Ana içeriğe atla

سيف نيوتن الليزري المشتعل

يشرح مايك ألدر لماذا لا تستهوي الفلسفةُ كُلًّا من الرياضيين والعلماء، لكنهم يمارسونها في كل الأحوال.

 بوصفي عالمَ رياضيات أحرص على ألَّا يراني أحد وأنا أمارس الفلسفة. فعندما أشتري نسخةً من مجلة فيلوسوفي ناو أطلب من بائع الصحف أن يلفها في حقيبة من الورق البني، على أمل أن يعتقدها الناس مجلةً إباحيةً.

ولستُ أنا الوحيد الذي يفكِّر هكذا، فمعظم علماء الرياضيات والعلماء الآخرين يعتبرون أن الفلسفة تقع في مكانٍ ما بين علم الاجتماع والنقد الأدبي، وكلاهما أقل قدرًا من أحط الأنشطة التي يمكن أن يمارسها الإنسان. فما السبب في ذلك؟ ألسنا على قدرٍ كافٍ من الذكاء يُمكِّننا من فهم الفلسفة؟! وهل تفكيرنا متحجِّر للغاية بحيث يصعب علينا رؤيتها مثيرة للاهتمام؟! وهل وصلنا إلى درجة من السطحية تمنعنا عن فهم القضايا الأساسية فيها؟! أم أننا استطعنا فهم كل شيء فيها وتخطيناها؟! سأحاول شرح سبب تجاهُل علماء الرياضيات والعلماء الآخرين لهذه المادة. كما سأوضح سبب أننا ما زلنا نمارسها في الواقع، وأن المسمَّى قد تغيَّرَ، وهو ما حدث بالطبع من أجل حماية الأبرياء.

عندما كنتُ طفلًا في التاسعة أو العاشرة من عمري، طرَحَ أحد المدرسين الساديين سؤالًا: «ماذا يحدث إذا تمَّتْ ممارسة قوة لا تُقهَر على جسمٍ لا يمكن تحريكه؟» كانت إجابتي الأولى أنه إذا كانت القوة لا تُقهَر فإن الجسم لا بد أن يتحرَّك، فردَّ المدرس الذي سمع هذه الإجابة من قبلُ: «حسنًا؛ لكن الجسم لا يمكن تحريكه.»

ظللتُ أفكِّر في الأمر لمدة ثلاثة أيام، وتخلَّلَت تفكيري فتراتُ نوم قصيرة، واستنتجتُ في النهاية أن اللغة أكبر من الكون؛ أي إنه يمكن ذِكْر شيئين في الجملة نفسها، لكنهما لا يمكن أن يتواجَدَا معًا في العالم الحقيقي. فيمكن تصوُّر أن يحتوي العالم الحقيقي على نوع من الأجسام لم يَقُمْ أحد بتحريكه حتى الآن، وربما يحتوي على قوة لم ينجح أحدٌ في أن يقهرها، لكن مسألة معرفة ما إذا كان الجسم بالفعل لا يمكن تحريكه لا يمكن التأكُّد منها إلا إذا تمَّ تعريضُه لجميع القوى الممكنة ولم تنجح أيٌّ منها في تحريكه. لذا يمكن حلُّ الموضوع من خلال تجربة تعريض الجسم الذي لم يمكن تحريكه حتى الآن إلى القوة التي لم يمكن قهرها حتى الآن، ورؤية ما سيحدث. فإما أن الجسم سيتحرك أو لن يتحرك، وهو ما سيوضِّح لنا أحدَ أمرين، إما أن الجسم الذي لا يمكن تحريكه لم يكن في حقيقته كذلك، أو أن القوة التي لا تُقهَر يمكن بالفعل قَهْرُها.

بإمكانك أن تستنتج من هذا أن العلوم — وليس الفلسفة — كانت مقدَّرَة لي منذ وقت مبكِّر من حياتي.

إن مفهوم العلماء عن الفلسفة هو أنها في معظمها أحد أشكال الفكرة التي طرحتها آنفًا، وأن التحليل الفلسفي ما هو إلا لعبة كلامية عقيمة تتم ممارستها في حالةٍ من التشوُّش الذهني. عندما تسأل أحدَ العلماء عمَّا إذا كنَّا نتمتع بإرادة حرة أم أننا فقط نعتقد ذلك؛ فإنه سيسألك بدوره: «ما القياسات أو الملاحظات التي يمكنها — من وجهة نظرك — أن تحلَّ المسألة؟» وإذا رددتَ عليه قائلًا: «التفكير فيها بعمق.» فإنه سيبتسم لك بشفقة وسيتركك ويذهب؛ إذ سيعزف عن الانضمام إليك فيما يرى أنه مجرد لعبة ساذجة.

