Ana içeriğe atla

إصلاح الذكريات السيئة

عالمة أعصاب — أثقلَ قلبَها الأسى لما وجدته من أهوال في تاريخ عائلتها — تقول إن الأشخاص قد يتعافون بسرعة من الصدمات الناتجة عن ذكرياتهم السيئة من خلال تناول حبة دواء أو التحدث إلى معالج نفسي في الوقت المناسب تمامًا.

كانت أمسية يوم السبت في معهد نيويورك للتحليل النفسي، وكانت قاعة المحاضرات في الطابق الثاني تضم مزيجًا عجيبًا من الأشخاص؛ ما بين كبار السن من الطراز العقلاني من قاطني حي أبر إيست سايد الثري، وطلاب دراسات عليا، شباب غير مهندمي المظهر من سكان وسط المدينة، بملابس مصنوعة من الدنيم الأسود. على المنصة، توقفت عالمة الأعصاب دانييلا شيلر — صاحبة الشخصية الرائعة بشعرها الطويل الأملس وقامتها المشدودة بصورة مذهلة — قليلًا عما كانت تقوم به لتلقي محاضرة وجيزة عن الذاكرة.

أوضحت كيف أن أبحاثًا حديثة — بما في ذلك أبحاثها — أثبتت أن الذكريات ليست بمنزلة آثار مادية غير متغيرة في المخ؛ وإنما بِنًى طَيِّعة يمكن أن يعاد بناؤها من جديد كلما استرجعناها. يشير البحث — بحسب قولها — إلى أن الأطباء (والمعالجين النفسيين) قد يستطيعون الاستعانة بهذه المعلومة لمساعدة المرضى على صد المشاعر المخيفة التي يشعرون بها عند استرجاع ذكرى حدث مؤلم سبَّب لهم صدمة، مما سيحول المصادر المزمنة للتوتر المرهق إلى رحلات ممتعة على درب الذكريات.

عادت شيلر مرة أخرى إلى ما كانت تقوم به؛ ألا وهو تقديم دقات قوية وإيقاعية على الطبول مع الكورس الغنائي المصاحب لفرقة أميجدالويدز، وهي فرقة روك تتكون من علماء أعصاب بمدينة نيويورك. خلال العرض الذي قدمته الفرقة في «عرض المنوعات العقلية العميقة» السنوي الثاني الذي يقيمه المعهد، راحت الفرقة تصدح بمجموعة مختارة من أكثر أغانيها نجاحًا، بما في ذلك أغانٍ عن الإدراك (نظرية عقلي)، وعن الذكريات (أثر) وعلم النفس المرضي (عصف ذهني).

أثناء أداء الكورَس الغنائي لأغنية بعنوان «علاج الذكريات»، دندنت شيلر عند نقطة معينة: «فقط أعطني حبة دواء، وامحُ عني ذكرياتي …»

والمفارقة هي أنه إذا ثبتت صحة الأبحاث التي أجرتها شيلر وآخرون، فإنك قد لا تحتاج حتى إلى تناول أية حبوب لتجريد الذكريات التي تثير فيك مشاعر الخوف أو الحزن من تأثيرها.

كانت شيلر — البالغة من العمر ٤٠ عامًا — في طليعة فريق بحثي يعمل على دراسة مثيرة لإعادة تقييم كيفية عمل الذاكرة البشرية على المستوى الأكثر جوهرية. فقد جمع كل من مجموعتها المعملية الحالية بكلية طب ماونت سايناي، وزملاؤها السابقون في جامعة نيويورك، وجيش متنامٍ من الباحثين ممن لهم أفكار مشابهة، مقدارًا كبيرًا من البيانات لإثبات أننا نستطيع تغيير التأثير العاطفي لذكرى بعينها من خلال إضافة معلومات جديدة لها أو استرجاعها في سياق مختلف. هذه الفرضية تتحدى جهود مائة عام في العلوم العصبية، وتطيح بأعمال ثقافية قياسية بدءًا من روايات مارسيل بروست وحتى أكثر المذكرات مبيعًا؛ إذ تغير هذه الفرضية من طريقة تفكيرنا في دوام الذكريات والهوية، كما تقترح نُهُجًا أساسية غير دوائية لعلاج أمراض مثل اضطراب ما بعد الصدمة، وغيره من اضطرابات القلق الناجمة عن الخوف، وحتى السلوكيات الإدمانية.

