Salta al contenuto principale

غرب أفريقيا في عصور ما قبل التاريخ

كشف علماء الآثار النقابَ عن أسطورة «القارة السوداء» مؤخرًا؛ فقد نشأتْ ثقافة محلية غنية قبل فترةٍ طويلةٍ من وصول الرجل الأبيض إليها. في هذا المقال، يذكر روبرت إيه كينيدي الآثار التي خلَّفتها تلك الحضارة ويقوم بتقييمها.

 إن فترات ما قبل التاريخ في غرب أفريقيا، وخاصةً من حوالي عام ١٠٠٠ قبل الميلاد وما بعده، لا تزال تخضع للتكهُّنات نوعًا ما. والأدلة المتوافرة عنها غير كاملةٍ ومتناثرةٌ على نطاقٍ واسع. ومع ذلك، يمكن رسم خطوطٍ عريضةٍ سوف تُظهر أننا لا نتعامل مع منطقةٍ منعزلةٍ ومتخلفةٍ مما يُسمَّى «القارة السوداء»، ولكن مع منطقةٍ مهمةٍ ومثيرةٍ للاهتمام للغاية.

استقرَّ الزنوج — الذين وصلوا إلى النيل من مكانٍ غير معروفٍ منذ نحو ثلاثة أو أربعة آلاف سنة — في المنطقة الغربية، في أجزاءٍ واسعةٍ من القارة، وتقريبًا بين دائرتَي عرض ٢٠° و١٠° شمالًا، ومن المؤكد أنهم تغلغلوا نحو الجنوب أكثر، مستوعبين أو طاردين السكانَ الأوائلَ من أصحاب البشرة الأفتح من القبصيين١ (سكان حوض البحر الأبيض المتوسط​​) والبوشمان إلى المناطق الساحلية.

ربما لا يزال ممثلون من هذا النوع الأخير يعيشون بين «القبائل المتبقية» في المنطقة الساحلية ومنطقة الغابات فيما يُعرف اليوم بإقليم شرق نيجيريا. كان اقتصاد الزنوج في ذلك الوقت شبيهًا باقتصاد العصر الحجري الحديث؛ فقد كان يجمع بين زراعة المحاصيل وصيد الحيوانات وصيد الأسماك، مع أن النشاطَين الأخيرين كانا ذَوَيْ أهميةٍ ثانوية. وفي الألفية السابقة ازدهر أسلوب الحياة القائم على صيد الحيوانات وصيد الأسماك في أحواض البحيرات الكبيرة الخصبة في الصحراء الكبرى؛ مثل الموجودة بين جبال تيبستي وبُحيرة تشاد — هي نفسها الآن كل ما بقي ممَّا كان سابقًا منطقة مستنقعات كبيرة مليئة بالخيزران وأفراس النهر والتماسيح والطرائد الصغيرة — وجنوب غرب جبال هقار.

ولكن مع بدء الأحوال الجوية الأكثر جفافًا، في نهاية العصر المكالياني المطير في حوالي عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد، ربما اضطُر الزنوج لتطوير الزراعة على حساب الصيد. ويكاد يكون من المؤكَّد أن هذا ما حدث في أقصى الجنوب في الأراضي العالية في شمال نيجيريا؛ حيث أدَّى تطوُّر الزراعة وتحسُّن الظروف الصحية على نحوٍ مثاليٍّ إلى تأسيس أول «حضارةٍ»٢ زنجيةٍ عظيمةٍ في حوالي منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد.

وإلى الشمال من حزام المناطق التي يسكنها الزنوج، عاش في الصحراء الكبرى أشخاص من سكان حوض البحر الأبيض المتوسط «البيض» أو بُنِّيُّو البشرة (​البربر)، وكانت حضارتهم تمثل «العصر الحجري الحديث في الصحراء الكبرى»٣ على نحوٍ واضح، وعاشوا حياة حرة وقاسية تُشبه حياة البداوة وتعتمد على رعْي البقر. في ذلك الوقت كانت الصحراء الكبرى لا تزال تُشبه «جنة الصيادين» التي كانت عليها خلال العصر المكالياني المطير، ولكن الطرائد كانت تتناقص وكان الرعْي يكتسب أهمية حيوية، وقد جاء معه أسلوب حياةٍ أكثر تقدمًا.

