلندي أن مَنْ سيسيطر على هذا المركز فسوف يمتلك «بوابات المحيط الهادئ ومفاتيح العالم».

وعندما شعر البرلمان الاسكتلندي بالغيرة من الثروات التي تتدفَّق على إنجلترا من التجارة، أصدر قانونًا لتشجيع المستوطنات الجديدة والتجارة، واندفع باترسون إلى إدنبرة لبيع خطته، وكتب في عرضه للبرلمان: «كل ما عليكم هو فتح تلك الأبواب؛ والتجارة ستزيد التجارة، والمال سيجلب المال.» تعالت التحذيرات من أن إسبانيا تستأثر بالمنطقة من منطلق الغيرة، وأن باترسون «يتحدث كثيرًا ويزيد من آمال الناس»، لكن الحكومة قبلت المشروع. وفي يونيو عام ١٦٩٥، أصدر البرلمان الاسكتلندي قانونًا يَقْضِي بتأسيس «الشركة الاسكتلندية للتجارة في أفريقيا وجزر الهند»، إلا أن البرلمان الإنجليزي اعترض على المشروع فيما بعد، وسُحبت الموافقة الملكية على القانون، وسُحبت أيضًا مبالغ الاكتتاب الضخمة المدفوعة من قبل الإنجليز، والتي كانت تقدر بنحو ٣٠٠ ألف جنيه استرليني. ورغم ذلك، شَهِدت موجة من الغضب الوطني في اسكتلندا تدفقًا للأموال من كل مستويات المجتمع، وسرعان ما جُمع مبلغ يقدَّر بنحو ٤٠٠ ألف جنيه استرليني؛ أي حوالي نصف رأس المال المتاح في البلد. وكانت مخاطرة كبيرة بمعظم مخزون الفضة في اسكتلندا.

وفي يوليو من عام ١٦٩٨، أبحرت خمس سفن كبيرة تقلُّ ١٢٠٠ شخص من إدنبرة إلى بنما، وعلى الرغم من أن أكثر من أربعين من المستوطنين الجدد ماتوا في الرحلة التي استغرقت ثلاثة شهور ونصفًا، فقد سارت الأمور على ما يرام في بدايتها؛ حيث كوَّنوا علاقات ودية مع القبائل المحلية، وتم مسح الأراضي ووُجد أن التربة في غاية الخصوبة، ولكن ما إن وطئت أقدام الاسكتلنديين أرض العالم الجديد حتى نشبت احتجاجات شديدة في لندن من جانب السفير الإسباني ومن التجار الإنجليز أيضًا. على إثر هذه الاحتجاجات أصدر ويليام الثالث — ملك إنجلترا — أوامر لحكَّام فيرجينيا ونيويورك ونيو إنجلاند، وجامايكا وباربادوس تمنعهم من التجارة مع مستوطني دارين أو تقديم المؤن لهم. وكانت هذه ضربة قاضية لمستوطنة أُسست لتكون محطة تجارية.

بدأ كل شيء في الانهيار؛ فارتفع معدل الوفيات بسبب الحمى ارتفاعًا سريعًا، واتضح أن الوديان «الممتدة من الساحل إلى الساحل الآخر» كانت محض خيال، ولم تُتَّخذْ أية خطوة واقعية لإنشاء الطريق البري المؤدي إلى المحيط الهادئ كما كان مخططًا، وضعفت العلاقات مع الهنود عندما اتضح أن هؤلاء القادمين الجدد لا يستعدون لتوجيه أي ضربة ضد العدو الإسباني المشترك.

أدت قلة الطعام إلى زيادة الضعف وانتشار الأمراض وانخفاض الروح المعنوية، وكان من أوائل الذين ماتوا زوجة باترسون. وخلال ستة أشهر كان حوالي ٤٠٠ من المستوطنين قد لقوا حتفهم إما على إثر الحمى أو الجوع. وكان بدء موسم المطر في شهر مايو وما لازمه من ازدياد سوء الأحوال المعيشية هو القشة التي قصمت ظهر البعير.