بعد مرور عدة سنوات على مواجهتي الأولى مع الفلسفة، كنتُ أعمل في حجرتي في جامعة غرب أستراليا وأقوم بكتابة برامج كمبيوتر. جاءت نقرة خفيفة على الباب لتقطع تركيزي، لكني فتحتُ لأجد شابًّا صغيرًا يقف في حياء بالخارج، دعوته إلى الدخول وسألته عمَّا يمكنني أن أقدِّمه لمساعدته، اتضح بعدها أنه من قسم الفلسفة. سألني إنْ كان صحيحًا أنني أعمل على الذكاء الاصطناعي، كما نَمَا إلى علمه، فقلتُ له إنني في الواقع أعمل على الشبكات العصبية الاصطناعية التي يُزعَم أنها تحاكي وظائف المخ، وعلى وجه الخصوص يمكن تعليمها تمييزَ الأنماط؛ لذا كنتُ أدرسها لأرى إذا ما كانت تؤدِّي إلى أيِّ فهمٍ لكيفية تعلُّم المخ. فقال لي بأدبٍ: «حسنًا؛ لقد جئتُ لأخبرك أنك تُضيِّع وقتك.» فسألته عن سبب رأيه هذا، وشرح لي قائلًا: «يوجد فرق جوهري بين البشر والآلات، وهو فرق لا يمكنك أبدًا تجنُّبه. فالبشر بإمكانهم ارتكاب أخطاء، أما الآلات فلا.»

قال هذه الكلمات بأسلوب المنتصر.

قلتُ له وأنا أتحلَّى بالصبر: «إن برامجي ترتكب أخطاءً؛ لقد دربتُ شبكةً عصبية على التعرُّف على رقم ٣ وهو مكتوب ضمن نسق، وكثيرًا ما تخبرني هذه الشبكة أن رقم ٥ هو ٣. وإذا ما قمتُ بتصحيح إجابتها هذه على نحو متكرر، فإنها تخبرني أن رقم ٣ هو ٥. وإذا درَّبتها على رقمَيْ ٣ و٥ بالتناوب، فإنها في النهاية ستفهمهما على نحو صحيح، ولكنها ستعتقد بعدها أن كل شيء إما رقم ٣ أو ٥. لم يكن لديَّ من الصبر لأتأكَّد به من أنها تفهم كل رقم على نحو صائب، لكن إذا توفَّر وقت أكثر وربما شبكة أكبر حجمًا، فأنا متأكِّد من أنها ستفهم جميع الأرقام على نحو صحيح. وإلى أن يحدث هذا، فإنها سترتكب أخطاءً.»

قال بأسلوبِ مَن لديه معرفة معينة يريد توصيلها: «حسنًا، لكنها ليست أخطاءً حقيقية؛ فالشبكة تفعل ما يجب عليها لأنك قد برمجتها على هذا.»

ونظرًا لأسباب سيفهمها كلُّ عالمٍ لكن ليس جميع الفلاسفة، كنتُ قد بدأت أشعر بقليل من نفاد الصبر.

قلتُ له: «أولًا: هناك أسباب كافية للاعتقاد أن العقل البشري يُشبِه الآلة؛ لذلك فإن «الأخطاء» التي يقوم بها هي من نفس نوع الأخطاء التي ترتكبها شبكتي العصبية. نحن نطلق عليها أخطاءً لأن الآلة لا تعمل على النحو المتوقَّع منها. إن العقل يتبع البرنامج الذي اكتسَبَه من خلال الوراثة والتعلُّم على النحو السببي نفسه الذي تتصرف به شبكتي العصبية. وثانيًا: أنت تقوم بما أطلَقَ عليه بِرتراند راسل التفكيرَ في خصائص العالم عبر اللغة المستخدمة لوصفه، وهذه ليست طريقة موثوقًا بها لمعرفة كيف يتصرَّف العالم فعليًّا؛ ولهذا السبب توجد العلوم.»

استمرت المناقشة لبضع ساعات، لكن في النهاية تلاشى ما كان لديَّ من ضجر.

قلتُ له: «انظر، يبدو لي أنك تحاوِل سنَّ قوانين من أجل اللغة. فأنت تريدني أن أُطلِق على الأخطاء التي أرتكبها أخطاءً حقيقية، والأخطاء التي يرتكبها برنامجي أخطاء محاكاة، والسبب في هذا أنك تشعر أنني أسيء استخدام اللغة، إلا أن الناس يستخدمون اللغة على نحوٍ مجازيٍّ طوال الوقت. يشبه هذا الأمرُ اعتراضَك على أن يُطلَق على رِجل الطاولة كلمة «رِجل»؛ لأنها تختلف عن رِجْلي. كما لو كان هناك خطر حقيقي من أن يحك إنسان رجله فيُصاب بشظايا. الحقيقة الواضحة أن الفلاسفة على وجه الخصوص رأيهم غير معتبَر هنا؛ فسيستمر الناس في قول إن للطاولات أرجلًا، دون إعارة أي اهتمام لأحكام الفيلسوف المناقضة لذلك، والأمر نفسه يسري على الأخطاء.»

