Salta al contenuto principale

التعبير الإبداعي: أفضل وسيلة لتفسير الرسائل الغامضة

في هذا المقال، يشرح آكيليش أَيَّار آراء بروست ودولوز حول الرسائل الغامضة.

 حينما نسأل أنفسنا عن سبب شعورنا بشعور معين أو تفكيرنا في فكرة محددة، أو انخراطنا في سلوك بعينه، أو استشعارنا الخوف أو الدهشة أو الحب أو ربما — وهو الأهم — معاناتنا من أَلَمٍ عاطفي أو سعينا في سبل مدمرة لأنفسنا، فما الإجابة التي نتوقعها؟ وما الذي يعنيه أن نفهم حياتنا الداخلية؟

ثمة نوعان من الإجابات يمكن الحصول عليهما لمثل هذا السؤال: إما الإجابة الآلية (أو الطبيعية) وإما الإجابة التعبيرية. تنظر العلوم الحديثة — بما فيها علم النفس والبيولوجيا العصبية وحتى التحليل النفسي — إلى الإنسان كآلة؛ فشرح عاطفة أو فكرة أو سلوك يعني أن تتتبع المدخلات التي غُذيت بها تلك الآلة والعمليات التي تُغير تلك المدخلات إلى الحدث العقلي، وهو المُخرَج. قد تركز المدارس العلمية المختلفة على مدخلات وعمليات مختلفة، بمعنى أنها ربما تتصور تروس الآلة بطرق مختلفة؛ فبعضها قد يركز على الوراثة، وبعضها قد يركز على علاقات الطفولة المبكرة، وأخرى تركز على المعايير الثقافية. لكن — بشكل أو بآخر — تُعد الرؤية الآلية للعقل شبه عمومية.

من الممكن أن تكون الإجابات الآلية ذاتَ فائدة للعلوم؛ لكني أجدها غير وافية إلى حدٍّ ما في إطار السعي لفهم حياتي الخاصة. فأنا في حاجة إلى طريقة لفهم نفسي لا تجبرني على تصور ذاتي في صورة جهاز. أريد أن أحتفظ بالغموض والدهشة اللذين أشعر بهما في عاطفة أو فكرة بعينها، حتى حين أدرك فيها شيئًا غير متوقع.

ثمة بديل للنموذج الآلي؛ ألا وهو الطريقة التعبيرية. إذ إننا نستطيع التعبير عن مشاعرنا أو فِكَرِنا أو انطباعاتنا عبر وسيط إبداعي مثل الكلمة المكتوبة أو الرسم. والتعبير ليس مجرد نسخ للعاطفة أو الفكرة، بل إنه يكشف عن شيء جديد ينفرد به ويجليه. إن التعبير رحلة استكشافية، تنقيبية، تشبه العلم إلى حدٍّ كبير. لكن ما كيفية عمله؟ كيف يمكننا أن نستخدم التعبير على أفضل نحو لإذكاء جذوة التنوير والحكمة والجمال؟

التعبيرات البروستية

يتجسد أفضل مثال للطريقة التعبيرية في أعمال مارسيل بروست (١٨٧١–١٩٢٢)، أعظم أديب وعالم نفس فرنسي، وبالأخص في عمله الروائي الأبرز الذي جاء في ستة مجلدات تحت عنوان «البحث عن الزمن المفقود» (بدأ نشره عام ١٩١٣). ويفرد بروست لآرائه الفلسفية بتفصيل بالغ في المجلد الأخير من ذلك العمل؛ «استرجاع الزمن».

فيكتب بروست قائلًا: إن كل شيء جميل ومرغوب يتألق بالغموض. وذلك التألق، وتلك الجاذبية، إنما يكشفان عن وجود رسائل، لكن تلك الرسائل لا تكمن داخل الشيء نفسه، وإنما تكمن داخل المراقب ويتفرد بها. فالمراقب الذي يرى شيئًا جميلًا ويتُوق إليه، يحتاج في الحقيقة إلى العثور على الرسالة التي يبعث بها ذلك الشيء إليه وإلى فكِّ شفرتها. وهذه هي الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك الشعور بالرضا الذي يسعى وراءه سعيًا مستميتًا من خلال ذلك الشيء الذي يتوق إليه.