وفي ٢٠ يونيو ١٦٩٩؛ أي بعد سبعة أشهر فقط، غادر الاسكتلنديون البرزخ وهم في غاية الإحباط، ولم يتمكَّن من الصمود حتى نهاية رحلة العودة إلى الوطن إلا النصف فقط من هؤلاء المستوطنين الذين كانوا قد أصابهم الإعياء. وأبحر من اسكتلندا أسطولان آخران وأعيد إنشاء المستعمرة لفترة وجيزة على مساحة تعادل ضعف مساحة المستعمرة السابقة، إلا أنه في مارس من عام ١٧٠٠ طردت القوات الإسبانية آخر المستوطنين الاسكتلنديين الذين أعياهم الجوع والمرض. وفي المجمل كانت تكلفة «الفكرة العظيمة» التي طرحها باترسون هي ما يزيد على ٢٠٠٠ روح، بالإضافة إلى المدَّخَرَات الثمينة لأمة بأكملها. وعجَّلت «كارثة دارين» من صدور قانون الاتحاد الذي حلَّ البرلمان الاسكتلندي. وعندما رأت اسكتلندا عدم جدوى محاولة التنافس مع إنجلترا، وأنها تجرَّدت من رأس مالها بسبب تلك الكارثة، دخلت اسكتلندا تحت راية بريطانيا العظمى في عام ١٧٠٧. وكانت هذه أولى الخسائر الناجمة عن «إغواء بنما»، رغم أنه تبين أنها خسارة ليست بهذا السوء.

ورغم ذلك، لم يكن للكارثة تأثير يؤدِّي إلى تقليل الاهتمام بحلم حفر قناة عبر البرزخ. وكان من بين الشخصيات الذين أسرتهم هذه الفكرة بنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون؛ فقد كان تصور الأول للقناة كوسيلة لضمان السلام العالمي من خلال تعزيز التجارة والتواصل، بينما رأى الآخر أن القناة خطوة ضرورية نحو التوسع الجنوبي للقوة الأمريكية. وخلال القرن الثامن عشر أرسلت فرنسا عددًا من المستكشفين إلى البرزخ. ورغم ذلك، فقد كان التخلُّص من عقبة الحكم الإسباني في عشرينيات القرن التاسع عشر، بالإضافة إلى بداية «عصر القنوات» في أوروبا والولايات المتحدة، فضلًا عن بدء استخدام المحركات البخارية، هو ما منح الفكرة زخمًا جديدًا.

وبعد ذلك شهد البرزخ تدفق المسَّاحين والمستكشفين من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والدنمارك وهولندا. كانت تدعمهم شركات خاصة في بعض الأحيان أو ملوك أو أباطرة في أحيان أخرى. وكان ملك هولندا ولويس فيليب — ملك فرنسا — من المتحمسين في كثير من الأوقات المختلفة. ولقد اتضح مرارًا وتكرارًا أن هذه الفكرة لا تلبث أن تتسلَّط على الذهن ويقتنع بها حتى تتحوَّل إلى هوس. وكان مصير معظم هؤلاء المستكشفين إما أنهم فُقدوا، أو هلكوا من الجوع أو المرض، أو قضى عليهم هنود كونا العدوانيون. ورغم ذلك، فقد ظلوا يرسلون تقارير متفائلة تفيد بوجود «منخفضات مميزة» وقنوات هندية «مفقودة».

اقترح المهندس المدني توماس تيلفورد «خطة عظمى» لشق قناة عبر البرزخ، وجذبت الفكرة الرائعة المتمثِّلة في بناء تلك القناة ليس فقط المهندسين المتمرسين، بل أيضًا أصحاب الملايين والحالمين والمهندسين الهواة والمجانين. من خلال هذه القناة التي شكلت أكبر تحدٍّ هندسي غير محقق يواجه العالم، ظل البرزخ هو مركز تنافس القوى العظمى الدولية. وفي أربعينيات القرن التاسع عشر، كادت أن تنشب حرب بين بريطانيا والولايات المتحدة، وما حال دون وقوع هذه الحرب سوى اتفاق القوتين في معاهدة أبرمت في عام ١٨٥٠، ونصَّت على عدم إقدام أي منهما على بناء القناة منفردةً. وبالنسبة للأمريكيين بوجه خاص، فقد كان عدم وجود قناة من الأساس أفضل من وجود قناة تحت سيطرة قوة أجنبية.