في ورقة بحثية بارزة نُشِرت في دورية «نيتشر» عام ٢٠١٠، أوردت كل من شيلر (التي كانت آنذاك طالبة أبحاث ما بعد الدكتوراه بجامعة نيويورك) وزملاؤها بجامعة نيويورك، بمن فيهم جوزيف إي لودو، وإليزابيث إيه فيلبس، نتائج التجارب البشرية التي تشير إلى أنه في كل مرة نتذكر واقعة ما، فإن ذكرى هذه الواقعة يعاد تشكيلها وكتابتها من جديد. كما أشارت الأبحاث إلى أنه في حال تقديم معلومات تخفف من وطأة حدث صادم أو مؤسف خلال مدة محدودة من استرجاع ذكراه — أي خلال الساعات القليلة التي يستغرقها المخ لإعادة بناء الذكرى في بنية الجزيئات البيولوجية — فمن الممكن أن تُعاد كتابة التجربة الانفعالية لهذه الذكرى من الأساس.

توضح شيلر قائلة: «حين تؤثر على الذكرى العاطفية، فإنك لا تؤثر على محتواها؛ فستظل تتذكرها تمامًا، كل ما في الأمر أنك تتخلص من الذكرى العاطفية.»

ترويض الخوف

إن فكرة أن الذكريات يعاد كتابتها باستمرار ليست بالفكرة الجديدة تمامًا، وترجع الأدلة التجريبية التي تثبت هذا إلى ستينيات القرن العشرين على الأقل. لكن جمهور الباحثين مالوا إلى تجاهل النتائج لعقود؛ لأنها عارضت النظرية العلمية السائدة حول كيفية عمل الذاكرة.

شرعت هذه الرؤية في الهيمنة على علم الذاكرة مع بدايات القرن العشرين. في عام ١٩٠٠، أجرى العالمان الألمانيان — جورج إلياس مولر وألفونس بيلزيكر — سلسلة من التجارب البشرية في جامعة جوتنجن. وقد أشارت نتائج هذه التجارب إلى أن الذكريات كانت هشة في لحظة تشكلها، لكنها قويت — أو ترسخت — بمرور الوقت؛ وما إن ترسخت، ظلت هذه الذكريات ثابتة في الأساس؛ ومخزنة في المخ بصفة دائمة مثل ملف في خزانة يمكن استعادته كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

تطلب الأمر من علماء الأعصاب عقودًا من البحث الدءوب لتحليل إحدى الآليات الأساسية للذاكرة من أجل شرح كيفية حدوث عملية الترسخ على مستوى الخلايا العصبية والبروتينات؛ إذ تتحول التجربة — التي دخلت إلى المحيط العصبي للمخ عبر الحواس — إلى شفرة بصفة مبدئية في جهاز مركزي في المخ يسمى ﺑ «الحصين»، ثم هاجرت — بواسطة إشارات كيميائية حيوية وكهربائية — إلى مناطق أخرى من المخ لتخزينها. وتعتبر حالة الشاب «إتش إم» فصلًا شهيرًا في هذه القصة. وإتش إم هو شاب أزيلت منطقة «الحصين» من مخه خلال عملية جراحية أُجريت له عام ١٩٥٣ لعلاجه من نوبات صرع موهنة؛ وعلى الرغم من أنه عاش في حالة صحية جيدة على المستوى الفسيولوجي لما تبقى من حياته (حيث توفي في عام ٢٠٠٨)، لم يتمكن إتش إم بعد تلك الجراحة من بناء ذكريات جديدة طويلة المدى مرة أخرى، فيما عدا تعلم مهارات حركية جديدة.