تنطوي هذه الرسائل على حقائق عن العالم وعن أنفسنا. وإنما جمال تلك الحقائق هو ما نحاول أسره بامتلاك شيء أو شخص أو مكانة اجتماعية؛ لكن ذلك أشبه بشخص يحاول أن يقبض على سحابة في الماء. فالسحابة ليست في الماء ليمسك بها، وفي الواقع، أية محاولة للإمساك بها تشوه الصورة. وكلما زادت محاولات الإمساك بالسحابة جنونًا، زادت الرؤيةُ الواضحة استحالةً. فالطريقة الوحيدة للمس الجمال بحق هي فكُّ شفرة الرسالة التي ينطوي عليها.

دعونا نأخذ تحليل بروست للحب الرومانسي — والذي قد يكون أكثر التحليلات التي أجريت عن هذا الموضوع في أي وسط عمقًا ودقة — كمثال على ذلك. يزعم بروست أن هؤلاء الذين يقعون في الحب يرون في محبوبهم نوعًا من القدسية التي يرغبون في التواصل معها، أو يرون فيه ما يشبه فردوسًا مفقودًا يسعون لزيارته مجددًا. وفي خضم ذلك، يشعرون بغموض لذيذ يرغبون في امتلاكه بشدة وذلك من خلال تملك الشخص الآخر أو السيطرة عليه. غير أن هذا الغموض لا يمكن امتلاكه أبدًا بهذه الطريقة؛ لأن الغموض كامن في عقل المحب، وليس في جسد أو ردود فعل المحبوب. وذلك هو السبب في أن الحب دائمًا ما يكون مفعمًا بالألم؛ لأنه يوظِّف الأسلوب الخطأ لتحقيق الرضا. ومع ذلك، فثمة طريقة أخرى أفضل لإدراك الرسالة المختفية في طيات ذلك الحب الغامض.

تأتي الحقائق المقنعة المتضمَّنة في هذه الرسائل في أشكال عدة. تتمثل إحداها في مبدأ الذاكرة اللاإرادية التي يشتهر بها بروست شهرة كبيرة، كما يحدث عندما تفيض ذكريات المناظر الطبيعية الغنية على الراوي حينما يتذوق كعك المادلين المغموس في الشاي. فهذا نوع من الذكرى أثاره شيء ما. ولأن هذه الذكرى هنا تأتي غير مطلوبة، يبدو أن هذا إثبات لبروست على أن هذه الذكرى لم يشوِّهْهَا الانحياز للمصلحة الذاتية، وأنها تعيد السياق الكامل للماضي، بما في ذلك الشخصية القديمة المراوغة التي عاشتْه؛ وذلك لأن بروست كان يعتقد أنه لكي نَخبُر الماضي على نحو كامل، لا بد وأن نكون نفس الشخصية التي عاشتْه وقت حدوثه. ومِن ثَمَّ؛ فإن الذكرى اللاإرادية أكثر ثراءً إلى حدٍّ بالغ وأكثر موثوقية من الذكرى التي نسعى لاستحضارها إراديًّا. فالذكرى الإرادية المقصودة لا تستطيع أن تستحضر السياق الكامل للماضي والشخصية التي خَبَرتْه، وإنما مجرد ظل شاحب أو محاكاة له.

لكن بروست شعر بجاذبية الرسائل القوية في العديد من التجارب الأخرى بخلاف الذكريات اللاإرادية؛ فقد شعر بها في أبراج الكنائس وهو يتنقل في العربة التي تجرها الخيول؛ وفي الأشجار والطبيعة؛ وفي المجتمع، وأكثر شيء كان يستشعر فيه تلك الجاذبية هو الحب الرومانسي. أما الانطباعات القوية التي تركتْها فيه تلك الأشياء فكانت — كما أسماها بروست — «علامات» لا بد أن «تُترجم» إلى الحقائق التي تستند إليها. ومهمة الترجمة هذه هي الرسالة الحقيقية للفنان.