وفي نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، أطلقت واشنطن سياسة عنيفة لدحض التدخل الأوروبي المتوجه تدريجيًّا نحو أمريكا الوسطى. وبالنسبة لوزير الخارجية ويليام سيوارد، فقد كان وجود قناة تمر عبر البرزخ حجر الأساس لمعتقد القدَر المتجلِّي الذي تؤمن به بلاده؛ والذي يقضي بنشر التجارة «والحضارة» الأمريكية. وفي عهد الرئيس الأمريكي يوليسيس جرانت أُجْرِيَتْ سلسلة عمليات دقيقة لمسح الأراضي لتحديد المسار الأفضل. وكان أفضل خيار توصلوا إليه هو شق قناة في نيكاراجوا بالاستعانة ببحيرة نيكاراجوا الكبيرة العليا، ولكن الولايات المتحدة ظلت مكتوفة الأيدي بسبب معاهدتها المبرمة مع بريطانيا، فضلًا عن قلقها بشأن عدم امتلاكها أسطولًا بحريًّا قويًّا قادرًا على حماية المجرى المائي عند اكتماله.

وتسلَّل إلى هذا المأزق شركة فرنسية أطلقت في ثمانينيات القرن التاسع عشر مشروعًا سينجم عنه واحدة من كبرى الكوارث الهندسية في التاريخ. قاد هذا المشروع فرديناند ديليسبس، مهندس بناء قناة السويس الشهير. واتَّسم هذا المشروع بالفساد والخيال والبطولة. كان المشروع مشئومًا منذ البداية؛ ففي مؤتمر دولي — عقد في باريس — أُعلن عن إنشاء قناة في مستوى البحر في بنما، وذلك بفضل التأثير الساحر لديليسبس الذي قرر — قبل أن يرى أمريكا الوسطى — أن مجرد إنشاء مضيق على غرار «البوسفور على المحيط» سيكون كافيًا. واستهجن الوفد الأمريكي الذي حضر المؤتمر هذا العرض بأكمله واصفين إياه بأنه «مسرحية هزلية من نوع مؤسف للغاية.» ورأى ضرورة إنشاء قناة ذات هويس عند نيكاراجوا.

غير أن ديليسبس كان متفقًا مع أهل عصره في ثقته الهائلة في الآثار المحمودة للتكنولوجيا الجديدة. وقيل للشعب الفرنسي إن من واجبهم الوطني دعم مشروع القناة، وكما هو متوقَّع فقد دعموا المشروع بمئات الآلاف من الفرنكات. كما حاول ديليسبس أيضًا جمع أموالٍ من بريطانيا والولايات المتحدة. أما الأمريكيون فقد استشاطوا غضبًا من تدخل الفرنسيين في موقع يعتبرونه باحتهم الخلفية، ومن ثم لم تتدفق أي أموال من جانبهم. وفي بريطانيا شهد ديليسبس احتفاءً بإنجازه في حفر قناة السويس، لكنهم تجاهلوا خططه بشأن شقِّ قناة بنما، وكتبت صحيفة «التايمز» تقول: «إنها فكرة رائعة، لكنها ليست مشروعًا مربحًا.»