اعترَضَ الرجل وقال إنه لا يحاول سنَّ قوانين لصالح اللغة على الإطلاق، وقال إنه كان يحاول الوصول إلى الحقيقة باستخدام الأساليب الفلسفية.

قلت له: «إن الأساليب الفلسفية من النوع الذي تستخدمه قد أصبحَتْ قديمة الطراز منذ ثلاثة قرون على الأقل، وقد ثبت فشلها في تقديم الحقيقة مرارًا وتكرارًا. والآن لطفًا غادِرْ لأن لديَّ عملًا جادًّا أودُّ القيام به، وهذا النقاش لا يمكن أن يُثمِر عن شيء عدا رفع ضغط دمي.»

لم يكن هذا تصرُّفًا مهذَّبًا، لكن إضاعة وقتي حينها هدرًا على أمور تافهة لم تكن أمرًا مهذبًا أيضًا. بالطبع كان هذا التصرف غير المهذب من جانبه نابعًا من جهل منه أو حماقة وليس بدافع خبيث، لكن العالم يتعامَل بطريقة قاسية مع الجهل والحماقة، فلمَ أكُون أنا أكثر لطفًا من العالم؟!

من فضلك لاحِظْ أن حواري عن الأخطاء مع هذا الفيلسوف الصغير لم يكن في الواقع هو الأول من نوعه؛ فيمكن العثور عليه في الصفحة رقم ٧٧ من مذكرات صمويل بتلر مؤلِّف رواية «إيرون». أما أنا فأفضِّل الإعلان التجاري: «إنَّ تخلِّيَ السيدة سميث عن جميع أنواع الملابس يستدعي فحصًا.» فهو أكثر عبثًا إلى حدٍّ ما.

لم يكن زائري الصغير هو الأفلاطوني الوحيد الذي يهاجِم مَن يحاولون كتابة برامج ذكية؛ فقد كتَبَ الفيلسوف جون سيرل مناقشات (حول الغُرَف الصينية) للغرض نفسه، وقد عامَلَه علماء الرياضيات والعلماء الآخرون ومَن يُطلَق عليهم النخبة الثقافية في المجتمع بنفس القدر من عدم الاحترام. فبالنسبة لهؤلاء تتمثَّل طريقة معرفة ما إذا كان من الممكن كتابة برامج ذكية في تجربة الأمر ورؤية ما يحدث، أما بالنسبة لمسألة ما إذا كان مثل هذا البرنامج ذكيًّا بالفعل أو يستطيع التفكير أم أنه يتمكن فحسب من المحاكاة، فإن العلماء يطرحون سؤالًا: «ما الإجراءات التي تطبقها من أجل التمييز بين هاتين الحالتين؟» ومرة أخرى عندما تأتي الإجابة: «التفكير الجاد.» فإن ردَّ الفعل سيكون ابتسامةً تنمُّ عن الضجرِ ومغادرةً سريعةً.

لقد عرضْتُ حتى الآن الموقفَ التقليدي للعلماء المتمثِّل في أن حقيقة كيفية عمل الكون لا يمكن الوصول إليها بوجه عام من خلال التفكير المنطقي المجرد؛ فالفائدة الوحيدة التي يقدِّمها لنا التفكير المنطقي هي إمكانية استنتاج قدر من الحقيقة من خلال الحقائق الأخرى. وبما أننا لا نملك الكثير من الحقائق لنبدأ منها؛ فما لدينا هو مجرد فرضيات مؤقتة ومجموعة محدودة بالضرورة من الملاحظات، فإننا لا نستطيع الوصول إلى معتقدات مضمونة عن طريق التفكير وحده. إن معظم العلماء هم وضعيون بالضرورة من أنصار كارل بوبر؛ يعتقدون أن حياتهم المهنية تتكون من ملاحظات محدودة، وفرضيات عامة شاملة يمكن استنباط استنتاجات منها، وأنه من الضروري اختبار الاستنتاجات عبر المزيد من الملاحظات؛ لأنه رغم أن هذه الاستنتاجات نتجت عن منطق صارم (الرياضيات عادةً)، فإنه ليس ثمة ما يضمن صحتها. ففكرة أن المرء يستطيع الوصول إلى حقائق موثوق بها عبر التفكير المنطقي المجرد، هي ببساطة فكرة لم تَعُدْ مستخدَمةً. لقد آمَنَ أفلاطون بها، لكنه كان مخطئًا. إن هذه هي الحكمة التقليدية لدى العلماء، ومن الخطأ محاولة إخفاء أنها بوجه عام تعبِّر عن موقفي أنا أيضًا.