أوضحت الأبحاث التالية أنه ما من شيء واحد متفرد بذاته يسمى بالذاكرة، وإنما ثمة أنواع مختلفة من الذاكرة والتي تحقق بدورها أغراضًا بيولوجية متنوعة باستخدام مسارات عصبية مختلفة. تشير الذاكرة «العرضية» إلى استرجاع ذكريات أحداث ماضية بعينها؛ وتشير الذاكرة «الإجرائية» إلى القدرة على تذكر مهارات حركية معينة مثل ركوب الدراجات أو رمي الكرة؛ أما ذاكرة الخوف — وهي شكل قوي بصورة خاصة من أشكال الذاكرة الانفعالية — تشير إلى الإحساس اللحظي بالألم لدى استرجاع ذكرى تجربة خطيرة سواء على المستوى الجسدي أو العاطفي. لكن أيًّا ما كانت الذكرى، فإن نظرية ترسخ الذكريات تقول بأن الذكرى أثر عصبي غير متغير لواقعة سابقة، والذي يثبت في ذاكرة تخزين طويلة الأمد. وقتما تسترجع هذه الذكرى — سواء أثيرت عن طريق رابط عاطفي مزعج أو عن طريق مذاق مغرٍ لكعك المادلين — فإنك تأتي برواية خالدة لحادث سابق. والبشر — في إطار هذه الرؤية — هم المجموع الكلي لذكرياتهم الثابتة. فقط في عام ٢٠٠٠، في مقال نقدي نُشر في مجلة «ساينس» تحت عنوان «الذاكرة: قرن على نظرية الترسخ»، يمتدح جيمس إل ماجو — عالم أعصاب رائد في جامعة كاليفورنيا بمدينة إرفاين — فرضية الترسخ بسبب أنها «لا تزال ترشد» الأبحاث الأساسية في العملية البيولوجية للذاكرة طويلة الأمد.

وكما يتضح، لم يكن بروست بعالم أعصاب، ونظرية الترسخ لم تتمكن من تفسير كل شيء يتعلق بالذاكرة. وقد أصبح هذا الأمر واضحًا خلال عقود من البحث فيما يعرف بترويض الخوف.

أعطتني شيلر دورة سريعة في ترويض الخوف في وقت ما بعد الظهيرة من أحد الأيام في معملها بكلية ماونت سايناي. فقد تولت إحدى طالباتها لأبحاث ما بعد الدكتوراه — دوروثي بينتس — ربط قطب كهربائي على رسغي الأيمن لصعقي بصدمة كهربية خفيفة ولكن مزعجة. بالإضافة إلى ذلك، وصِّلت مجسات بعدد من أصابع يدي اليسرى لتسجيل الاستجابة الجلدية الجلفانية لدي، وهي مقياس للإثارة الفسيولوجية والخوف. بعد ذلك، شاهدتُ مجموعة من الصور — أسطوانات زرقاء وأرجوانية — تظهر بسرعة على شاشة كمبيوتر. وسرعان ما أصبح واضحًا أن الأسطوانات الزرقاء غالبًا (وليس دائمًا) ما كانت تسبق التعرض لصدمة كهربائية، وكانت قراءات موصلية جلدي تعكس ما علمته. هكذا، في كل مرة كنت أرى فيها أسطوانة زرقاء، أشعر بالقلق مترقبًا الصدمة الكهربية. لم تستغرق «عملية التعلم» أكثر من دقائق معدودة، لتعلن شيلر أن ارتفاع مؤشرات القلق التوجسي لدي — المسجلة في الوقت الفعلي على شاشة قريبة — هي استجابة تقليدية لترويض الخوف. وقد قالت شيلر: «إنها نفس صدمات القلق التوجسي لدى الفئران.»