دولوز يفسر آراء بروست

في محاولتي لفهم بروست، وجدت أن معظم المواد المعرفية التي كُتبت عنه غير مفيدة إلى أن صادفتُ العمل المؤثر للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز تحت عنوان «بروست والعلامات» (١٩٦٤).

لم يستطع بروست أو دولوز تعريف ماهية العلامة تعريفًا كاملًا، لكني أتصور أنها أي عنصر مؤثر في التجربة التي نمر بها، ونرغب في امتلاكه أو فهمه بشدة، إنه أي إدراك حسي أو سلوك أو عاطفة أو فكرة أو ذكرى تَبرُز من الخلفية وتحمل سيماء الإثارة والغموض. إن العلامة هي جزء بارز في بساط حياتنا الخاصة. وهكذا، لم تكن كعكة بروست هي العلامة في حدِّ ذاتها، وإنما العلامة هي الانطباع الكلي الذي تركتْه الكعكة، هالة الغموض التي تحيط بها، ذلك الإحساس بأنَّ شيئًا غريبًا يقف وراءها. وبالمثل، لم تتمثَّل العلامة في هَوَس الراوي العاطفي بألبرتين نفسها، وإنما في الانطباع العام الذي خلقتْه تلك المجموعة الصغيرة من أصدقائها المراهقين والطريقة التي يمتزجون بها مع البحر؛ تلك التجربة السحرية كانت هي العلامةَ. في النهاية، كانت تلك العلامة هي ما دفع الراوي إلى الوقوع في حب ألبرتين.

يشير دولوز كذلك إلى أن المعنى لا يكمن في الشيء المادي أو الشيء الذي يُظهر العلامة. ومِن ثَمَّ، فإن ذلك الحس القوي بالغموض والدهشة، على سبيل المثال، في اسم وجهة يكتنفها الغموض — ولتكن الأهرامات مثلًا — لا يكمن في الوجهة نفسها. فزيارة الأهرامات نفسها لا تسفر عن سرِّ حسِّ الغموض الذي ينطوي عليه الاسم. بالمثل، كثيرًا ما يذكر بروست أننا لا نقع في غرام شخص حقيقي وإنما في غرام شيء يُثيره فينا هذا الشخص. يقول بروست، في فقرة لا يمكن أن تُنسى على وجه الخصوص: إننا لا ننجذب للأشخاص الوسماء لكينونتهم؛ وإنما لانعكاس الفجر على وجوههم، ذلك الفجر الذي هو الشباب. لكننا في الواقع لا نستطيع أن نمتلك ذلك الفجر بالإمساك بمرآته، والتي هي الجسد.

ومع ذلك، يكتب دولوز مضيفًا أنه لا يمكن كذلك إيجاد معنى العلامة في الذكريات أو سلاسل الفِكَر التي يثيرها الشيء. إن التحليل النفسي منهجية تبحث عن المعنى في مثل هذه الارتباطات. فهو يفسر استجابة شخصٍ لفكرة بعينها من خلال البحث عن معنًى ضمنيٍّ، ربما حقيقة أليمة يَوَدُّ الشخص لو يمنع نفسه عن رؤيتها.

قد يُسفر فهم هذه الارتباطات عن بعض الرؤى المثيرة للاهتمام، لكنه لا يُسفر عن غموض العلامة؛ ذلك لأن معنى العلامة — حسبما كتب بروست ودولوز — موجود في وجهة النظر الخاصة بالمختبِر. ووجهة النظر الخاصة هذه لا يمكن أن تتجلى سوى عبر التعبير الفني. وبالتالي، يتكشف معنى العلامة ورسالتها السرية، في الكيفية التي قد يستخدمها الفن ليُبدي لنا طريقتنا الخاصة في رؤية الأشياء. إن قوة علامة بعينها، حتى لو كانت علامةً خاصةً بتجربة أليمة أو معاناة — وبخاصة إذا كانت كذلك — هي بالتالي إيعاز لأعمال فنية مستقبلية يمكن توليدها منها. إذن، فالعلامة تحمل المعنى. وقد كتب دولوز يقول: إن معنى العلامة الكامن مختبئ فيها، وإن الفن هو الذي يكشف عن ذلك المعنى. إن المعنى كامن في العلامة كما تكمن الشجرة في البذرة؛ وعَبْر الفن ينبثق المعنى مثلما تنبثق الشجرة من البذرة، حين توضع في البيئة المناسبة، وتُعطَى التربة والماء والشمس والرعاية والوقت، مترعرعةً فوق الأرض في شكلها المعروف.