كيف يمكن أن يعتقد أي شخص أن التفكير المنطقي المجرد — على حدِّ تعبير كانط — يمكن أن يؤدِّي حتمًا إلى الوصول إلى الحقيقة بشأن العالَم الذي نعيش فيه؟ تكمن الإجابة في التأثير الهائل للرياضيات الإغريقية على فلاسفة الإغريق، خاصة أفلاطون. في إحدى حوارات أفلاطون السقراطية، أحضَرَ سقراط عبدًا ليثبت أنك إذا أتيتَ بمربعٍ ورسمْتَ به خطًّا قطريًّا، ثم جعلت هذا الخط أحد أضلاع مربع أكبر حجمًا، فإن مساحة المربع الثاني تكون ضعفَ مساحةِ الأول.

في الواقع لم يقدِّم سقراط دليلًا، وإنما بدلًا من هذا استخلص الدليل من العبد من خلال طرح بعض الأسئلة عليه (وإذا أردت معرفةَ ما إذا كنتَ تملك مهاراتٍ في الرياضيات تُشبِه مهارات عبد يوناني، بإمكانك إمعان النظر في الشكل لترى إذا كنتَ تستطيع إثبات المسألة). عندما نجح العبد في استنتاج الحجة، أخبره سقراط أنه بالتأكيد كان يعرفها طوال الوقت؛ لأن كلَّ ما قام به سقراط هو مجرد طرح بعض الأسئلة. إذن فإن المعرفة المتعلقة بهذه الحقيقة على وجه الخصوص كانت داخل عقل العبد بالفعل، لكنها كانت بحاجةٍ إلى الكشف عنها. إن فعل التفكير في الإجابات على أسئلة سقراط أدَّى إلى خروج تلك الحقيقة من الظلام إلى النور، وهي عملية لا تختلف عن ممارسة بعض المحللين النفسيين للإقناع الروجري (نسبة إلى كارل روجرز). يُعتبَر التوصُّل إلى الحقائق من خلال سعي العقل للحصول عليها من الأساسيات في فِكْر أفلاطون. و«الحقيقة» بشأن المساحات النسبية لكلا المربعين هي أحد الأمثلة غير المهمة إلى حدٍّ ما على هذه العملية. وقد يتوقع المرء أيضًا التوصُّل إلى الإجابة الصحيحة بشأن المعضلات الأخلاقية والمشكلات الهندسية والأحكام الجمالية عبر العملية نفسها. في الواقع كتب أفلاطون إلى أرشميدس ذات مرة يوبِّخه على عبثه بالرافعات والحبال الحقيقية، في الوقت الذي ينبغي فيه على أي رجلٍ نبيلٍ أن يقبع داخل حجرة دراسته، أو ربما في حالة أرشميدس، داخل حمامه. على الأرجح أن أرشميدس، الذي كان عالم رياضيات حقيقيًّا ويَفُوق أفلاطون ذكاءً بنحو عشرين مرةً، كان مشغولًا للغاية، حتى إنه لم يعبأ بالرد على مثل هذه التفاهات.

إذا ما قرأت كتابَ «العناصر» لإقليدس، الذي أصبحَ متاحًا الآن على شبكة الإنترنت http://aleph0.clarku.edu/~djoyce/java/elements/elements.html، وتتبعت الاستنتاج الذي لا نهاية له للافتراضات الرياضية من عددٍ قليلٍ للغاية من البديهيات، فإنه لن يسعك إلا أن تنبهر بما يمكن القيام به من خلال التفكير المتواصِل والمتأنِّي. عندما كانت هذه النتائج لا تزال جديدةً نسبيًّا، كان من السهل على العقول المنبهرة افتراضُ عدمِ وجود حدودٍ لما يمكن الحصولُ عليه بواسطة هذه الأساليب.

بدأ إقليدس بتعريف النقاط والمستقيمات على نحوٍ غير كافٍ إلى حدٍّ ما. يجدر ملاحظة أن هذه الأفكار — كما يشير مصطلح الهندسة نفسه الذي يعني بالإغريقية علم قياس الأرض — مستمَدَّة من العادة المصرية القديمة المتمثِّلة في إجراء مسح للأراضي، عن طريق وضع أوتاد على ضفاف النيل المسطحة تمامًا وربطها معًا بحبال مشدودة جيدًا. كان هذا أمرًا ضروريًّا لأن نهر النيل اعتاد أن يطمس جميع العلامات السابقة التي يضعها الناس لتحديد حقولهم؛ لذا كان لزامًا عليهم إعادة بنائها من جديد كلَّ عام. لم تكن الأوتاد والحبال أشياءَ معقَّدَةً للغاية في هذا السياق، فليس ثمة ما يميِّزها سوى القليل من الخصائص، وهذه الخصائص يمكن اختزالها بسهولة في خصائص النقاط والمستقيمات على مسطح ما، وعند تدوينها تصبح هذه الخصائص مسلَّمات الهندسة المستوية. إذن ثمة علاقة أكيدة بأرض الواقع، غير أن القليل من هذه الخصائص المهمة هي التي اختيرت لمزيد من الدراسة.