في عقدَي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، استخدمت العديد من المجموعات البحثية هذا النوع من ذكريات الخوف لدى الفئران لاكتشاف الثغرات في نظرية ترسخ الذكريات. في عام ١٩٦٨ — على سبيل المثال — قاد دونالد جيه لويس من جامعة روتجرز دراسة توضح أن بإمكانك جعل الفئران تتخلص من الخوف المرتبط بالذكرى، إذا ما عرَّضتها لصدمة كهربائية علاجية قوية عقب دفعها إلى استرجاع تلك الذكرى مباشرةً؛ إذ تسببت الصدمة الكهربائية في فقدان الفئران لذكرياتها عن الخوف الذي خبرته سابقًا. على النقيض من ذلك، تعريض الحيوانات التي لم تسترجع هذه الذكرى للصدمة الكهربائية لا يسبب لها فقدان الذاكرة. بعبارة أخرى، بدا أن الصدمة القوية المضبوطة بحيث تحدث مباشرة بعد استرجاع ذكرى بعينها لديها قدرة فريدة على تعطيل الذكرى نفسها والسماح لها بإعادة الترسخ بطريقة جديدة. وقد أكدت أبحاث المتابعة في ثمانينيات القرن العشرين بعضًا من هذه الملاحظات، لكنها تقع على مسافة بعيدة جدًّا من التفكير السائد حتى إنها لا تكاد تلاحظ.

لحظة صمت

في ذلك الوقت، لم تكن شيلر واعيةً بهذه التطورات. نشأت شيلر — التي تصف نفسها بأنها كانت مولعة بالتزلج، وشغوفة بالعلوم — في ريشون لتسيون — رابع أكبر مدن إسرائيل — الواقعة على السهل الساحلي على بعد أميال قليلة من جنوبي شرق تل أبيب. كانت شيلر الأصغر بين أربعة أبناء لأم مغربية وأب أوكراني «مصطبغ بالثقافة البولندية»، وهو وسط عائلي تصفه شيلر بأنه: «بوتقة إسرائيلية نموذجية». تتذكر شيلر — التي كانت آنذاك فتاة مراهقة فارعة القوام وشقراء البشرة بملامح أوروبية — أنها كانت تشعر بالاغتراب عن أطفال الحي؛ لأنها كانت تبدو ألمانية إلى حدٍّ كبير.

تتذكر شيلر بدقة الوقت الذي بدأ فيه فضولها فيما يتعلق بطبيعة الذاكرة البشرية. كانت في الصف السادس، وكان ذلك هو يوم الذكرى السنوية للهولوكوست في إسرائيل. وقد سألت والدها أثناء إعداد مشروع مدرسي عن ذكرياته كأحد الناجين من الهولوكوست، ولكنه تجاهل أسئلتها. لكن أشد ما حير شيلر هو تصرف والدها في الحادية عشرة صباحًا، حين أعلنت أصوات صافرات الإنذار التي اندلعت في آنٍ واحد في جميع أرجاء إسرائيل بدء لحظة صمت قومية. ففي حين وقف كل شخص آخر في البلاد تكريمًا لضحايا الإبادة الجماعية، ظل والدها جالسًا في عناد إلى طاولة المطبخ يحتسي قهوته ويقرأ الجريدة بينما تدوي صافرات الإنذار.

عام ٢٠١٠ تحدثت شيلر أمام حضور غفير في إحدى فعاليات رواية القصص بمؤسسة موث، قائلة: «لقد فعل الألمان شيئًا في أبي، لكنني لا أعرف ماهيته، لأنه لا يتحدث عنه أبدًا.»

خلال فترة خدمتها العسكرية الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، نظَّمت شيلر مؤتمرات علمية وتربوية، أدت إلى بدء دراسات في علم النفس والفلسفة في جامعة تل أبيب؛ وخلال الفترة نفسها، اشترت شيلر مجموعة من الطبول وشكلت فرقة روك عبرية خاصة بها، وأسمتها ريبليون موفمنت (حركة التمرد). وواصلت شيلر دراستها وحصلت على درجة الدكتوراه في علم الأحياء النفسي من جامعة تل أبيب في عام ٢٠٠٤. تتذكر شيلر أنها في ذلك العام نفسه شاهدت فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» — الذي تدور قصته حول شاب يخضع للعلاج بدواء يمحو كل ذكرياته مع حبيبته السابقة وذكرى انفصالهما المؤلم. سمعت شيلر (بالخطأ، كما يتضح) أن فكرة الفيلم تقوم على بحث أجراه جو لودو، فتقدمت للالتحاق بمعمله للحصول على زمالة ما بعد الدكتوراه.

