Salta al contenuto principale
«جون سيرل» عالم من النشوة العقلية

«جون سيرل» عالم من النشوة العقلية

 

تتميز الفلسفة التحليلية التي تبناها الفيلسوف الأمريكي جون سيرل، بجملة من الخصائص منها مركزية اللغة بالنسبة للفلسفة؛ إذ يعتقد الفلاسفة التحليليون أن قضايا الفلسفة، يمكن فهمها فهماً جيداً عن طريق العناية باللغة، وهذا الاتجاه نحو الاهتمام باللغة أصبح يسمى في العرف الفلسفي «التحول اللغوي» ففي السبعينات من القرن الماضي خرج الفيلسوف الأمريكي جون سيرل، بفلسفة لغوية تركز على المعنى وأفعال الكلام.
وأخذ «سيرل» منذ ذلك الحين يلفت الأنظار إلى دراسة العقل، التي ترد الاعتبار لمفاهيم مثل الوعي والقصدية، بعد أن كانت النزعات المادية قد استبعدتها من الفلسفة وعلم النفس، وفي أواخر القرن العشرين قدم نظرية أصيلة حول المؤسسات، وأعاد إحياء مناقشة أنطولوجيا الواقع الاجتماعي، وفي مطلع القرن الحالي قدم دراسات عميقة في العقلانية وحرية الإرادة.
وتأتي إسهاماته في ثلاثة مجالات: فلسفة اللغة وفلسفة العقل وفلسفة المجتمع، كما يفضل أن يسميها، وترتبط أفكاره في هذه المجالات بعلوم أخرى، ففي فلسفة اللغة تتصل نظرياته بعلم اللغة عامة، وعلم الدلالة وأفعال الكلام خاصة، وفي فلسفة العقل ترتبط أفكاره بالعلم المعرفي والذكاء الاصطناعي وعلم النفس، وفي فلسفة المجتمع تتصل أفكاره بعلم الاجتماع وعلم السياسة.
ولد سيرل في 31 يوليو 1932 ونشأ بين أبوين قاما على العناية به، فكان والده مهندساً كهربائياً، وأمه طبيبة، وعاش معهما حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، ولم تكد الحرب العالمية الثانية تشتعل، حتى تفرق الأمريكيون في أنحاء الولايات المتحدة، فانتقلت أسرته بين نيويورك ونيوجرسي وويسكنسون.
في نيويورك التحق بمدرسة تجريبية، كانت تديرها جامعة كولومبيا، وكانت معروفة بمستواها العلمي والتربوي الرفيع، وتركت أثراً في تكوينه العقلي، غير أن القدر لم يمهله لاستكمال تعليمه في تلك المدرسة، فقد أصيبت أمه بعدوى من أحد مرضاها، وماتت في اليوم الذي ألقيت فيه القنبلة الذرية على هيروشيما، وكان وقتها قد جاوز الثالثة عشرة من عمره.
قضى سيرل ثلاث سنوات في جامعة ويسكنسون، وكان أثناء دراسته الجامعية في الجامعة أمين سر مجموعة «طلاب ضد جوزيف مكارثي» وقبل أن ينهي دراسته بها حصل على منحة من جامعة أكسفورد، وهناك أخبروه بأنه يتعين عليه أن يبدأ الطريق من أوله، وبدأ الدراسة في خريف 1952 واختار موضوع التخصص مجموعة تضم الفلسفة والسياسة والاقتصاد، على الرغم من أن الفلسفة بدت له صعبة الفهم في كثير من جوانبها.
وعندما استهل الدراسة في أكسفورد انفتح أمامه عالم جديد من النشوة العقلية، ليس لها حدود، كأنما كان يبدأ صفحة جديدة، وهناك التقى بثلاثة من أبرز فلاسفة أكسفورد: جون أوستن، وجلبرت رايل، وبيتر ستراوسون، وكان من بين الطلاب النابهين آنذاك: تشارلز تايلور، وديفيد فيجنس.
في سنته الثانية في أكسفورد ذهب سيرل إلى محاضرات أوستن، وكانت تدور حول أفعال الكلام، لكنه لم يتفاعل معها، وإنما بدت له مضجرة، إلى درجة أنه لم يستطع معها صبراً، وسرعان ما توقف عن حضورها، وبدت له مملة، حتى أنه لم يخطر بباله وقتئذ أن موضوعها سيكون يوماً ما مجال اختصاصه، وسيكون مجال إسهامه الأبرز في فلسفة اللغة.
*أفعال الكلام
كان تأثير أوستن في سيرل كبيراً، حتى أنه قال: «أنا مدين لهذا الفيلسوف من الناحيتين العلمية والشخصية على حد سواء، لقد أثر فيّ تأثيراً أعظم بكثير مما أدركته، قدمني إلى زوجتي وكانت قادمة من أستراليا، ومنحني وظيفتي الأولى في بركلي، ونفخ من روحه في كتابي الأول «أفعال الكلام» وعندما كان على قيد الحياة لم أعتبر نفسي أبداً تابعاً له بأي معنى، واعتقدت بأنني أستطيع أن أتفوق عليه».
وكان أول أستاذ دائم ينضم إلى حركة حرية التعبير وفي عام 1969، وأثناء عمله كرئيس للجنة الحرية الأكاديمية التابعة لمجلس الشيوخ الأكاديمي في جامعة كاليفورنيا، أيد الجامعة في نزاعها مع الطلاب على حديقة الشعب وفي كتابه «في حرب الحرم الجامعي» نظرة متعاطفة للجامعة في العذاب، حقق في الأسباب الكامنة وراء احتجاجات الحرم الجامعي في تلك الحقبة، وقال: تعرضت للهجوم من قبل لجنة الأنشطة غير الأمريكية في مجلس النواب والعديد من المجادلين المتطرفين، من الناحية الشكلية، فإن الهجمات من كلا الطرفين متشابهة بشكلِ مثير للاهتمام، وأكد «تعرضت زوجتي للتهديد بأنني سيتم اغتيالي أو مهاجمتي بعنف».
قضى سيرل سبع سنوات في أكسفورد وفي عام 1959 عاد إلى جامعة كاليفورنيا ليرتقي فيها حتى حصل على الأستاذية سنة 1967 ولا يزال يعمل بها حتى الآن، وقد منحته جائزة التدريس المتميز عام 1999 واختارته مجلات علمية رفيعة المستوى ليكون ضمن الهيئة الاستشارية لها، وعمل أستاذاً زائراً في معظم جامعات العالم، وترجمت كتبه إلى ما يزيد على عشرين لغة، ومؤلفاته– كما يرى النقاد والمتخصصون- مكتوبة بلغة صافية العبارة، مستقيمة البناء، واضحة الدلالة، وهي فوق هذا كله تجمع بين الرقة والرصانة، بين العذوبة والجزالة، بين طرافة الأفكار وجدة النظريات.

 

 

المصدر: الخليج

06 Dic, 2020 05:12:30 PM
0