رأى كثير من الإغريق أن علاقة هذه الخصائص بالواقع طفيفة للغاية ولا تستأهل اهتمامهم، فقد اعتبروا المسلَّمات «حقائق بديهية» منتزعة من الواقع بواسطة التفكير المجرد، ولم يؤمن الفلاسفة أن المسلَّمات يمكن أن تكون شيئًا آخَر بخلاف حقيقتها، واعتبروا أن الاعتقاد بأنها مستمَدَّة من أشياء حقيقية مثل الأوتاد والحبال أمر وضيع الشأن للغاية؛ لذا عبَّرَ أفلاطون عن هذه الفكرة بأن جميع الحقائق المهمة بشأن العالم، إما أن تكون معروفة مباشَرةً لعين البصيرة، أو يمكن استنتاجها من حقائق أخرى عن طريق التفكير المنطقي المجرد. ربما كان من الممكن أن يستنتج رجل آخَر أكثر تحفُّظًا وجودَ حقائق رياضية يمكن استنباطها من أي مجموعة من القواعد، ووجود حقائق الواقع القائمة على الملاحظة، وأنَّ كليهما بوجه عام ليسَا الشيء نفسه. إلا أن أفلاطون — نظرًا لافتتانه بالرياضيات التي كان يُطلَق عليها اسم «السحر الإغريقي» — تمادَى في ذلك الأمر قدر المستطاع.

أقَرَّ معظم الناس بالتأكيد بأن هذا الأمر قد يكون صحيحًا من الناحية النظرية، لكنك إذا كنتَ تريد معرفة الحصان الرابح، فمن الأرخص والأسرع والأقل إرهاقًا من الناحية الذهنية أن تجعل الخيول تتسابق في الواقع بدلًا من الجلوس والتفكير في الأمر كثيرًا. إن الأشخاص الذين خسروا جميع أموالهم في المراهنة على الأحصنة وكان لديهم أيضًا نزعة إلى التفكير، شعروا بأنه من الأفضل حلُّ المشكلات عن طريق التفكير المجرد، ونظروا بازدراء إلى أصحاب الأحصنة أو الذين يراهنون عليها. وقد استمرت هذه العادة إلى يومنا هذا.

ثمة سببان أساسيان لرفض علماء الرياضيات والعلماء الآخَرين بوجه عام منهج أفلاطون. يأتي أحدهما من الهندسة الإقليدية؛ فقد قدَّمَ إقليدس مسلَّمة التوازي، التي تؤكِّد على أنه من أي نقطة بالتوازي مع مستقيمٍ ما يمكن رسم مستقيمٍ واحدٍ فقط. شعر عدد كبير من الناس بعدم الرضا عن هذه المسلَّمة، فقد بدَتْ لهم أنها لا تندرج تحت مسمَّى المسلَّمات الصحيحة؛ لأنهم لم يجدوا أنها أمرٌ بديهيٌّ؛ لذا حاوَلوا استنتاجها من مسلَّمات أخرى. لقد قضى عدد هائل من الرجال — بل وبعض النساء — ساعاتٍ من العمل في محاولة استنتاج هذه الفرضية من مسلَّمات إقليدس الأخرى، أو إضافة مسلَّمة بديهية فعليًّا يمكن استنتاجها منها. فشلت جميع المحاولات، ورغم أن عالِمَ رياضيات إيطاليًّا ظنَّ أن باستطاعته حلَّ المشكلة عن طريق افتراض خطأ هذه الفرضية، وحاوَلَ استنتاج ما يناقضها، إلا أنه لم يتوصَّل لأية تناقضات، لكنه استنتَجَ الكثيرَ من النتائج التي شعر أن غرابتها تكفي لأن تسمح للرجال المنصفين بقبول مسلَّمة التوازي تلك.

ظلَّ هذا الوضع قائمًا حتى ظهور علماء الرياضيات بولياي ولوبَتشيفسكي وريمان. حاوَلَ بولياي استنتاج مسلَّمة مناقِضة لهذه الفكرة، مفترضًا أنه من أي نقطة بالتوازي مع مستقيمٍ ما يمكن رسم العديد من المستقيمات. استمرَّ في الاستنتاج على نحوٍ جنوني، لكنه فشل في التوصُّل إلى ما يناقِض مسلَّمة إقليدس، وفي النهاية أدرَكَ أنه قد اخترع نوعًا جديدًا من الهندسة مختلفًا عن هندسة إقليدس، لكنها على القدر نفسه من الاحترام. ذهب ريمان في الاتجاه المعاكِس؛ فقد افترض أنه من أي نقطةٍ ما موازية لمستقيم معين، لا يمكن رسم أي خطوط. لقد أدرَكَ أنه هو الآخَر قد اخترَعَ نوعًا آخَر من الهندسة، في الواقع كانت تلك هي هندسة الدوائر العظمى على كرة.