في الواقع، في ليبيا يبدو من المرجَّح أن البربر ذَوِي البشرة الفاتحة كانوا قد صنعوا بالفعل حضارة بدوية رعوية، ولا شك أنهم تأثَّروا إلى حدٍّ كبيرٍ بالتواصل مع مصر ودولٍ أخرى في سياق تجارة الماشية الكبيرة. وكانت الماشية تُستخدم في الحمل والجر؛ لأن الجِمال لم تظهر في الصحراء الكبرى إلا بعد ذلك بما يقرب من ألفٍ وخمسمائة سنة.

وكذلك بحلول عام ١٠٠٠ قبل الميلاد على الأقل انتقل مستعمرون متَّبعون للنهج القبصي (ومستخدمون للأدوات الحجرية الدقيقة) من شمال أفريقيا إلى ساحل غرب أفريقيا، محتلين الأرض المكشوفة أكثر بطول ساحل غينيا وظهيره. ومما لا شك فيه أن توسُّع الزنوج غربًا استوعبهم تدريجيًّا، وهي العملية التي أدَّت إلى تشكيل حضارةٍ محليةٍ أو «حضارة غينيا الحجرية الحديثة» التي بقيت كعنصرٍ محليٍّ في العصر المسيحي.

تزامن وصول الزنوج إلى الشرق مع فترةٍ من زيادة هطول الأمطار (العصر المكالياني المطير)، عندما كانت الظروف في النيل وفي الأحواض الرسوبية الكبيرة في الصحراء الكبرى مثاليةً لصيد الحيوانات والأسماك؛ لا يوجد شك في أن عدد الزنوج تضاعف بسرعة، وسرعان ما انتشروا غربًا حيثُ يمكن أن يتَّبعوا نمط المعيشة نفسه. ومع حدوث الظروف الأكثر جفافًا في نهاية العصر المكالياني المطير، أثَّر تناقُص كمية الأمطار على بيئة المستنقعات وقلَّل عدد الحيوانات التي تعيش فيها.

لا بد أن هذا أجبر الزنوج على الاعتماد أكثر على الزراعة؛ بحيث إنه بحلول عام ١٠٠٠ قبل الميلاد، حدث نزوح ملحوظ للسكان إلى مناطقَ أكثر ارتفاعًا وأكثر ملاءمةً للزراعة. ويبدو أن هذه الحركة تزامنت مع تجدُّد التدفق نحو الغرب، لسببٍ مماثلٍ، لمزيدٍ من الزنوج من منطقة أعالي النيل، الذين كانت لديهم في هذا الوقت حضارة أكثر تطورًا ومعرفةً بالزراعة من المصريين في الشمال.

وهنا، في هذه المرحلة من تطوُّر حضارة أرض النيجر، نركِّز اهتمامنا؛ فبينما كان انتشار اقتصاد العصر الحجري الحديث الحقيقي — الأدوات المصنوعة من الحجر الأرضي والمصقول والزراعة — يمتدُّ عبر غرب أفريقيا إلى شاطئ المحيط الأطلنطي البعيد عند المناطق الأعلى والمكشوفة أكثر، واصل الباقون الكثيرون من أواخر العصر الحجري القديم في الغابات المطيرة والجداول حول خليج بيافرا اتِّباعَ أسلوب حياةٍ تطوَّر في الأصل في ظروفٍ مطيرة.٤ وكانت الغابات تمتدُّ شمالًا لمسافاتٍ أبعد ممَّا هي عليه اليوم، وتوافرت النباتات من كل الأنواع على نحوٍ أكبر.

بالرغم من أن إزالة الغابات من أجل الزراعة كانت تحدث في الشمال وفي الأراضي الأعلى، فإنها لم تصل إلى النِّسب التي وصلت إليها في القرون اللاحقة؛ وهكذا لم يكن لها في حد ذاتها أي تأثيرٍ كبيرٍ على المناخ. وسيلاحَظ أنني لم أُشِرْ إلى الزنوج على أنهم رعاة بقر؛ ففي الواقع، أعتقد أن البقر لم يلعب دورًا أساسيًّا في اقتصادهم في هذه المرحلة، وأنهم اعتمدوا كليًّا تقريبًا على زراعة المحاصيل، وأكملوا ذلك بالصيد؛ ربما ربَّوْا أيضًا عددًا قليلًا من الماعز.