وهذا في الواقع تناول لاستعارة وظَّفها بروست؛ إذ يصف بروست إثارة كعك المادلين للذكرى اللاإرادية بأنها تشبه نوعًا من الورق الياباني المطوي الذي حين يُغمَر في المياه ينبسط ويتخذ أشكالًا مختلفة؛ امرأةً أو سفينةً أو منزلًا أو ما إلى ذلك. والرسائل المطوية داخل أي علامة تشبه ذلك. إن العلامة أو الانطباع، حين تُغمَر في مياه الفن، تتمدد متخذةً شكلها اليانع المكتمل.

مفاتيح المعنى

حين يرى شخص ما علامة، فإنه في الواقع يرى تأثير مجموعة من الأحكام السريعة التي يطلقها عقله من وجهة نظره الخاصة. إن هذه الأحكام غامضة وتستعصي على الإدراك مثل حروف هيروغليفية تكاد تكون قد طُمستْ مِن جدران مقبرة قديمة. فيأتي الفن ليحبِّر هذه النقوش الدقيقة ويُظهرها. وهذا الفعل الذي يطلق عليه بروست «الترجمة» يَجري من خلال قيام الفنان برسم روابط بين الانطباع القوي الغامض وأشياء أخرى. وقد أراد بروست من الفن أن يصف ما يبدو عليه الأمر حين يمر المرء بتجربة، وأن يجد (أي الفن) أوجه تشابه بينها وبين تجارب أخرى. والاستعارة عنصر أساسي في هذه العملية؛ إذ إنها الوسيلة الإبداعية الرئيسة لإظهار مثل هذه الروابط أو أوجه التشابه. فأن تصف الأرنب بأنه منديل حي مرتعش لهو وصف مثير للاهتمام؛ لأنه يكشف عن روابط غير مُدرَكة ربما إلى الآن. أن تصف الشيء استعاريًّا يعني أن تصف نغمة جيتار حادة بمقارنتها بانتشار مفاجئ لِلَونٍ معين في زهرة. فكل منهما تحيط به هالته المبهجة الخاصة من الدلالات والتعقيد، وكلاهما لم يُختزل في تجريد عقيم.

ولا يلزم أن تأتي الاستعارة على مستوى الكلمة فقط؛ فالحبكة قد تعمل كاستعارة عن تجربة بعينها، مثلما قد تعمل الشخصيات. فمن الممكن التعبير عن العلاقات الاستعارية في الوسائط غير اللفظية كذلك. فإذا ما أُلقي الضوء — في لوحة ما — على جوانب معينة من زهرة أو إذا ما رُسِمَت بحيث تظهر شبهًا بين الزهرة وفتاة يافعة، فإن الفنان هنا يوظف الاستعارة. إن كل الاستعارات تبوح بشيء. وكل فنان — ككل شخص — يرى العالم برؤية مختلفة، ومِن ثَمَّ يخُطُّ برسومه علاقاتٍ مختلفةً بين الأشياء، فيخلق استعاراته الخاصة. وكل استعارة جديدة يبتكرها الفنان تُلقي الضوءَ على جانب ما من شخصيته؛ فالأمر يشبه وضعَ شمعة مشتعلة لفترة وجيزة أمام العدسة الكبيرة لعقل متميز؛ مما يجعل تلك العدسة تركز على جزء من التشابك المعقد اللانهائي لذلك العقل للحظة. أما سلسلة الاستعارات فإنها تسلط ضوءًا أكبر. وعمل فني بارع إلى حدِّ الكمال مثل «البحث عن الزمن المفقود» يتوهج إلى درجة تمكنه من أن يضيء عالم الخيال بأكمله لوهلة، ويُظهر بنجاحٍ الرؤيةَ والشخصيةَ المتفردتين لشخص مثل بروست.