في العلم — كما هي الحال في الذكريات — التوقيت هو أهم شيء. وصلت شيلر إلى جامعة نيويورك في الوقت المناسب لبعث نظرية إعادة ترسخ الذكريات من جديد في العلوم العصبية.

تغيير القصة

في عام ٢٠٠٠، أُعدت العدة لعمل شيلر على تعديل الذكريات، حين اقترح كريم نادر — طالب أبحاث ما بعد الدكتوراه في معمل لودو — إجراء تجربة لاختبار أثر عقار ما على تشكيل ذكريات الخوف لدى الفئران. وقد قال لودو لنادر بكلمات أكيدة إنه يظن أن تلك الفكرة ما هي إلا إهدار للوقت والمال، لكن نادر أجرى التجربة رغم كل شيء. وانتهى الأمر بنشر البحث في دورية «نيتشر»، لتشعل فتيل تجدد الاهتمام العلمي بنظرية إعادة ترسخ الذكريات.

خضعت الفئران لعملية ترويض تقليدية للخوف. وفي تجربة تعتبر نسخة محرفة مؤلمة من تجربة نظرية الاشتراط الكلاسيكي التي أجراها إيفان بافلوف، تعلمت الفئران الربط بين نغمة سماعية معينة وتلقي صدمة كهربائية. لكن، بعدما استرجعت الحيوانات الذكرى المخيفة مباشرةً (وقد عرف الباحثون أنها فعلت ذلك لأنها تجمدت عند سماعها للنغمة)، حقن نادر الفئران بعقار أعاق عملية تخليق البروتين مباشرة في اللوزة الدماغية للفئران، ذلك الجزء من المخ الذي يُعتَقد أن ذكريات الخوف تُختَزن فيه. المثير للدهشة، أن هذا الأمر بدا أنه قضى على الرابط الذهني المخيف؛ إذ إن الفئران لم تعد تتجمد خوفًا من الصدمة عند سماع الإشارة الصوتية.

أثبتت عقود من إجراء الأبحاث أن ترسخ الذكريات طويل الأمد يتطلب تخليق البروتينات في مسارات الذاكرة في المخ، لكن لم يدرك أحد أن تخليق البروتين كان مطلوبًا كذلك بعد «استرجاع» الذكرى — وهو ما يشير ضمنًا إلى أن الذكرى تترسخ حينئذٍ أيضًا. أثبتت التجارب التي أجراها نادر أيضًا أن إعاقة تخليق البروتين يمنع الحيوانات من استعادة الذكريات المخيفة فقط في حال إعطائها العقار في الوقت المناسب؛ أي بعد وقت قصير من تذكيرها بالواقعة المخيفة. فلو أن نادرًا انتظر ست ساعات قبل أن يحقن الفئران بالعقار، لما كان له أي تأثير، ولظلت الذكرى الأصلية كما هي. وقد كان ذلك دليلًا كيميائيًّا بيولوجيًّا مهمًّا على أن بعض أشكال الذكريات على الأقل كان لا بد أن تعاد كتابتها عصبيًّا كلما استُرجعَت.