وفي عام ١٨٨٠ ووسط احتفال كبير، دشَّن ديليسبس بنفسه مشروع إنشاء القناة، وتلقَّى التحية في بنما من حملة اللافتات الذين أطلقوا عليه «العبقري القائد للقرن التاسع عشر». ورغم ذلك، بحلول عام ١٨٨٤ اتضح أن تقديرات التكلفة كانت متفائلة للغاية، وأن البرزخ يعجُّ بالكثير من الأمراض الوبائية الدائمة. وكانت أسوأ الأمراض القاتلة هناك هي الملاريا والحمَّى الصفراء. وساد اعتقاد أن الإصابة بالملاريا سببها «هواء فاسد»؛ أي انبعاثات سامة من التلوث الشديد للتربة الاستوائية التي أُثِيرَتْ بفعل الحفر، وشاع افتراض بأن الحمى الصفراء كانت نتيجة للحيوانات القذرة أو النافقة، بل إن الخبراء أيضًا زعموا أن سببها رياح معينة تهبُّ من البحر، أو أن السبب هو تناول التفَّاح. وكان العلاج المقدم يتكون من الخردل وخمر البراندي والسيجار. كان ذلك قبل عقد تقريبًا من اكتشاف أن كلا المرضين ينتقلان عبر البعوض.

في أوائل عام ١٨٨٣، وصل المهندس الكبير الموثوق في جدارته جول دنجلر إلى بنما بصفته كبير المهندسين، وتمثلت نظريته التي شاركه فيها الكثيرون في أن الحمى الصفراء سببها هو السلوك الشخصي غير الأخلاقي أو ضعف الوازع الأخلاقي، وأعلن أن «السكارى والفاسقين هم فقط من يموتون بالحمى الصفراء.» وليثبت أن المرض لا يشكل أي خوف بالنسبة له، ومن أجل تعزيز الروح المعنوية للعمال، أحضر إلى بنما زوجته وابنه وابنته وخطيب ابنته. وخلال أشهر قليلة، أصيبت ابنته البالغة من العمر ١٩ سنة بالحمى الصفراء وماتت ميتة بائسة مفجعة. وبعد ثمانية عشر شهرًا مات خطيبها وأخوها ثم والدتها بسبب المرض، وعاد دنجلر إلى فرنسا رجلًا مكسورًا.

بلغ عدد المتوفين أثناء الفترة الفرنسية من حفر القناة حوالي ٢٠ ألف شخص، غالبيتهم من أهل جاميكا الذين قدَّموا الجزء الأكبر من الجهد البدني في المشروع. وخلال ثلاثة أشهر مات ثلاثة من المهندسين الأربعة الذين أتوا ليكونوا جزءًا من مشروع ديليسبس. أطلَّ شبح الموت في كل مكان كأنه سيف مصلت على رقابهم؛ مما أشعل شعورًا من اللاواقعية المثالية. وقد كتب أحد المهندسين الشباب يقول: «إن استمرار مخاطر الإصابة بالحمى الصفراء زاد من عزم الرجال الذين كانوا مفعمين بحبٍّ صادقٍ للمهمة العظيمة التي يقومون بها؛ تلك المهمة التي كان تأثيرها يشعُّ على العاملين بها. وقد غمر هؤلاء العمال سعادة الإحساس بالبطولة لتضحيتهم بأنفسهم في سبيل عظمة فرنسا.» ومن المثير للدهشة أن بعض الفرنسيين كانوا مستعدين للموت من أجل القناة.

أما الأمريكيون المراقبون للوضع في البرزخ فقد اتخذوا منحى الاستهزاء؛ فقد كانت تلك المظاهر بالنسبة لهم مجرد «هراء فرنسي». وقد كتب أحد الصحفيين الأمريكيين في أواخر عام ١٨٨٧ فقال: «لا شيء تُنجزه شركة القناة إلا وتقيم له الكثير من المراسم والاحتفالات، وتسنُّ له الكثير من الإجراءات الروتينية. فما نسمعه في بنما نتجاهل ثلثه، ونشكُّ في ثلثه، ولا نصدق ثلثه الأخير … فالهواء في بنما يعجُّ بالخداع مثلما يعج بالسموم.» ومن أجل جمع المال من فرنسا اضطرت الشركة إلى إخفاء معدل الوفيات، ووضع المزيد من الأهداف غير الواقعية لمعدلات الحفر. واتضح فيما بعد تزامن ذلك مع منحها الصحافة الفرنسية ما يزيد على ١٢ مليون فرنك فرنسي لتبقيها إلى صفها. ورغم ذلك، فقد أصبح المال المقترض أغلى ثمنًا.