إذن، كيف تظهر وجهة نظر الفنان (وأعني بكلمة فنان هنا: كاتبًا أو رسامًا أو غيرهما) في العمل الفني؟ يقول دولوز: إنها تنكشف من خلال الأسلوب. فإذا ما تناول فنانان مختلفان نفس الموضوع فإنهما يصوران هذا الموضوع بطريقتين مختلفتين جذريًّا. إن العمل الفني هو نتاج الخيارات التي يتخذها الفنان؛ ماذا يقدم وماذا يؤخر، أو ماذا يصور وماذا يطمس، أو ماذا يُضمِّن وماذا يستبعد، أو اختيارات الروابط المعينة التي يؤكد عليها من خلال الاستعارة. ومِن ثَمَّ، حين يحاول الفنان تصوير علامة في عمل فني، فإنها دائمًا ما تتخذ الأسلوب المميز للفنان، وهذا هو التجلي الإبداعي لوجهة نظر الفنان. والأسلوب يكشف عن الذات. ومن خلال الأسلوب تظهر أيضا الرسالة السرية التي تهمس بها العلامة، ذلك أن التجربة المكثفة تتضح من الفن الذي وُلد من رحمها. تشبه العلامة الرسالة المشفرة التي يفك الفنان شفرتها باستخدام وجهة نظره كمفتاح شخصي. وتكشف الاستعارات والروابط في العمل الفني عن زاوية التركيز المحددة للأعماق الغائرة الزاخرة لإنسان متفرد والتي تتجلى بمقتضاها العلامة التي حُلَّت شفرتها.

استخلاص الفن من العلامات

إذن، ما هي العملية التطبيقية التي يولد بها الفن من العلامات؟ يكتب بروست قائلًا إنه لا يمكن أن توجد قواعد صارمة محددة لترجمة العلامات إلى رسائل عبر الفن، لتنكشف الحقائق. غير أنه يضيف أن القريحة تتضمن المقدرة على اتباع الحدس. من المؤسف أن هذا الكلام يبدو مبهمًا، لكن أعتقد أن بروست يعني أنه في بداية العملية الإبداعية على الأقل، ما يهم ليس التحليل المنطقي المتعمد، وإنما رؤية متعمقة تدرس العلامة عبر نوع من الحدس والبداهة. ويقر بروست أن المنطق يدخل في هذه العملية في نهاية الأمر. لكنه يقول إنه بالنسبة للكاتب أو الفنان، يأتي التفكير «بعد» الانطباع الأول القوي.

يذكر بروست كذلك أن الأعمال الفنية لا يمكن أن تتكون بالكلية من توضيح العلامات القوية؛ بالتأكيد إن ذلك لمثالي، غير أن مثل هذه الانطباعات نادرة جدًّا لدرجة يصعب معها تحقيق ذلك. إذن، فإن ثمة جوانب رئيسة أخرى للأعمال الفنية هي التي تُبتكر عن قصد وبجدٍّ وإتقانٍ. لكن أفضل الأجزاء وأرقاها في أي عمل فني رغم ذلك تنبع من ترجمة الفنان للعلامات القوية. والمكافأة التي يحصل عليها الفنان في مقابل ذلك لا تقتصر على إدراك الحقيقة، بل كذلك ما يعتبره بروست البهجة الحقيقية والصافية، ألا وهي بهجة معرفة الذات، تلك المعرفة بالغة الأهمية. وهذا هو إسهام بروست الرائع: ألا وهو إبداء أن التفسير الوافي الوحيد لعواطفنا وفِكَرنا، ومشاعرنا وسلوكياتنا، يكمن في التعبير عنها؛ أي ترجمتها إلى عمل فني يكشف عن منظور العقل، ذلك المنظور الذي ابتكر العلامة، بل في خضم ذلك ابتكر أيضًا معنى العلامة. ومن خلال هذه الطريقة الفنية يمكننا فهم أي حدث عقلي، مؤلمًا كان أم غريبًا. وهي طريقة شائعة وغير خاضعة لأية قيود.

