Ana içeriğe atla

طول العمر.. بين الأمل والعلم!

لم يعرف الإنسان همّاً قطّ كهمّ الموت، ولم يعرف أملاً قطّ كطول العمر، ولم ينشغل منذ أول وعيه إلى حين وفاته بشيء مثل البقاء، ولم تخطر بباله فكرة مثل فكرة الخلود، ولم ينبهر بشيء مثل انبهاره بأسطورة إكسير الحياة! إنه الإنسان، بكل آماله وأمانيه وأحلامه وأوهامه وخيالاته يسعى لإيجاد ما يجعله دائم الشباب والنشاط، خالياً من الأمراض والعاهات، سالماً من كل آفة، قوياً، صلباً، لا يهدده ضعف ولا سقم ولا زوال! إنه الإنسان، لا يتورع عن فعل أي شيء، ولا يقف عند أي حدّ، ولا يرتضي بأي ثمن، حتى يجد ما يشبع رغباته ونزواته ويحقق أمانيه وأحلامه ويزيل همومه وآلامه ويلاقي ضالته القديمة المتجددة دوماً: البقاء خالداً إلى ما لا نهاية!

ظنّ الإنسان، في البدء، أن هناك سرّاً ما أو أن هناك وسيلة ما أو أن هناك شراباً أو طعاماً أو نباتاً أو خلطة سحرية تفعل فعلها فيطول العمر ويعود الشباب ويتجدد النشاط ويبتعد الموت! وصار يبحث عن أي شيء في غذائه أو في تجاربه الشخصية أو في ذاكرة آبائه وأجداده أو في تراثه وثقافته عما يلبي طموحه هذا ويحقق رغبته الملحة ويتخلص من همّ الضعف والشيخوخة والفناء!

لم يصل الإنسان إلى ما يشتهيه ولم يحقق ما يصبو إليه وصار ينتقل من تجربة إلى تجربة ومن محاولة إلى محاولة إلى أن ظهرت خلال متابعته وملاحقته للمستجدات والتطورات العلمية بعض الملاحظات التي أوحت إليه وأبرزت لديه بعض الدلائل على وجود نوعيات نموذجية من الأنظمة الغذائية والرياضية والنفسية والبيئية يمكن أن تساعد على إطالة العمر أو تأخير الوفاة، عبر تفادي بعض الأمراض القاتلة أو الوقاية منها ومن آثارها، كتصلب الشرايين والسرطان وأمراض القلب والدماغ والكبد وغيرها.

وهكذا أخذ يشحذ الهمم ويضاعف الجهود والآمال لوضع مخطط أولي لما يمكن أن يمثل الطريق الأسرع لإيجاد «إكسير» الحياة، عبر جمع الغذاء الأمثل بالنشاط البدني الأمثل والراحة النفسية المثلى والهوية الجينية المثلى والبيئة الطبيعية المثلى.

وساعده على ذلك اكتشافه شيئاً فشيئاً ويوماً بعد يوم لبعض الارتباطات والعلائق والنظم كالخريطة الجينية للإنسان وبيولوجيا الأمراض الجزيئية ومنظومات جهاز المناعة وعلاقة بعض الأمراض والعاهات والعلل والاضطرابات ببعض أنواع الخلل الجيني.

كما راح الإنسان يكتشف خواص بعض النباتات والحبوب والفاكهة والخضار في محاربة ومقاومة الأمراض أو الوقاية منها وصار يعتمد على تناولها بشكل دائم أو دوري ليستفيد من خصائصها ومعادنها وفيتاميناتها، كالتوت البري وملفوف البروكولي والشوفان وفاكهة الكيوي وسمك السلمون وغيرها.

وحصل ما لم يكن في الحسبان إذ توقفت الأنفاس، فجأة، عند مفاجأة كبرى سّميت بـ«موت الخلايا المبرمج» أفرزتها الأبحاث المتعلقة بحياة الخلايا وعمرها وعملها وبّينت أن هناك «برامج» موضوعة في الخلايا تعطيها الأمر أو الإذن أو الإشارة بإنهاء حياتها حسب ما تقتضيه الظروف والمصالح والأقدار! وظهرت في الأفق مفاهيم جديدة مدعومة بالبراهين العلمية والتجارب والدراسات تقدّم الحياة البشرية، كمثيلتيها في الخلق أي الحياة الحيوانية والحياة النباتية، على أنها «مؤقتة» و«مبرمجة» و«مقدّرة» مما يعني أنها مرتبطة بــ«أجلٍ» ما أو أنها «مقدّر» لها أن تنتهي في زمن «مبرمج» أو «محدد» أو «معين»، منذ البداية و حتى النهاية!.

وهكذا ومن دون مقدمات صار من المعروف علمياً والمثبت تجريبياً، في وقتنا الحالي، أن الخلايا تموت بعد تعرضها لعاملين محددين:

أولاً: تلقي ضربات خارجية أو عوامل ضارة تقتل الخلية.