وعندما أصبحت مغامرة ديليسبس قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى كارثة، بسبب الأمراض والمشاكل الهندسية (التي كان أكثرها راجعًا لأمطار بنما الغزيرة على نحو غير عادي)، فضلًا عن الحرائق والحرب والزلازل التي تكالبت على المشروع، أصبح الفنيون الأمريكيون المتواجدون في البرزخ على قناعة بأن بلدهم سوف تبسط سيطرتها على المشروع، واعتنق البريطانيون في بنما القناعة نفسها؛ حيث ظنوا أن بريطانيا العظمى ستستحوذ على قناة بنما مثلما استحوذت على مشروع ديليسبس المتمثل في قناة السويس.

وعندما تأزَّمت الأمور في أوائل القرن العشرين، وجد الدبلوماسيون الأمريكيون أن نظراءهم الإنجليز أصبحوا مستعدين أخيرًا لإزالة قيود معاهدة ١٨٥٠. فنظرًا لتورط بريطانيا العظمى في حرب مكلفة وغير مدعومة جماهيريًّا في جنوب أفريقيا، ودخولها في سباق تسلح بحري مع ألمانيا، فضلًا عن تخوُّفها من تطلعات روسيا في الهند؛ اضطرت إلى إزالة قيود المعاهدة، وبذلك تنازلت للولايات المتحدة عن الهيمنة على النصف الغربي من العالم.

الاتصال النهائي بين المحيطين، أكتوبر ١٩١٣. تطلَّب الأمر أن يكمل هؤلاء الرجال البسطاء الحفر باستخدام المعاول والجواريف.

الاتصال النهائي بين المحيطين، أكتوبر ١٩١٣. تطلَّب الأمر أن يكمل هؤلاء الرجال البسطاء الحفر باستخدام المعاول والجواريف.

اتجهت القيادة الأمريكية في عهد ثيودور روزفلت — بلا رحمة — إلى جعل القناة حقيقة واقعة، فاشتروا الشركة الفرنسية بمبلغ ٤٠ مليون دولار أمريكي، وهو مبلغ كبير تتضاءل أمامه صفقات شراء لويزيانا وألاسكا والفلبين. وعندما بدت الحكومة الكولومبية غير راغبة في الإذعان للطلبات الأمريكية المتمثلة في التنازل عن السيطرة الكاملة على منطقة القناة، وضع روزفلت خططًا لغزو بنما، إلا أنه عدل من خططه وشجع على ثورة انفصالية في البرزخ ودعمها وحماها. وبعد ذلك ضغط على جمهورية بنما الجديدة لتُوقِّع على معاهدة جعلتها تابعة للولايات المتحدة، وبسطت سيطرة عسكرية كاملة على منطقة القناة الجديدة. وشهدت الولايات المتحدة ردود أفعال حادة؛ حيث اتهم المعترضون الرئيس الأمريكي بجر البلاد للمستوى الوضيع الذي تتسم به القوى الأوروبية المنتزعة لأراضي الدول الأخرى، لكن ما حدث أصبح أمرًا واقعًا ونقطة تحول في تاريخ القوة الرئاسية الأمريكية والطموح الاستعماري الأمريكي.

لم يتعلم الأمريكيون أي شيء من فشل الفرنسيين على مدار تاريخ القناة؛ ففي أول عامين أمَّلُوا في بناء قناة في مستوى البحر، رغم أن هذا الأمر قد اتضح في السابق أنه مستحيل. وبسبب نتائج ما فعله روزفلت كانت هناك ضغوط هائلة للبدء في العمل بأسرع ما يمكن، وبدأ الحفر دون إعداد لائق. وإصرارًا من روزفلت على تجنب الفساد الذي شاب الفترة الفرنسية، أصبح المشروع مكبلًا ببيروقراطية مفزعة.