حينما التحقت شيلر بمعمل لودو في عام ٢٠٠٤، طُلب منها أن تضيف إلى النتائج التي توصل إليها نادر وتختبر القدرة المحتملة لأحد العقاقير على إعاقة ذكريات الخوف لدى البشر. وكان العقار المستخدم في تجربة القوارض سامًّا بدرجة كبيرة لا تسمح باستخدامه مع البشر، لكن كان يوجد نوع من العقارات التقليدية المضادة للقلق المعروف بمضادات بيتا الأدرينالية أو — باللغة الدارجة: «حاصرات بيتا» — له القدرة على القيام بالدور نفسه لدى البشر؛ كان عقار بروبرانولول — الذي أقرت به هيئة الغذاء والدواء الأمريكية في وقت سابق كعلاج لنوبات الهلع والخوف من الوقوف أمام الجمهور — من بين هذه العقاقير. شرعت شيلر على الفور في اختبار أثر عقار بروبرانولول على الذاكرة لدى البشر، لكنها في الواقع لم تُجرِ التجربة قط بسبب التأجيلات المطولة في الحصول على الموافقة الرسمية على ما كان في ذلك الوقت شكلًا رائدًا من التجارب على البشر. وتتذكر شيلر قائلة: «لقد تطلب الحصول على الموافقة أربع سنوات، وبعد ذلك بشهرين، سحبوا الموافقة مرة أخرى. لقد أمضيت فترة دراسة ما بعد الدكتوراه بأكملها في انتظار الحصول على الموافقة على إجراء هذه التجربة.» تضيف شيلر: «ولم أحصل بعد على هذه الموافقة!»

وخلال فترة انتظار الحصول على الموافقة التي لم تأتِ قط، بدأت شيلر العمل على مشروع جانبي اتضح أنه أكثر إثارةً للاهتمام. وقد انبثق هذا المشروع عن محادثة ارتجالية مع زميل لها حول بعض البيانات الغريبة التي وردت في اجتماع معمل لودو؛ إذ — حسبما تقول شيلر — ثمة مجموعة من الفئران «لم تتصرف كما يُفترض» في تجربة الخوف.

أشارت البيانات إلى أنه من الممكن إيقاف ذاكرة الخوف لدى الحيوانات حتى بدون استخدام عقار يمنع تخليق البروتين. استخدمت شيلر جوهر هذه الفكرة لتصميم مجموعة من تجارب الخوف على البشر، في حين أجرت ماري إتش مونفيس — عضو آخر في المعمل — في الوقت نفسه تجارب موازية على الفئران. في التجارب البشرية، كان المتطوعون يشاهدون مربعًا أزرق على شاشة كمبيوتر بعد ذلك يتعرضون لصدمة كهربائية، وما إن حدث الربط بين المربع الأزرق وتلقِّي صدمة كهربائية وشيكة، تكونت الذكرى في ذاكرة الخوف. استمرت شيلر في التجربة لإثبات أنها إذا ما كررت سلسلة الخطوات التي تمخضت عن ذكرى الخوف في اليوم التالي مع كسر الرابط الذهني خلال فترة زمنية قصيرة — بمعنى عرض المربع الأزرق على المتطوعين دون تعريضهم للصدمة الكهربائية — فإن هذه المعلومة الجديدة تندمج في الذاكرة.

وهنا أيضًا كان عامل الوقت عاملًا جوهريًّا. فإذا عُرِض المربع الأزرق الذي لا يُتبَع بصدمة كهربائية في غضون ١٠ دقائق من استرجاع الذكرى المبدئية، فإن المتطوعين يعيدون ترسيخ الذكرى دون مشاعر الخوف. أما إذا حدث الشيء نفسه بعد ست ساعات، تستمر ذكرى الخوف المبدئية كما هي. بعبارة أخرى، أتاح التدخل خلال الفترة الزمنية القصيرة — عندما كان المخ يعيد كتابة ذكراه — الفرصة لمراجعة الذكرى المبدئية نفسها، وفي الوقت نفسه القضاء على المشاعر (الخوف) المصاحبة لها. وبإتقان التعامل مع عامل الوقت، ابتكرت مجموعة جامعة نيويورك سيناريو يستطيع البشر فيه إعادة صياغة ذكرياتهم المخيفة وإضافة نهايات غير مخيفة لها. وقد كانت هذه النهاية الجديدة قوية؛ إذ عندما دعت شيلر وزملاؤها أفراد عينة الدراسة مرة أخرى إلى المعمل بعد مضي عام، أثبتوا أن شعور الخوف المرتبط بالذاكرة كان لا يزال محجوبًا.

