Salta al contenuto principale

الحركة الإنسانية بين الماضي والحاضر

يتأمل ديفيد راندل الوضع الراهن للعلوم الإنسانية، ويتساءل عما إذا كنا نستطيع استعادة الثقة والطموح الثقافي الواسع الذي ميَّز «الدراسات الإنسانية» في عصر النهضة، التي سعت إلى تعريف معنى الإنسانية.

 عندما يتأمَّل المؤرِّخون العقلانيون العقود الأولى من هذا القرن، سيلحظون وجود توجُّهٍ شاعَ بين أساتذة الدراسات الإنسانية لتحليل الفائدة الاجتماعية لموضوعاتهم تحليلًا دقيقًا، وسوف يستشهدون بكتاب «قيمة الدراسات الإنسانية» (٢٠١٣) للكاتبة هيلين سمول، أو كتاب «القيمة العامة للدراسات الإنسانية» (٢٠١١) الذي حرَّره جوناثان بيت، وسوف يناقشون، من منطلق قلقهم مما اعتبروه بيئةً عدائيَّةً في ظل مختلف الأنظمة، كيف اجتمع الأساتذة الأكاديميون حولها مثلما يلتف الأشخاص حول مريض يُحتضَر. ومع ذلك، لا ينصح بإجراء التحليل الدقيق لشيءٍ ما إلا بعد احتضاره. وقد يستطيع مؤرخو المستقبل هؤلاء أن يخبرونا عما إذا كانت الدراسات الإنسانية في عام ٢٠١٤ تقريبًا حالة ميئوس منها، أم أنها كانت هالكة بالفعل.

جزء من رسم «جبل بارناسوس» للرسام رافاييل، يُظهر دانتي وهوميروس وفيرجيل، ١٥١٠-١٥١١.

جزء من رسم «جبل بارناسوس» للرسام رافاييل، يُظهر دانتي وهوميروس وفيرجيل، ١٥١٠-١٥١١.

هؤلاء المؤرخون أنفسهم قد يُصنِّفون ذلك التوجُّه الشائع ضمن التوجهات الطويلة الأمد، وقد يذكرون أن مصطلح «الإنسانيات» بدأ استخدامه على نطاق واسع في منتصف القرن العشرين، لكن يمكن أن ترجع أصوله قبل ذلك بوقت طويل. قال فرانسيس بيكون في عام ١٦٠٥: إنه «في الفلسفة من الممكن أن تُبحِر تأملاتُ الإنسان في الإله، أو أن تدور حول الطبيعة، أو أن ترتد إلى نفسه. ومنها تنشأ ثلاثة أنواع من المعارف؛ هي: الفلسفة الإلهية، والفلسفة الطبيعية، والفلسفة الإنسانية.» وفي هذا الشأن، ارتكز فرانسيس بيكون على نمط ميَّز مجموعة من الموضوعات باعتبارها دراساتٍ تسعى إلى تعريف ما تنطوي عليه الإنسانية من معانٍ أو دراسات إنسانية. استخدم شيشرون هذه العبارة الاصطلاحية، غير أنه أُعيد اكتشافها فقط على يد بترارك في منتصف القرن الرابع عشر، وأعيد إحياؤها كمفهوم تعريفي بعد ذلك بجيلين، وكان أبرز المؤيدين لهذا المفهوم ليوناردو بروني (١٣٧٠–١٤٤٤)، الذي أصبح وزيرَ فلورنسا الأول في وقت لاحق. وذلك الرجل كان محلَّ دراسة جيدة قام بها مؤخرًا جيمس هانكينز في مجموعة من الأعمال، وكذلك في كتاب «كتابة التاريخ في إيطاليا إبان عصر النهضة» (٢٠١٢)، للكاتب جاري إيانزيتي. في مناقشة بالغة الأهمية، تناولتِ «الحركة الإنسانية» منذ خمسينيات القرن العشرين، تتبَّع بول أوسكار كريستلر كيف أصبحت الدراسات الإنسانية منهجًا محدَّدًا يضم خمس مواد؛ هي: النحو والبلاغة والشعر والتاريخ وفلسفة الأخلاق. ومن هذا المصطلح اشتُقَّ الوصف «عالم إنسانيات»؛ للدلالة على من يقوم بتدريس هذه الموضوعات. وأشار كريستلر أيضًا إلى أن المصطلح المفاهيمي «الحركة الإنسانية» لم يكن له مكان في قاموس مفردات ما نسمِّيه عصر النهضة، بل نشأ في ألمانيا في عام ١٨٠٨، من أجل تعريف برنامج تعليمي يقوم على تقديرٍ للكلاسيكية القديمة. وفي نمطٍ يعود إلى القرن التاسع عشر تفحَّصه ياكوب بوركهارت في كتابه الصادر في عام ١٨٦٠ الذي يحمل عنوان «حضارة عصر النهضة في إيطاليا»، أصبح يُنظر إلى الحركة الإنسانية باعتبارها فلسفةَ عصر النهضة. وكان كريستلر معارضًا لهذا التفسير الخاطئ.