أسوأ ما في الأمر أنه على الرغم من أن نظرية نقل البعوض لمرض الملاريا والحمى الصفراء أصبحت مقبولة في ذلك الوقت، فقد رفض الأعضاء المحافظون في إدارة القناة الأمريكية هذه النظرية واصفين إياها «بالهراء»، ورفضوا دعم عمل ويليام جورجاس — كبير أطباء البعثة والمتخصص ذو الخبرة في الحمى الصفراء. وبطبيعة الحال تفشَّى المرض، وهرب ثلاثة أرباع العمال الأمريكيين من منطقة البرزخ مع انتشار الذعر بينهم؛ إذ إنهم افتقدوا الدافعية التي كانت لدى الفرنسيين. وبعد سنة من بداية المشروع أصابه التعثُّر.

وبعد عامين من التخبط الفوضوي تَمَّ الاتفاق على خطة إنشاء قناة تضم هويسًا وبحيرة؛ أي إقامة «جسر مائي» بدلًا من حفر قطعي في مستوى البحر. وظهرت القيادة الجديدة في شخص جون ستيفنز، مهندس السكك الحديدية الناجح الذي عينه روزفلت ليكون كبير مهندسي القناة. ودعم عمل جورجاس دعمًا كاملًا. وفي عام ١٩٠٦، زار الرئيس الأمريكي الموقع بنفسه؛ مما أدَّى لرفع الروح المعنوية.

ولجذب العمالة الماهرة من الولايات المتحدة والاحتفاظ بها، قدَّمت سلطات القناة إجازات وفيرة، وأجورًا عالية، وإقامة مجانية. ورغم ذلك، كان معدَّل دوران العمالة بين العمالة البيضاء ١٠٠ في المائة سنويًّا، لدرجة أنه في عام ١٩٠٧، في أعقاب أزمة تلت استقالة ستيفنز بعد أن أنهكه التعب، وشيوع موجة انتقاد للمشروع في الولايات المتحدة وصفته بأن يعجُّ بحالات كثيرة من «الكسب غير المشروع» وإهدار الموارد؛ وجد روزفلت أنه من الضروري تسليم المشروع إلى الجيش، أو وضعه كما قال: «في عهدة رجال سيستمرون في أداء المهمة حتى أمَلَّ من وجودهم هناك، أو أقول لهم إن بإمكانهم تركها.»

كان النظام العسكري الجديد قاسيًا للغاية؛ فقد كان يُلقي القبض على المنتقدين ويطردهم خارج البلاد، ويبسط سيطرته الصارمة على جمهورية بنما. وبعد إحكام قبضته على القناة، ظل أكبر التحديات التي تواجه هذا النظام هو معبر كوليبرا الذي يعد أعلى نقطة في خط القناة؛ فقد تطلَّب إنشاء هذا الممر المائي البالغ طوله تسعة أميال أعمالَ حفر بلغت ثلاثة أرباع إجمالي الأعمال المخصصة لحفر القناة. وفي ذروة العمل به كان يضم ٧٦ ميلًا من السكك الحديدية التي تقل ١٦٠ قطارًا، و٣٠٠ مثقاب صخري، و٦ آلاف رجل. ومع ارتفاع درجات الحرارة إلى ١٢٠ درجة فهرنهايت أصبح معروفًا باسم «وادِي الجحيم». ومع إزالة الجبل أخذت الأرض تدافع عن نفسها. فنظرًا للتركيب الجيولوجي بالغ التعقيد للبرزخ؛ فقد شهد عددًا لا يحصى من الانزلاقات الأرضية التي أضافت في نهاية الأمر ٢٥ مليون ياردة مكعبة إلى إجمالي أعمال الحفر، والتي ستكوِّن في النهاية ثلاثة أضعاف أعمال الحفر التي تمت أثناء حفر قناة السويس. وأطلق أحد الأمريكيين على هذه المنطقة «أرض الروائع واللامتوقع؛ فعند غروب الشمس مع حلول المساء لا يستطيع أحد أن يتكهَّن بحال المعبر في الصباح التالي.» أو كما قال أحد سكان جزر الهند الغربية: «اليوم تُحفر الأرض، وغدًا تنزلق.»