ثانياً: تلقي أوامر داخلية مطالبة بالموت الذاتي أو الموت المبرمج.

تواجه الخلية الموت في هاتين الحالتين بشكل مختلف تماماً وبطريقة مغايرة جداً، ففي الحالة الأولى تمر الخلية بتغيرات تتضخم فيها شيئاً فشيئاً حتى تنفجر ويتسبب انفجارها بجر خلايا المناعة الآكلة إلى مكان تواجدها والقضاء عليها وعلى بقاياها.

أما في الحالة الثانية وهي الأكثر غرابة ودقة وإعجازاً، فإن حجم الخلية يصغر بشكل بارز وتتراكم مكونات النواة على بعضها البعض، ثم تظهر فيها شقوق تتحول إلى أجسام صغيرة ميتة مبعثرة لا تجذب إليها خلايا المناعة لتتولى القضاء عليها - كما في الحالة الأولى - بل تقوم هي بإماتة نفسها أو بالتعرض لما يصفه الباحثون بالانتحار المبرمج للخلايا.

تحدث ظاهرة الموت الخلوي المبرمج في كثير من الحالات والأوضاع الحساسة التي يحتاج فيها الجسم إلى تغيرات كبيرة وحاسمة في النمو العضوي أو في عمل الأنسجة وعمليات الأجهزة الدقيقة، إما لإحداث تسريع أو تكثيف في عملها أو لإحداث تراجع أو ضمور فيها حسب ما تستدعيه الظروف والأوضاع.

وتتجلى ظاهرة الموت الخلوي المبرمج بكل مظاهرها المتعددة في مشاهد متنوعة ومختلفة، تتعدد فيها الأسباب من حالة إلى حالة ومن ظرف إلى ظرف على امتداد السنين والمراحل من عمر الإنسان حتى تتحقق الأهداف الكامنة من وراء ذلك بشكل دقيق ومتوازن ومتناسق من دون زيادة أو نقصان. وتبرز أهمية هذه الظاهرة في بعض الأمور الفسيولوجية المصيرية والعوامل التكوينية الأساسية والتغيرات الظرفية التالية:

ــ إزالة الأنسجة والخلايا الزائدة في أطراف وأعضاء الجنين لإعطائها الشكل النهائي المعروف، كاندثار الأنسجة والخلايا الزائدة بين أصابع اليدين والرجلين عند الجنين قبل ظهور شكلها المعروف وأعدادها الخماسية النهائية.

ــ إزالة الأنسجة التابعة لغشاء بطانة الرحم الداخلية عند وصول المرأة البالغة إلى مرحلة الطمث من الدورة الشهرية.

ــ إزالة الحواجز الناشئة عن وجود خلايا زائدة بين الخلايا العصبية في الدماغ لتسهيل عمليات الاتصال فيما بينها.

ــ تحفيز ضمور الغدد الثديية عند الأم المرضع بعد بلوغ مرحلة الفطام والحاجة لعودة الأنسجة لحالتها الأولى وحجمها الطبيعي.

ــ تحفيز الانتحار الخلوي عند خلايا بعض الأورام السرطانية في بعض الحالات والظروف.

ــ إصدار الأوامر الداخلية بالانتحار أو الموت المبرمج لخلايا المناعة بعد تأدية مهماتها الوظيفية أو لمنعها من مهاجمة أجهزة وأنسجة الجسم الداخلية.

ــ الإسهام في ضبط عمليات تسريع تكاثر الخلايا في الأنسجة حسب الظروف والحاجيات وحسب تطلبات الجسم، خاصة في المناطق الخاضعة لسيطرة الهرمونات..

ــ تحفيز انتحار الخلايا المصابة ببعض أنواع التلوث الفيروسي وذلك للحد من انتشار المرض.

ــ تحفيز موت الخلايا المصابة بآثار رفض الأنسجة المزروعة وذلك لمنع التلف الناتج عن انتشارها.

ــ تحفيز موت بعض أنواع الخلايا المصابة بتأثيرات مرضية معينة كالتأثيرات السرطانية وذلك بعد تعرضها لبعض الإشعاعات أو الأدوية الخاصة أو بعض درجات الحرارة.

ــ تحفيز موت الخلايا المصابة بأعطال أو أضرار في أحماضها النووية لتفادي حصول تشوهات خلقية أو تكاثر سرطاني

بدأ الإنسان، حالياً، بإعادة الحسابات مع أبحاثه ودراساته واكتشافاته العلمية والتجريبية وأخذ يبادر إلى إجراء التعديلات على مفاهيمه ومعتقداته العلمية حول الحياة والموت وفكرة الخلود في هذه الدنيا أصبح يقرّ بعجزه عن تغيير المسار الذي ُرسم له منذ البداية وحتى النهاية بتقدير محكم وبحكمة بالغة وقوة خارقة لا تنفك رموزها إلا لكي تظهر براعة وجمال وإبداع ولطف خالقها!

24 Haz, 2017 11:59:44 AM
1