وهكذا، أثبتت الدراسة التي نشرت في دورية «نيتشر» عام ٢٠١٠ أن عملية إعادة ترسخ الذكريات لم تقتصر على الفئران فحسب.

أكثر الذكريات أمانًا

يبدو أن فكرة إعادة ترسخ الذكريات — كفكرة علمية — لها مستقبل واعد. تشير شيلر إلى أنها عندما بدأت في حضور الاجتماع السنوي الضخم لجمعية العلوم العصبية لأول مرة منذ عقد مضى، شعرت أنها سعيدة الحظ لأنها رأت ملصقًا وحيدًا عن نظرية إعادة الترسخ. وتقول شيلر: «الآن، تحتل ملصقات النظرية ممرات بأكملها داخل صالة العرض.»

والأهم من ذلك أن عمل شيلر سرعان ما تكرر وأُضيف عليه. فقد أكد توماس أجرين وزملاؤه بجامعة أوبسالا في السويد العام الماضي أن إعاقة عملية إعادة الترسخ عندما يعيد البشر تنشيط ذاكرة الخوف تلغي بفعالية الأثر المخيف لهذه الذكرى؛ كما بينت المجموعة من خلال رسم المخ للمتطوعين أن اللوزة الدماغية كانت موضع الذكرى التي جرى تغييرها. كما أبلغ يان شِوا شِوا من جامعة بكين في بكين وزملاؤه العام الماضي أنهم استخدموا طرقًا غير دوائية للتلاعب في الذاكرة لمساعدة مدمني الهيروين على إعادة صياغة ربطهم بين الإشارات البيئية وتوقهم الشديد إلى المخدر؛ وذكر الباحثون أن أثر هذه العملية دام على الأقل لمدة ستة أشهر — وهي طول مدة الدراسة.

منذ الانتقال شمالًا من جامعة نيويورك إلى ماونت سايناي في عام ٢٠١٠، شرعت شيلر في إجراء مجموعة جديدة من التجارب لاستكشاف القدرة الإكلينيكية لعملية إعادة ترسخ الذكريات. وهذا يفسر جزئيًّا سبب مشاركتها لمكتبها الواقع في الدور التاسع مع عنكبوت من فصيلة رتيلاء، والذي يقبع في قفص تحت مكتب شيلر. يؤدي العنكبوت — الذي يسمى ويب ٢٫٠ (أطلق هذا الاسم عليه من قبل أحد أفراد مجموعة شيلر البحثية، وهو كاتب سابق في «ساترداي نايت لايف») — دورًا في التجارب القائمة لمنع رهاب العناكب لدى البشر بدون عقاقير.

تقول شيلر: «إننا ندرس الآليات العصبية لعملية إعادة الترسخ.» تلك الآليات — على مستوى التشابك العصبي ومستوى المخ بالكامل — مفهومة جيدًا في الحيوانات، ولكن دراستها لدى البشر ليست على القدر نفسه من السهولة. تواصل شيلر قائلة: «ثمة أمران أساسيان يمكن القيام بهما؛ الأول إجراء الدراسات الدوائية، بينما الأمر الثاني هو إلقاء نظرة على وظائف المخ في صورة بالرنين المغناطيسي بينما يُحدِّث الأشخاص ذكرياتهم.» وهم يأملون أن يتمكنوا من نشر نتائج على كلا الجبهتين في المستقبل القريب.

إن إعادة تكوين الذكريات له قدرة علاجية كبيرة. فإعطاء الأشخاص عقاقير مثل البروبرانولول خلال ساعات من المرور بتجربة صادمة قد يعدل الأثر العاطفي طويل المدى لذكرى هذا الحادث أو يقلله إلى الحد الأدنى. لكن إن لم يكن هذا ممكنًا، فقد تُعدَّل الذكرى لاحقًا، عندما تُسترجع الذكرى في سياق آمن غير مؤذٍ. ذكر كل من روجر بيتمان من كلية الطب بجامعة هارفرد، وكريم نادر (يعمل الآن بجامعة ماكجيل)، وزملاؤهما أن إعطاء عقار البروبرانولول للأشخاص أثناء تذكرهم لتجربة صادمة يمكن أن يوهن الأثر العاطفي للذكرى، مما يبثُّ الأمل في إمكانية علاج اضطرابات التوتر مثل علاج اضطراب توتر ما بعد الصدمة. ترى شيلر أن هذا الأمر واعد للغاية، فتقول: «إذا ما فقدت فرصة التدخل خلال ساعات قليلة من وقوع الحادث، ستظل لديك فرص أخرى للتدخل.»