أعتقد — مع أنه ليس واضحًا بأية حالٍ في الحالة الراهنة لمعرفتنا — أن الزنوج في غرب أفريقيا لم يرعَوُا البقر قبل النصف الأخير من الألفية الأخيرة قبل الميلاد وكان ذلك على نحوٍ متقطع، من خلال سيطرة موجةٍ لاحقةٍ من شعوب الحاميين (البربر) من شمال أفريقيا أو الانصهار معهم. جلب هؤلاء المهاجرون الحاميون وما لديهم من بقرٍ طويل القرون — يظهر في كثيرٍ من الأحيان في النقوش المنحوتة على الصخور والموجودة في الصحراء الكبرى، ومؤخرًا في شمال نيجيريا — عناصرَ من «الديانة الميغاليثية» المرتبطة بالعصر البرونزي في أوروبا، مع أن هذا ربما يكون بعيدًا. وحافظ أحفاد هؤلاء الأشخاص على احتكارٍ فعليٍّ لإمدادات البقر في مناطق السافانا في نيجيريا وغانا إلى يومنا هذا، في حين لا يزال الزنوج يُفضِّلون على نحوٍ رئيسيٍّ التمسك بزراعة المحاصيل.

وهكذا نرى أن مجتمعاتٍ متفرقةً في مراحلَ مختلفةٍ من التطوُّر عاشت في غرب أفريقيا، وساهم كلٌّ منها في الطابع النهائي للمنطقة وأقاليمها؛ فقد كان غرب أفريقيا معرَّضًا للهجرات البرية المتكررة وتأثيراتها على نحوٍ متزايد، كما أنها كانت عرضةً بالفعل للتواصل البحري المباشر مع القوات البحرية في البحر الأبيض المتوسط، التي كانت في ذلك الوقت تستكشف جديًّا إمكانيات التجارة في مناطقَ بعيدة؛ مثل خليج غينيا.

أبحر البحارة الفينيقيون المتمركزون في خليج السويس حول القارة الأفريقية بالفعل تقريبًا في عام ٥٩٦ قبل الميلاد، بأوامر من فرعون مصر نخو، الذي أمرهم بالإبحار «نحو الغرب» والعودة عن طريق أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق). ووفقًا لهيرودوت، أنجزوا هذا العمل الفذ الرائع في ثلاث سنوات، مع الرُّسُوِّ على الشاطئ لمدة شهرين أو ثلاثة أشهرٍ كل عامٍ لزراعة وحصاد أحد المحاصيل للحصول على الطعام؛ ولا شك أيضًا من أجل إصلاح حبال الأشرعة والصواري وإمالة جسم السفينة لإصلاحها. وعلى الرغم من مكانة هذه الرحلة العظيمة في سجلات التاريخ البحري، فلا يبدو أن لها أيَّ تأثيرٍ على عصور ما قبل التاريخ في غرب أفريقيا.

ولكن حقيقة أن السفينة كانت فينيقيةً حقيقةً مهمةٌ؛ لأننا نعلم أنه بعد حوالي مائة سنةٍ أقام فينيقيُّو قرطاج مستعمراتٍ تجاريةً على الساحل الشمالي الغربي لأفريقيا. وقد حدثت واحدة من أعظم الرحلات البحرية على مرِّ العصور في حوالي عام ٥٢٠ قبل الميلاد،٥ وذلك ليس فقط لتجديد هذه المستعمرات فحسب، ولكن في المقام الأول لتأسيس مستعمراتٍ جديدة. وهذه الرحلة تحمل أهمية كبيرة بالنسبة إلينا.

تلقَّى قائد الأسطول القرطاجي حانون — الذي كان يقود ستين سفينة تحمل ثلاثين ألف شخص، رجالًا ونساءً — تكليفًا من حكومته بالإبحار بعد أعمدة هرقل لتأسيس مستعمراتٍ فينيقيةٍ جديدةٍ على الساحل الشمالي الغربي لأفريقيا. وأشار سجل رحلته إلى أنه أسَّس ست مستعمراتٍ جديدة، وبعد ذلك وصل إلى مصبِّ نهر «ليكسوس»، وهو نهر درعة في المغرب.

