Ana içeriğe atla
«الغميضة»... لعبة طفولية تفضح زيف الواقع

«الغميضة»... لعبة طفولية تفضح زيف الواقع

 

تلاحق الصدمة في هذه الرواية القارئ منذ سطورها الأولى، حيث يصدِّرها الكاتب بعبارة غير متوقعة على شكل تحذير، يقول: «هذه ليست رواية، إنما مسرحية خبأتها في جسد رواية، يمكنك أن تقرأ لتكتشف ذلك بنفسك أو انزع هذه الصفحة واهدِ الكتاب لصديق تمنيت خداعه». إنه تحذير لا يمكن أبداً أن يكون جاداً مصحوباً بنصيحة ساخرة إذن، وبالطبع لن يؤدي ذلك إلا لمزيد من إثارة رغبة المتلقي في فض هذا الاشتباك بين تقنية المسرح وأدوات السرد، فضلاً عن معرفة طبيعة الجو العام للعمل، وهل فعلاً يستدعى المزج القوي بين هذين العالمين في نص واحد.
في رواية «الغميضة» الصادرة في القاهرة مؤخراً عن دار «الشروق» للكاتب وليد علاء الدين، يستهل الراوي الحدث بوصف مقبض للعالم، فنحن للوهلة الأولى أمام ساحة كبيرة وشوارع وبيوت، لكن الحقيقة ليست كذلك، فما نراه هو في الواقع مجرد محل للعب الأطفال مقسم على هيئة شوارع وساحات انتظار، وأرفف مقسمة بدورها على هيئة مبانٍ سكنية بنوافذ وشرفات. تظهر بنت في سن الطفولة الأولى تبحث عن دمية تلهو بها. وبينما هي مشغولة بالبحث، يظهر ولد في مثل سنها ليعرض عليها أن يلعبا سوياً لعبة «الغميضة» المعروفة في مصر باسم «الاستغماية» وفي السعودية باسم «الغميمة». وطبقاً لقانون اللعبة، يخفي الولد عينيه بيديه ثم يسأل البنت إن كانت قد استقرت في مخبأ ليبدأ رحلة البحث عنها، فيفوز إن عثر عليها ويخسر إن فشل في مهمته. تجيبه الفتاة أخيراً بالإيجاب، لكنه يعثر عليها سريعاً ودون مشقة لأنها أصلاً لم تختبئ، ولم تكن تعرف أين تذهب. تحزن البنت حزناً حقيقياً يتجاوز حدود لعبة يمارسها طفلان. يصاب الولد بعدوى الحزن فيقترح أن يختبئ هو هذه المرة فتوافق. تسأله «خلاويص؟»، أي هل انتهيت من العثور على مخبئك فيجيبها بالإيجاب. وحين تفشل في العثور عليه، يظهر لها ليخبرها أنه استخدم قناع المهرج كي يختفي. يرتدي القناع ليريها كيف كان الأمر فتصرخ مرتعبة بشكل هستيري ولا تستعيد سكينتها سوى بخلعه للقناع.
يمثل الطفلان وفق هذه الصيغة آخر ميراث البراءة وسط عالم فقد إنسانيته وبراءته منذ زمن بعيد، لكنهما أيضاً يتعرضان لاختبار قاسٍ ضمن سؤال مركزي: هل يحتفظان بهذا النقاء والعفوية أم ينجرفان مع الموجة ليجاريا العالم؟
يظهر الطفلان في الفصول اللاحقة وسط «بشر يرتدون أقنعة حيوانات ويتجولون في كل الأرجاء وهم يرتدون أزياء أبطال كل حكايات وأساطير الكون»، مع تركيز خاص على شخص يدعى «المزدوج»، لأنه الوحيد الذي له وجهان، مع وجاهة في المنطق وقوة في الحجة ما يستدعى تساؤلات تفرزها براءة البطلين:
هل يقابل أحدنا أحبابه بالوجه نفسه الذي يقابل به أعداءه؟
هل الوجه الذي نتعامل به مع أناس ضعفاء هو نفسه الذي نتعامل به مع وحش قرر أن يفترسك؟