في الماضي، كنت من السذاجة لأعتقد أن الوصف الفني لتجربة داخلية ليس سوى نسخ مجرد من الفهم للإدراك الحسي أو الخيال أو الفِكَر. لكن بروست يؤكد أن الفن الجيِّد أبعد ما يكون عن النسخ؛ فهو ينتقد «التصوير السينمائي» المجرد الذي يصور شخوصه كما تفعل الكاميرا. ما يريده ليس وصفًا حَرفيًّا منعزلًا، وإنما إظهار أوجه التشابه والارتباط بين الشيء المُصوَّر وأشياء أخرى. إن النقطة الأساسية في الطريقة التعبيرية هي أن التعبير عن حيواتنا الداخلية عبر الفن والاستعارة يغير التجربةومِن ثَمَّ فإننا نحيا مرتين، مرة في عالم الأحداث، والمرة الثانية في عالم الفن؛ والمرة الثانية هي الأهم بدرجة كبيرة. ولسقراط هنا قول نشرحه بأن الحياة التي لا يُعبَّر عنها لا تستحق أن نعيشها، ذلك أن الفحص المتعمق يتطلب التعبير. إننا لا نضطر إلى رؤية التجارب إلا حينما نحاول تصويرها، وعند القيام بذلك نختار الجوانب المهمة منها. وعلى هذا النحو، بينما يحاول الفنان تصوير التجربة، فإن ما بدأ كفكرة أو ذكرى أو عاطفة غامضة نسبيًّا يزداد تفصيلًا ويتمدد ويتضح ويتكشف، يتحول من شيء ضبابي غير واضح المعالم إلى شيء معقد، وغني، ورائع، ومثير للاهتمام. إن هذا هو التفسير الذي لا يُقلِّل من قدر الشيء؛ الشرح الذي يقدم معلومات جديدة دون القضاء على غموض التجربة النفيس.

استعادة الفهم

رغم أن عمل بروست يدور حول البحث عن الزمن المفقود؛ فإنه لم يقصد «بالزمن المفقود» مجرد الذكريات. وإنما قصد ذلك البُعدَ داخل أنفسنا الذي يكمن خارج حدود الزمن العادي. فهذا هو المنظور الذي يُشكل ماضينا المسترجَع، ومستقبلنا المتوقَّع، ولحظات حاضرنا على حدٍّ سواء. وهكذا، فإن معنى استرجاع الزمن أن نعرف اللاوعي الذي يُشكل ذاتنا، والذي تشهد على وجوده الذاكرة اللاإرادية بكل تأكيد، لكنها ليست الوسيلة الوحيدة للوصول إليه.