بصورة ما، يعتبر الأثر الثقافي المحتمل والنتائج على المستوى الشخصي لعملية إعادة الترسخ أكثر إثارة للدهشة؛ فلو طبقنا النظرية إلى الحد الأقصى — إذا كنا جميعًا نعيد كتابة ذكرياتنا كلما استعدناها — فإن هذا يعني أن الذكرى ليست مثل ملف محفوظ في المخ، وإنما هي آخر نسخة منقحة من سيناريو بعينه. فكل مذكرة ما هي إلا قصة مزيفة، والماضي ليس إلا آخر رواية رويناها لأحداثه. تختلط بيانات الذاكرة الأرشيفية بأية معلومات جديدة تساعد على تشكيل الطريقة التي نفكر — ونشعر — بها إزاءها. تقول شيلر: «الاستنتاج الذي خلصتُ إليه هو أن الذكرى ما هي إلا انعكاس لما أنت عليه الآن. ليس بالصور ولا بالتسجيلات، وإنما ذاكرتك هي ما أنت عليه الآن.»

في رأي شيلر، آنذاك، لا يكمن سر الاحتفاظ بالذكرى في تخليق البروتين في التشابكات العصبية للمخ أو حركة الأعصاب جيئة وذهابًا من منطقة الحصين إلى مناطق المخ المختلفة؛ وإنما تعتقد أن الذكرى تُحفَظ في شكل قصة تجمع التفاصيل المادية والعاطفية لحدث ما وتنقحها وتثبتها. تقول شيلر: «الطريقة الوحيدة لتجميد ذكرى هي صياغتها في شكل قصة.» وهو ما يعيدنا أخيرًا إلى حالة والدها.

حين روت شيلر قصة يوم ذكرى الهولوكوست في مؤسسة موث في عام ٢٠١٠، افترضت أن صافرات الإنذار قامت بوظيفة ما يطلق عليه علماء النفس «المثير الشرطي»؛ أي إشارة حسية — كما في تجربة بافلوف — تثير ذكرى مؤلمة. وفي ضوء عملها على إعادة ترسخ الذكريات، بدأت شيلر تفكر في أنه بجلوس والدها إلى طاولة المطبخ يرشف قهوته، فإنه كان يعيد كتابة ذكرياته المؤلمة من خلال ربطها بنشاط ممتع.

ولكن حتى قصتها الشخصية حول الذكريات — مثل الذكريات نفسها — بدأت في تحديث نفسها؛ ففي السنة الماضية، بدأ والد شيلر — للمرة الأولى — يتحدث بإيجاز عن سنوات مراهقته؛ عن الإيثار الذي تميزت به والدته وخاله في وقت حرمان وفقر شديدين، والأهم من كل ذلك عن علاقته الوطيدة بأخته الصغيرة التي هلكت في الهولوكوست. وتشك شيلر الآن أن رفض والدها لتذكر تلك الأحداث الصادمة ما هو إلا وسيلة لحماية وحفظ ذكريات جميلة جدًّا لا يرغب في إعادة صياغتها أبدًا والمخاطرة بفقدان قوتها.

منذ ذلك الحين، عاد الأب وابنته إلى محادثاتهما المعتادة عن الهولوكوست التي لا تتجاوز ثلاث كلمات. تقول شيلر: «لأنها ذكريات غالية جدًّا، فإنك لا تريد تغييرها. فالذكريات الأكثر أمانًا هي تلك التي لا تتذكرها أبدًا.»

06 Ara, 2015 07:57:28 PM
1