وبعد البقاء لفترةٍ من الوقت مع سكان منطقة نهر ليكسوس، وهم شعب رعوي من البربر، اصطحب بعضًا منهم كمترجمين وواصل طريقه جنوبًا. تجدر الإشارة إلى أن وجود أشخاصٍ قادرين على القيام بدور المترجمين — وعلى طول الساحل لمسافاتٍ كبيرة — يَفترض وجود تجارة داخلية، لا يمكننا إلا أن نُخمِّن أنها كانت تحدث برًّا.

علاوةً على ذلك، إن هؤلاء المترجمين، عندما نقلهم حانون لخارج نطاق قدراتهم؛ أي بعد السنغال، كانوا لا يزالون قادرين على إخباره بأسماء المعالم الرئيسية بطول ساحل غينيا. أبحر الأسطول على مدى ثلاثة أيامٍ حتى وصل إلى جزيرةٍ صغيرةٍ بالقرب من مصبِّ نهر، وأُنشئت في هذا المكان مستعمرة سرن، وهي المستعمرة الجنوبية من المستعمرات الفينيقية؛ وتقع تقريبًا بالقرب من مصب نهر السنغال. وبالحكم من خلال المصادر الكلاسيكية اللاحقة، يبدو أن سرن ازدهرت لعدة قرون؛ ومن ثَمَّ لا بد أنها تركت آثارًا لها لعلماء الآثار في المستقبل.

وانطلاقًا من سرن، استكمل حانون إبحاره، فدار حول الرأس الأخضر وأبحر بطول ساحل غينيا متجاوزًا خليج بنين وحتى خليج بيافرا؛ حيث خاف كثيرًا بسبب الثورات البركانية لجبل الكاميرون، الذي كان حينها يُسمَّى «عَرَبَة الآلهة». كما كان منزعجًا أيضًا بسبب الحياة الليلية للجزء الداخلي من البلاد خلال هذا الجزء من الرحلة؛ حيث كانت النيران تشتعل في مناطقَ كثيرةٍ منه؛ ولم يكن يعلم أن هذا لا بد أنه الموسم السنوي لحرق القش والأشجار الصغيرة استعدادًا لمحاصيل العام الجديد.

أوضحت الحفريات الأثرية في موقعين في كهفٍ وملجأٍ صخري، واحد في غانا والآخر في نيجيريا، نوع حضارة العصر الحجري الحديث الأخيرة ذات النمط القبصي التي لا بد أنها كانت مسئولة عن هذه الحرائق في معظم أنحاء غينيا، والتي يبدو أن صناعة الفخار لديها واصلت التقاليد الزخرفية التي على شكل «خطوط متموجة»، الشائعة لدى المهاجرين الزنوج الأصليين القادمين من أعالي النيل.

ربما كان الانتشار الواسع النطاق لحضارة «غينيا في العصر الحجري الحديث» هو السببَ في بناء المتاريس الترابية الدفاعية في أبودم ومانسو في غانا، التي ربما أُقيمت بسبب زيادة انعدام الأمن منذ حوالي عام ٢٠٠ ميلاديًّا فصاعدًا؛ وهو الوقت الذي بدأ فيه استخدام الحديد على نطاقٍ أوسع.

ومن ثَمَّ، فإن هذا الجزء من رواية حانون ذو قيمةٍ كبيرةٍ بالنسبة إلينا في تقييم التقدُّم الذي تم إحرازه في الزراعة في ذلك الوقت؛ من المؤسف أننا لا نعرف ما الذي كان يُزرع، ولكن يبدو من المؤكَّد أنه كان محصول حبوب. كما أشارت الرواية أيضًا إلى أن حانون كان يحصل على الذهب مقابلَ بضائعه، ولكن لم نعرف مكان حدوث ذلك. ومع ذلك، من الواضح أنه حتى في هذا الوقت المبكِّر كانت قيمة الذهب كمادةٍ للتجارة معروفةً لأهالي الساحل.

