الماء القاتل حضورا وغيابا
من أصل السنوات الـ17 الأكثر دفئاً تاريخياً، حدثت 16 منها منذ العام 2001! وكذلك صارت الفترات غير المطيرة تحدث في المواسم التي يتوقع هطول أمطار فيها. ويساهم انحباس المطر في اندلاع حرائق كوارثية في الغابات، كتلك التي اجتاحت كاليفورنيا في 2017.
في المقابل، ضربت الولايات المتحدة 3 إعصارات متوالية في مطلع 2017 («هارفي» و «هوغو» و «ماريا»)، وكانت كلها محملة بكميات فائضة من المياه التي تبخرت من المحيطات تحت تأثير الاحتباس الحراري المتفاقم.
وضمن مشاهد كوارثية عدة، غرقت مدينة كوزموبوليتية ضخمة (هي «هيوستن») تحت مياه أمطار مفاجئة، وانهارت البنية التحتية فيها كلياً. والأرجح أن ذلك يعطي نموذجاً عن كارثة مدنية ربما لا تحضر في أذهان كثيرة، لأن البينة التحتية للمدن والدول المعاصرة تشمل الطرق وشبكات الصرف الصحي والسكك الحديديّة وشبكات الكهرباء والاتصالات السلكية واللاسلكية، بما فيها شبكات الخليوي والإنترنت.
وبلغت كلفة المالية للأعاصير الثلاثة السابقة الذكر، قرابة 300 بليون دولار. الأهم أنها أخرجت ملايين الأميركيين من العصر الحديث تحت تأثير انهيار البنية التحتية. وفي «بورتو ريكو» عاد 3.5 أميركي إلى عصر ما قبل الصناعة، بانقطاع الكهرباء عنهم شهوراً، بل أن بلدات في تلك الولاية لم تعد إليها الكهرباء حتى الآن! وطري في الذاكرة ذلك السجال القاسي الذي دار في المؤسسة السياسية الأميركية، كما في الاعلام العام بأنواعه كلها، عن بطء الرئيس دونالد ترامب في الاستجابة لحال الطوارئ البيئيّة في «بورتوريكو». وطاول النقاش مجمل آراء ترامب حيال المناخ، خصوصاً أنه معروف بعدم تصديقه العلاقة بين نشاطات البشر وتفاقم الاحتباس الحراري، وهو ما برر به سحبه توقيع أميركا على «اتفاق باريس للمناخ- 2015».
في تلك السنة عينها، هدّد ترامب نظيره الكوري الشمالي كيم جونغ أون بأن القدرة الأميركية النووية كفيلة بأعادة التاريخ إلى الوراء في كوريا الشمالية. لم تغرد «ثلاثية الأعاصير» على «تويتر» بتهديدات من ذلك النوع، لكنها أعادت ملايين الأميركيين إلى الوراء في الزمن... حرفيًاً!
وفي سياق متصل بعلاقة السياسة مع المناخ، ثمة مجال للتذكير بأن أميركا لا تزال رسمياً منضوية تحت إطار «إتفاق باريس» لأن سريان الانسحاب الترامبي منها يستغرق ولايته بأكملها. وفي العام 2020، تنتخب الولايات المتحدة رئيساً، وتكون المؤسسة السياسية الأميركية أمام لحظة حاسمة: إما يستمر الرئيس الجديد في سياسة سلفه ترامب (ربما يعاد انتخابه أيضاً)، أو ينتقل إلى الضفة الأخرى، ويعيد لأميركا مكانها في قيادة جهود مكافحة الاضطراب في المناخ. وفي الصورة عينها، وبعيد انسحاب ترامب من «اتفاق باريس»، أعلنت الصين وروسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا أنها ستزيد جهودها كي تعوّض الغياب الأميركي.
وهناك ولايات في أميركا لم توافق على سياسة ترامب في المناخ، بل استعملت صلاحياتها الدستورية لترسم لنفسها مساراً مغايراً، يكون أكثر انسجاماً مع بقية دول العالم. ونظّم مايكل بلومبرغ، عمدة مدينة نيويورك، ائتلافاً بيئياً شعاره «ما زلنا فيه» (إشارة إلى الإتفاق الباريسي) We Are Still In. وضمّ الائتلاف ما يزيد على 2650 شخصية أميركية قيادية، تستطيع إذا وفت بتعهداتها تغطية ما يزيد على 60 في المئة مما التزمته أميركا في «إتفاق باريس».
وفي الخريف المقبل، تستضيف مدينة «سان فرانسيسكو» في ولاية كاليفورنيا مؤتمراً دولياً للمناخ، مع الإشارة إلى أن اقتصاد تلك الولاية يحتل المرتبة الخامسة عالمياً. وكذلك يلفت أن كاليفورنيا هي أيضاً مقر «وادي السيليكون» الذي يضم عمالقة من شركات المعلوماتية كـ «آلفابيت» («غوغل» سابقاً) منضوية في ذلك الإئتلاف البيئي. ويعرف عن «آلفابيت» أنها منخرطة أيضاً في مشاريع علمية ولوجستية عن الطاقة البديلة، ما يزيد أهمية حضورها المؤتمر الكاليفورني. ويعطي ذلك نموذجاً عن معطىً مهم في البيئة، يتمثل في أن حلول مشاكلها يقتضي تعاون الأقطاب الكبار في النظام الدولي، إضافة إلى أطراف فاعلة متنوعة تمتد من الشركات العملاقة مروراً بالقطاع الخاص والمجتمع المدني، ووصولاً إلى الأفراد المهتمين بترك تأثير إيجابي على البيئة.