«الوجه» إذن يشكل «ثيمة» محورية يشتغل عليها المؤلف المولع أصلاً بعالم المسرح والذي صدر له أكثر من عمل منشور في هذا السياق منها «72 ساعة عفو» و«مولانا المقدم» كما فاز بجائزة «ساويرس» في المسرح.
ومن ثم، هل كان هذا النص مشروع مسرحية جديدة في مسيرة المؤلف، لكنه قرر في اللحظة الأخيرة تحويلها إلى نص سردي؟ سؤال يكتسب مشروعيته من عدة مؤشرات، منها الحجم القصير للعمل 107 صفحات من القطع الصغير نسبياً، فضلاً عن الحضور الطاغي لتقنيات المسرح.
المسرح بالأساس صورة، حالة بصرية، صراع درامي وُجد ليتم تنفيذه على الخشبة وفق أداء انفعالي لمجموعة من الممثلين، وهذا بالضبط ما نجده في هذه الرواية طوال الوقت. حيث تتحول فصول العمل إلى شكل قريب للغاية من الفصول المسرحية، فالاستهلال الوصفي ما هو إلا «توجيهات» المؤلف للمخرج كما نجد في الفصل الثالث: موسيقى صاخبة تحتل الصدارة بصورة تراجع معها صخب البشر والأتوبيسات ونباح الكلاب. مهرِجان بملابسهما الملونة الفاقعة، «أحدهما له وجه مرسوم على الحزن والآخر مرسوم على الفرح». هذا الاستهلال في كل فصل يليه فاصل من الحوارات المطولة بين شخصيات متعددة يزدحم بهم المشهد الواحد.
يحكي الولد «البطل» للبنت أحد أحلامه تستمع إليه بدقة، تشاركه لحظات الحلم بكل دقائقها وتكون النتيجة أن الحلم يتحول إلى دهليز عبر الزمان يبتلعهما معاً، وخلال محاولتهما الخروج من الحلم والعودة إلى أرض الواقع يصطدمان بعدد من الشخصيات والحكايات التاريخية ذات الدلالة، منها غطاء الرأس وكيف كان يحدد مكانة المرأة والرجل اجتماعياً ونوعية الطبقة التي ينتمي إليها.
لحسن الحظ لا يبق الولد والبنت في دائرة الحلم إلى الأبد، لكنهما حين يعودان للواقع يصطدمان هذه المرة بما يمكن تسميته بـ«كوابيس اليقظة»، والتي بطلها الأساسي أحد ممثلي التعصب الديني والذي لا يعرف من الدين سوى الشكليات والقشور وهو «الشيخ مسعد». ينجح الولد والبنت في النهاية في الخروج من لعبة الأقنعة فقد عرفا قيمة احتفاظ الإنسان بوجهه كما هو، فلا قناع ولا حتى مساحيق تجميل.
ورغم ازدحام الفصول أو «المشاهد» بالشخصيات العديدة من الجنسين، سواء تلك المستدعاة من تاريخ المصريين في القرون الوسطى أو تلك الخارجة من الواقع المعاصر، فإنه يحسب للكاتب قدرته على تحريكها بسلاسة ومنح كل منها «هوية» مستقلة على مستوى الشكل الخارجي والسمات النفسية الداخلية.
ورغم ما توحي به فكرة تحول البشر إلى كائنات مزيفة ترتدي أقنعة الحيوانات من أجواء مقبضة شبيهة بروايات وأفلام «نهاية العالم»، فإن المؤلف عزف بهدوء على وتر العلاقة الرومانسية بين الولد والبنت كما كثف من الحس الساخر بحساسية فنية لافتة، مما منح العمل بعضاً من البهجة في مواجهة جو عام، يكتنفه الغموض وازدحام الشخصيات.

 

 

 

 

المصدر:الشرق الاوسط

12 Eki, 2020 03:51:09 PM
0