إنه لشيء رائع أن نتذوق طبيعتنا الفردية، ورؤيتنا المتفردة. إنه نبع الجمال الذي لا ينضب، ومصدر للشعور بالبهجة. إن هذا لهو الفردوس المفقود داخل أنفسنا والذي يمكننا زيارته كلما لجأنا إلى الإبداع الفني. علاوة على ذلك، تثبت الطريقة التعبيرية أن كل أشكال المعاناة يمكن أن تكون محمَّلة بالمعاني، وأنها ضرورية حتمًا للجمال. ففي النهاية، ما المعاناة إلا الشعور بمحدودية معينة، أو الإحساس بالحرمان من رغبة بعينها، والأشياء الوحيدة القادرة على أن تسبب لنا المعاناةَ هي تلك الأشياءُ التي تسبب لنا قدرًا معينًا من عدم الرضا أو الألم حينما نسعى لفهمها أو امتلاكها. ومع ذلك، فإننا لا نرى أنفسنا إلا بالنظر في محدودياتنا، بعبارة أخرى، من خلال أَلَمِنا. حسبما يقول بروست، إن السعادة مفيدة أساسًا لأنها تجعل المعاناة أكثر وضوحًا وأشد إيلامًا. إن المعاناة هي ما يجعل الأشياء مثيرة للاهتمام، ومِن ثَمَّ فإنها تمهد الطريق إلى العلامات. ونظرًا لأن العلامات بطبيعتها تجارب بالغة الإثارة، فإن المعاناة تُغلف كل علامة تقريبًا؛ وبالتالي عند تصوير المعاناة تصويرًا فنيًّا، فإنها تكشف عن الحقائق. لكن لكي تكون المعاناة ذات مغزًى، يجب أن تتحول عبر الفن؛ ويجب تصوير علاماتها. والمعاناة المحددة التي نحتملها تشكِّل فنَّنا بطرق معينة. إن المعاناة ليست عامة؛ بل إنها مميزة تمامًا كتلك الكتلة المحددة من رخام كرارا الذي استخدمه مايكل أنجلو لنحت تمثال داود. والعمل الفني المتولد من هذه التجربة المؤلمة يكشف بالضبط عن العقل الذي عانَى لتلك الدرجة، وبذلك النحو، ومن هذه المحدودية بعينها من محدوديات الحياة. إن السعادة البسيطة تتمثل في فقدان البصر والنوم؛ إنه شيء مريح، لكن يعوزه الجمال. وعلى النقيض، إن معنى المعاناة هو الثمرة الفنية للحقيقة الشخصية المنغرسة جذورها في طين المعاناة. هذه هي الحقيقة الرائعة المعارضة للمنطق التي يقدمها بروست.

إن فكرة الترجمة البروستية للعلامات تأخذ هذا العالم المُمِلَّ وتجعل منه عالمًا سحريًّا زاخرًا بالمعاني. إن كل شيء يُرى، لا يُرى إلا بفضل المنظور المعين للشخص الرائي. وكل سبب يقف وراء رؤية علامة بعينها يمثل حكمًا بأن رؤيةَ دفقِ الانطباعاتِ الحسيةِ — هذا العالم — بهذه الطريقة عينها شيء رائع. وبإمكان الفن الكشف عن الأسباب وراء هذه الأحكام وإظهار جمالها.

حينما نطرح أسئلة فلسفية، فإننا لا نرغب في الحصول على إجابات سريعة سهلة، ولا نرغب في تصور الكون كآلة؛ بل نرغب في استكشاف غموض الكون، أعمق ألغازه، دون تدمير ذلك الغموض. بالطبع، للفيزياء دورها كما لعلم النفس دوره. ومن الممكن أن يعمل أي نموذج آلي كخريطة مفيدة كذلك. لكن أعمق رغباتنا في الحصول على تفسير ليست رغبات في الحصول على تفسيرات ميكانيكية اختزالية، وإنما هي دعوات إلى استكشاف وتعبير.

في نظرية بروست، يتضح أن الفن أداة فلسفية لجميع الأغراض. فبإمكانه ترجمة أية انطباعات عقلية إلى حقائق جلية. إنه السحر الحقيقي. إن الفن يؤدي إلى تحول المعاناة إلى جمال. علاوة على أنه العقيدة التي تخدم المؤمنين والملحدين واللاأدريين على قدم المساواة، إنه وسيلة حرة، يستخدمها كل شخص ببراعة على نحو مختلف، وهو متاح للجميع. إن أي شخص يستطيع إيجاد التشويق في اكتشاف سر الرسائل المتضمنة في أي شعور قوي أو فكرة مؤثرة أو ذكرى واضحة أو سؤال مُلحٍّ، من خلال تصويره فنيًّا عبر توظيف الاستعارة. ومع فك شفرة العلامات على هذا النحو، يتكشف جمالها. ولا يمكن أن يكشف عن الفكرة الجميلة إلا الشخص الذي يَخبُرها بنفسه.

كل شيء يحمل في روحه عالمًا من الأسرار التي لا يستطيع اكتشافَها سوى الرائي. والوعد البراق بالبهجة أو الغموض يتحول إلى سراب إذا ما طورد، حيث يرتد على عقبه إلى الخواء على نحو أبدي. ولا يمكن استعراض الغموض إلا من خلال التعبير عنه عبر الفن.

13 Dic, 2015 02:34:05 PM
0