وبالطبع كان لمصطلح «الحركة الإنسانية» مسيرةٌ مميزة، كما جاء تفسيره المؤاتي في دراسة استقصائية حول هذا المفهوم قام بها توني ديفيس عام ١٩٩٧. وعلى الرغم من أن كريستلر كان محقًّا في كل ما قاله؛ فقد وجد الكثيرون أن تعريفه كان ضيِّقًا على نحو مزعج. وفي أعمال مثل كتاب «أثر الحركة الإنسانية على أوروبا الغربية»، الذي حرَّره أنتوني جودمان وأنجس ماكاي (١٩٩٠)، استُخدم معنًى أكثر شمولًا جعل الحركة الإنسانية تعني احترامًا للكلاسيكية القديمة وللدروس التي يمكن استخلاصها منها. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن مصطلحات عصر النهضة لم تكن محدَّدة وواضحة كما يمكن أن يوحي أيُّ استعراض سريع. وفي إسهام رائع لسلسلة كتب «إي تاتِّي» للمُؤلَّفات اللاتينية في عصر النهضة (مطبعة جامعة هارفرد) — التي تحذو حذو مكتبة «لوب» لمُؤلَّفات العهد الكلاسيكي؛ من تقديم نصٍّ مترجَم موازٍ للنص الأصلي في كتب ذات غلاف مُقوًّى منخفضة التكلفة — تضم مجموعة كريج كاليندورف، التي تحمل عنوان «الأطروحات التعليمية للحركة الإنسانية» (٢٠٠٢)، الأطروحةَ الأكثر رواجًا في القرن الخامس عشر؛ وهي أطروحةُ متَّبِع مذهب الإنسانية الإستيري (كرواتيا المعاصرة) بير باولو فيرجيريو. وفي هذه الأطروحة، لم يتحدث فيرجيريو مطلقًا عن «الدراسات الإنسانية»، بل فضَّل استخدام مصطلحات تقليدية مثل «الآداب الجيدة» أو «الدراسات الحرة».

من ثم؛ فإن الإنسانية في عصر النهضة لم تكن فلسفة، على الرغم من أن دراسة الفلسفة كانت جزءًا من برنامجها، كما أنها لم تكن ببساطة من بين المناهج التي تدرس في القاعات الدراسية، لكنها كانت تقدر نوعًا معينًا من التعليم. إن وريث ذلك النمط ليس الدراسات الإنسانية كما نعرفها، بل الشكل المعاصر للمعرفة لدينا. وفي وسط أزمتنا الخاصة، هل تحمل لنا قصة نجاح التعليم الإنساني أي دروس مستفادة؟

لعل أحد هذه الدروس هو أنه لم يحقِّق انتصارًا كبيرًا كما صُوِّر لنا في بعض الأحيان. وبعض الدراسات الحديثة مثل كتاب بول جريندلر «جامعات عصر النهضة الإيطالية» (٢٠٠٢)، يقدِّم سردًا ملحميًّا يُصوِّر كيف أطاحت الحركة الإنسانية بكل شيء في هجوم فكري مباغت. إلا أنه عند استعراض روبرت بلاك لذلك الكتاب، أوضح كيف كان تغلغُل «الدراسات الإنسانية» في التعليم العالي محدودًا حتى في إيطاليا نفسها. أما في البلدان الأخرى، فغالبًا ما تتمثَّل القصة التي تُردَّد في مقاومة المؤسسات الفكرية المنعزلة، واضطرار أتباع الحركة الإنسانية في ألمانيا أو في إنجلترا إلى محاصرة قلاع التعليم قبل فرض سيطرتهم عليها. وهذه قصة رواها أتباع الحركة الإنسانية أنفسهم لخدمة مصالحهم الشخصية مستعينين ببلاغتهم الخطابية، التي ركَّزت على تضخيم التحديات التي واجهوها؛ ومن ثمَّ تضخيم الإنجازات التي حقَّقوها. لقد قدَّموا أنفسهم كأشخاص جديرين بأن ينتموا إلى الدوائر الأكاديمية العليا، لكن كان ثمة شيءٌ من صفات الدخلاء المألوفة — الثقافة المعارِضة والمضادة — ظهر في برنامج أتباع الحركة الإنسانية.

باختصار، لم تكن الجامعة مكانًا مريحًا للحركة الإنسانية. ومن وجهة نظر باحث مثل ليوناردو بروني، قدَّمت «الدراسات الإنسانية» تعليمًا عمليًّا أكثر من أي دورة أكاديمية قائمة. ليس عمليًّا، في جوهر الأمر، من ناحية خلق الثروات (على الرغم من أن ذلك نادرًا ما كان بعيدًا عن فكرهم)، لكنه كان عمليًّا في قدرته على مساعدة الرجال والنساء على إدراك قدراتهم وقدرات مجتمعهم، من خلال تحسين قدرتهم على التفكير والتواصل والإقناع. لقد كانت الدراسات الإنسانية تُمثِّل تعليمًا أهم من أن يكون مقصورًا على قاعات الدروس. ربما نتشكَّك في الخطاب المبالغ فيه، كما فعل أنتوني جرافتون وليزا جاردين، في كتاب «من الإنسانية إلى الدراسات الإنسانية» (١٩٨٦)، زاعمَيْنِ أن المنهج علَّم الإذعان أمام السلطة، إلا أنه يُمكننا أيضًا أن نتساءل — حين ندافع عن مكانة الدراسات الإنسانية في الوسط الأكاديمي: هل نحن مُدانون بأننا ببساطة شديدو الحساسية أمام النقد؟ هل يمكننا استعادة روح الثقة والطموح الثقافي العريض التي ميزت أسلافنا في عصر النهضة؟ إذا استعدناها؛ فربما في ذلك الوقت تستطيع الدراسات الإنسانية أن تشهد نهضتها.

29 Nov, 2015 03:31:54 PM
0