كانت معظم الأيدي العاملة من جزيرة صغيرة تسمى باربادوس — يبلغ إجمالي عدد سكانها ٢٠٠ ألف نسمة — جاء منهم ٤٥ ألف نسمة للعمل في بنما أثناء فترة الحفر الأمريكية. وكان أهل جزر الهند الغربية يعامَلون كعمالة رخيصة سهلة الاستبدال من قِبَل كلٍّ من الفرنسيين والأمريكيين. ووصف أحدهم ظروف العمل بأنها «نوع من شبه الاستعباد.» وفي ظل تحكم الأمريكيين ساد نظام فصل عنصري صارم في كافة أنحاء منطقة القناة؛ إذ كانت المهام بالغة الخطورة تُخصَّص لعمال جزر الهند الغربية، وكان احتمال تعرضهم للموت بسبب الأمراض أو الحوادث أثناء العمل يفوق نظيره لدى الآخرين بثلاثة أضعاف. وإجمالًا مات حوالي ٦٠٠٠ عامل خلال فترة الحفر الأمريكية، إضافة إلى ٣٠٠ مواطن أمريكي، بَيْدَ أنه على الرغم من الاستياء الواضح لهؤلاء العمال، فإن حكايات أهل جزر الهند الغربية تحفل بالفخر لمعرفة أنهم كانوا جزءًا من إنجاز عظيم وبطولي وحضاري. وقد كتب أحد هؤلاء العمال بعد ٥٠ عامًا من إكمال القناة فقال: «واجهت الموت في كثير من المرات، لكني — ولله الحمد — ما زلت حيًّا لأشهد التحسن الكبير الذي حققته القناة، والشهرة الرائعة التي تحظى بها حول العالم.»

وهكذا فإن القناة تحمل إرثًا من سوء العلاقات مع العمال. وخلال إحدى الإضرابات الأولى التي سرعان ما نشبت عقب البدء في تنفيذ خطة التوسعة الجديدة، أعلن أحد قادة الاتحادات العمالية أن أعضاء الاتحاد: «لن يقبلوا بأن يلقوا المعاملة التي كان يلقاها أسلافهم عمال جامايكا.» علاوة على ذلك، فقد اتضح أن التكاليف المقدرة كانت متفائلة على نحو مخيب للآمال، وأن الإيراد السنوي المتوقع من القناة بعد اكتمالها — فكرة «المال سيجلب المال» — تغير في الوقت الراهن لينخفض من ٥ مليارات دولار أمريكي في السنة إلى ٣ مليارات دولار أمريكي فقط في السنة. ومن أصداء فترة بدايات تشييد القناة أنهم عَزَوْا زيادة التكاليف إلى الطبيعة الجيولوجية القاسية لبنما والغزارة المذهلة لأمطارها. وفي ظل التاريخ المعروف لهذه المنطقة، فمن الغريب أن يعتبروا أيًّا من تلك العقبات سالفة الذكر أمرًا مفاجئًا.

وربما يطل وجه آخر من وجوه تاريخ القناة الذي يعيد نفسه؛ فمع الأزمات المتكررة التي يقع فيها مشروع التوسعة الذي يتم بقيادة أوروبية، حسبما أوردت السفارة الأمريكية في بنما إلى واشنطن، فإن شركة بكتل الأمريكية — المشهورة بتخصصها في المشروعات التي تعاني من المشكلات — تراقب المشروع عن كثب؛ للاستحواذ عليه في الوقت المناسب.

03 дек, 2015 12:55:18 PM
0