يرى علماء الرياضيات أن هذا يدمِّر إلى حدٍّ كبير الفكر الأفلاطوني. فبمجرد قراءة أعمال العلماء وفهمها لم تَعُدِ المسلَّماتُ حقائقَ بديهية، بل أصبحت بدلًا من ذلك مجرد افتراضات، ويمكن تفسيرها على أنها إفادات صحيحة عن العالم، ربما بعدة طرق مختلفة، أو ربما لا يتم تفسيرها على الإطلاق. لقد انتهى الفكر الأفلاطوني بالنسبة لعلماء الرياضيات منذ قرون مضَتْ، وأصبح ببساطة يبدو سخيفًا. إن الرياضيات لا تقدِّم حقائق وإنما تقدِّم نتائج، فمسلَّمة التوازي هي مجرد افتراض أن المساحة التي نعمل عليها مسطَّحَة. لا يوضِّح لنا هذا أيَّ شيء بشأن إنْ كان الفضاء الذي نعيش فيه مسطحًا أم لا، ربما يكون كذلك وربما لا. نحتاج إلى معرفة ذلك بالملاحظة، وقد اقترَحَ جاوس — الذي أدرَكَ الأمرَ على الفور — وضْعَ ثلاثة تلسكوبات على قمم ثلاثة جبال مختلفة، وقياس مجموع زوايا المثلث المتكوِّن وفقًا لهذا. إذا كان مجموع الزوايا ١٨٠ درجةً، فإن هذا يعني أن الفضاء مسطَّح، على الأقل وفقًا لحدود دقة القياسات. إذا زاد مجموع الزوايا عن هذا، فإننا نعيش في فضاء ريمان، وإذا قلَّ فإننا نعيش في فضاء لوبَتشيفسكي. وهنا لا يمكن للتفكير المنطقي وحده أن يخبرنا بهذا.

كنتُ قد قلتُ إن ثمة سببين لرفض علماء الرياضيات والعلماء الآخَرين منهج أفلاطون. كان السبب الثاني هو الثورة في الفلسفة التي أحدَثَها السير إسحاق نيوتن. تستطيع رؤية ما وصلَتْ إليه هذه الثورة من خلال قراءة قصيدة لوكريتيوس «عن طبيعة الأشياء»، وهو أحد النبلاء، وقد كتب قصيدة غنائية طويلة عن العلم (من منظوره) ناقَشَ فيها — من بين أمور أخرى — مسألةَ إن كنَّا نرى الأشياء بواسطة شيء ينبعث منها ويدخل إلى أعيننا، أم أن أعيننا تستطيع على نحوٍ ما الوصولَ إلى الأشياء والتعامل معها. وإذا ما قارنْتَ هذا بكتاب «البصريات» لنيوتن، ستلاحظ بعض الفروق الجوهرية. كان لوكريتيوس فيلسوفًا قديم الطراز، أما نيوتن فقد كان دون أدنى شك فيلسوفًا، لكن طريقته كانت مختلفة ولا يتبع المنهج الأفلاطوني. كتب نيوتن عبارة Hypotheses non fingo اللاتينية والتي تُترجَم حرفيًّا: «أنا لا أختلق الفرضيات»، لكنه بالطبع اختلَقَ فرضيات؛ فكلمة fingo اللاتينية تتعلق بكلمة fiction الإنجليزية (التي تعني خيالًا أو تصوُّرًا)؛ لذا من الأفضل ترجمة هذه العبارة كالتالي: «أنا لا أتورَّط في فرضيات غير قابلة للفحص.»

أوضح نيوتن أسلوبه الفلسفي إلى حدٍّ كبير. فإذا صرَّحَ نيوتن بفرضية، فإنها عادةً ما تكون شيئًا قابلًا للاختبار، إما مباشَرةً أو من خلال فحصِ نتائجِها المنطقية واختبارها. إذا لم تكن ثمة طريقة لتحديد حقيقة الفرضية عدا الجدل الذي لا نهاية له لمتعة المجادِل فحسب، فإنه لا يخصص وقتًا للقيام بهذا. وبغية التوصُّل إلى نتائج منطقية يمكن اختبارها، كان ضروريًّا أن يصيغ فرضياته بدرجة عالية من الوضوح، ويفضل أن يكون هذا من خلال الجبر، مع التخلِّي عن مقولته اللاتينية تلك. وفي وقتنا الحالي أغفلنا نحن أيضًا هذه المقولة.

عند اختيار نيوتن استبعاد جميع الفرضيات التي يمكن الجدل بشأنها ولا يمكن الوصول إلى قرار بشأنها باستخدام التفكير المنطقي والملاحظة معًا؛ فإنه غيَّرَ عن عمدٍ قواعدَ اللعبة تمامًا. لنعطِ مثالًا على هذا: لا يمكن الخوض في الجدل بشأن ما إذا كانت القططُ أو الصخورُ تتمتع بحقوق مثل البشر إلا بعد الحصول على قدر من التوضيح. إن أول سؤال يطرحه الفيلسوف النيوتني هو: ما مجموعة الملاحظات التي تعتقد أنها تثبت حقيقة ما تزعمه؟ إذا تضمَّنَتِ الإجابةُ مجموعةً محدَّدة من الملاحظات، وهي في الواقع مُعدَّة وتُوصِل إلى النتائج المطلوبة، فإن الخطوة التالية تتمثَّل في طلب تقديم العلاقات المنطقية بين هذه الملاحظات وزعمك. في حالة الجدل بشأن حقوق القطط والصخور، فإن أحدًا لم يكن ليهتمَّ بالسؤال عن ماهية المعطيات الجديرة بالملاحظة التي يمكنها أن تُثبِت هذا الزعم، بناءً على الأسس المنطقية القائلة إن هذا الجدل يعجز عن تقديم إجابة محدَّدة لأننا لم نعرِّف حتى الآن مصطلحَ «حق» بقدر كافٍ من الدقة. ونحن ندعو أي شخص يعتقد أنه يعرف بالضبط معنى «حق» إلى تعريفه في صيغة جبرية. وإلى أن يحدث هذا، صرَّحَ الفلاسفة النيوتنيون أن هذا الجدل لا يصلح أن يخضع للدراسة الجادة.

ينبغي أن تكون لجميع المبادئ الرصينة أسماء جذَّابة؛ لذا سأطلق على هذا «سيف نيوتن الليزري»، على أساس أنه أكثر حدةً وخطورةً من «شفرة أوكام». وهو يقضي في أضعف صوره بعدم الخوض في مجادلة حول الافتراضات، إلا إذا أظهَرَ التفكيرُ المنطقي الدقيق و/أو الرياضيات أن نتائجها يمكن أن تخضع للملاحظة. أما في أقوى صوره فإنه يتطلب قائمةً بالنتائج القابلة للملاحظة، وإثباتًا رسميًّا بأنها بالفعل نتائج الفرضية المزعومة. أصبح الفلاسفة من أتباع نيوتن يُعرَفون باسم «العلماء»، وفي النهاية جاء كارل بوبر وصاغ قوانين عمل هؤلاء الهرطقيين في معياره الشهير لقابلية التكذيب.

بالطبع ثمة كثير من فلاسفة عصرِ ما قبل نيوتن حولنا؛ فهؤلاء الناس أمثال سيرل والفيلسوف الصغير الذي زارني، بالطبع يتَّهِموننا — نحن النيوتنيين — بإهمال دراسة الأمور البالغة الأهمية؛ مثل: الأخلاق، وطبيعة العقل. يأتي رد النيوتنيين ببساطة بأنه ليس لدينا أي قول بنَّاء بشأن هذه الأمور لأننا لا نفهمها؛ لذا فإننا نسكت. نحن ندرس الأمرين؛ فربما يمكن تناوُل الأخلاق عبر دراسة التطوُّر ومن خلال الألعاب المتكررة ضمن نظرية الألعاب. يحاول بعضنا كتابة برامج كمبيوتر تقوم بنوع من المعالجة المعرفية على مستوى بسيط للغاية. إن مَن يرغبون في الحصول على تفسير شامل لا يرضون بهذا المنهج، لكن مردوده كبيرٌ في مجالَي الفيزياء والكيمياء، رغم أنه في الغالب يكون بطيئًا وفنيًّا، ويتطلب إجادة الرياضيات. (إن هذا ليس إعلانًا، وإنما صدر تلقائيًّا على هذا النحو.)

إذن، كانت هذه هي وجهة نظر معظم العلماء الممارسين للعلم. أعتقد أن بإمكانك القول إننا قد طوَّرنا الفلسفة حتى وصلت إلى آفاق جديدة؛ حيث دمجنا الرياضيات والتفكير المنطقي إلى مستويات أبعد من أي شيء برع فيه أفلاطون. لذلك فإن أقصى ما قد تحصل عليه منَّا هو اعترافنا بأن أفلاطون كان مناسِبًا لعصره، وأن هذا العصر قد مضى عليه زمن طويل. ما زلنا نحاول — دون أدنى شك — فَهْمَ الكون، ونبذل في سبيل هذا الكثيرَ من التفكير، ومن ثَمَّ فنحن نمارس الفلسفة (الطبيعية)، إلا أننا لا نطلق عليها هذا المسمَّى في وقتنا هذا؛ خشيةَ أن يخطئ فهمَنا الآخَرون بأننا من نوعية الفلاسفة المستعدين لحل المسائل الصعبة عن العقول والأدمغة وبرامج الكمبيوتر بأقل قدر من المعرفة بكيفية عمل أجهزة الكمبيوتر أو الأدمغة فعليًّا.

يُحتمَل أن تكون قد لاحظت لمحةً من الخُيلاء الفكرية في وجهة النظر هذه عن الفلسفة. في عصر أفلاطون كان من المتوقع من أي رجل متعلم ذي عقلية أدبية أن يكون قادرًا على الأقل على فهم نقاش في مجال الرياضيات التي كانت تشغل مقدمة الساحة البحثية، بينما لا يستطيع أحد في الوقت الحالي الإحاطةَ بجميع جوانب الأبحاث الحالية، بسبب وجود تفاصيل كثيرة للغاية؛ لذلك ثمة احتمال ألَّا يكون بعض من الفلاسفة الذين يدَّعون أنهم من أتباع نيوتن فلاسفةً على الإطلاق؛ فهم مجرد خبراء فنيين يبرعون في إجراء العمليات الرياضية الصعبة. وليس هذا شكًّا غير مدعوم بالدليل؛ إذ إن قدرًا كبيرًا من عمليات تدريس الرياضيات والعلوم والكثير من النصوص تتسم بالرتابة التي تصاحِب الافتقار التام إلى تدبُّر القضايا الأكبر حجمًا.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أنه بالرغم من احتمال إعجاب المرء بشدة بفيلسوف نيوتني أصيل — هذا إن وُجِد — فإن دعوة أحدهم لحضور حفل عشاء لن يكون بالأمر الحكيم؛ فإن عدم استعداده لمناقشة أي شيء إلا إذا فهمه لدرجة من العمق لا يصل إليها سوى قلة من الأشخاص في أي موضوع، سيجعله متحدِّثًا سيئًا على نحو ملحوظ. ونستطيع القول باطمئنان إنه لن تكون له آراء في الدين أو السياسة، وإن آراءه بخصوص الجنس ستكون إما نظرية للغاية أو تجريبية بلا شك؛ لذا فإنه من المستبعد إلى حدٍّ ما أن يناقش أي شيء يهم عامة الناس. حتى نيوتن نفسه لم يكن نيوتنيًّا بالكامل، وربما نشك فيما إذا كانت الحياة بوجه عام توفِّر رفاهية عدم تكوين رأي في أي موضوع لا يمكن اختزاله إلى حساب التفاضل والتكامل المسند بالإضافة إلى عبارات الملاحظة المعتمدة. في حين أن إصرار النيوتنيين على التأكُّد من أن أي عبارة يمكن اختبارها عن طريق الملاحظة (أو لها نتائج منطقية يمكن اختبارها بالطريقة نفسها)، يعمل بالتأكيد على استبعاد ما ليس له قيمة، يبدو أنه يتخلص أيضًا من كل شيء آخَر تقريبًا؛ وعليه ينبغي استخدام سيف نيوتن الليزري بحذر شديد. ومن ناحية أخرى، عند استخدامه على نحو صحيح فإنه يحوِّل الفلسفة إلى شيء يمكن حلُّ المسائل في إطاره، ويمكن التوصُّل بواسطته إلى استنتاجات أكيدة تثير الدهشة في معظم الأحيان. إن الشخص الأفلاطوني الذي يدَّعِي على سبيل المثال أنه استنتج من المبادئ التي انتزعها بالقوة من عالم من المُثل، عن طريق التفكير المجرد؛ أن القتل الرحيم أو الإجهاض هو خطأ على الدوام، يقوم بأمر مختلف تمامًا.

يبدو لي أنه من الإنصاف أن نستخدم السيف المشتعل مع الفيلسوف الذي يُقحِم نفسه في علمٍ لا يفهمه؛ فإذا ما طرح الأسئلة وكان لديه استعداد للتعلُّم، فلا مشكلة لديَّ في ذلك، أما إذا كان يحاوِل استمالتك للدخول في لعبة كلامية لن تؤدي إلى أي شيء، فيجب عليك أن تقرِّر بالفعل إذا ما كنتَ تودُّ الاشتراك في مثل هذا النوع من الألعاب. يشعر علماء الرياضيات والعلماء الآخَرون بأن لديهم لعبة أخرى أكثر صعوبةً ولكنها ترضيهم أكثر، وإحدى قواعد هذه اللعبة هي سيف نيوتن الليزري المشتعل.

مربع سقراط.

مربع سقراط.

13 Ara, 2015 05:24:28 PM
1