السؤال الذي يطرح نفسه على الفور هو: أين رسا حانون بسفينته وماذا دفع في المقابل؟ يبدو أن الجواب — كما قد يتوقَّع المرء — في المنطقة التي كانت تُعرف بمنطقة ساحل الذهب؛ فقد استُخرِج من «مقبرة رئيس قبيلةٍ شهير» في مانسو في غانا بعض الخرز الزجاجي البلوري منذ حوالي خمسين سنة، الذي يتطابق مع النوع الكلاسيكي المنتمي إلى القرن السادس. إننا لا نعرف مصير «رئيس القبيلة الشهير» هذا، ولكن إذا كان الخرز قيِّمًا بما فيه الكفاية ليكون لازمًا له في العالم الآخر، فإنه يمكن أن يُمثِّل ثروة مكتنزة على نحوٍ متساوٍ لفترةٍ طويلةٍ من قِبَل أحفاد المالك الأصلي له.

على أية حال، التطابق مُقنِع لدرجة أنه يمكن أن يكون من المبرَّر اعتقادنا بأن بضائع حانون التجارية شملت خرزًا جذابًا — مثل بضائع العديد من المستكشفين الأكثر حداثة — وأن الخرز المقدَّم للمتحف البريطاني في عام ١٩٠٥ يُقدِّم دليلًا على أقدم تسجيلٍ تاريخيٍّ للتجارة البحرية المباشرة بين غرب أفريقيا وحضارات البحر الأبيض المتوسط.

في ضوء معرفتنا الضئيلة الحالية لهذه الفترة، يبدو من غير المحتمل أنَّ لِبعثات حانون والمعاصرين أيَّ تأثيرٍ مباشرٍ على السكان الأصليين أو الزنوج في غرب أفريقيا. ومن ناحيةٍ أخرى، ربما تأثَّر البربر في الساحل الشمالي الغربي إلى حدٍّ كبيرٍ بالتواصل الوثيق والودود مع هؤلاء الملاحين العظماء.

علاوةً على ذلك، فإن وجود هذه المستعمرات التجارية لعدة قرونٍ مع الوجود شبه المؤكد لحِرَفِيِّيها الماهرين — خاصةً في مجال الأشغال المعدنية — ربما أثَّر في النمو المادي للممالك اللاحقة في غرب أفريقيا بطرقٍ لسنا في وضعٍ يسمح لنا بدراستها على نحوٍ جادٍّ بعدُ.

بينما كانت هذه الأحداث العظيمة تحدث بطول ساحل غينيا، كان هناك حدث أعظم يقع في منطقة هضبة بوتشي بشمال نيجيريا؛ حيث إنه في هذا المكان كان المهاجرون المتقدِّمون من العصر الحجري الحديث يُرسون الأسس والتقاليد الفنية التي أنتجت أول حضارةٍ زنجيةٍ كبيرةٍ في أفريقيا. إن الحضارة المعروفة لدى علماء الآثار باسم «حضارة نوك» يبدو أنها تطوَّرت على الهضبة التي يبلغ ارتفاعها أربعة آلاف قدمٍ خلال المناخ الأكثر مطرًا من العصر الناكوراني (الأخير) المطير، وذلك بعد وقتٍ قصيرٍ من حوالي عام ٨٠٠ قبل الميلاد، وفقًا لأحدث تأريخ بالكربون المشع.

مع ذلك، يبدو من المرجَّح أن أبرز المنحوتات الطينية لرءوس البشر وأجسامهم، التي تُمثِّل السِّمة الأساسية لهذه الحضارة — أول فنٍّ زنجيٍّ قديم — لم تُنتَج إلا بعد عدة قرونٍ لاحقةٍ، وربما فقط قرابة نهايتها؛ أي حوالي عام ٢٠٠ ميلاديًّا؛ وذلك مرةً أخرى وفقًا لأحدث تأريخ بالكربون المشع، مع أنه ينبغي إضافة أن هذا التأريخ يتوافق على نحوٍ وثيقٍ للغاية مع التأريخ السابق المعتمد على أسسٍ جيولوجية. على أية حال، من خلال نمطها الناضج والواثق على نحوٍ رائعٍ وكونها نماذجَ للإتقان الفني، من الواضح أن أعمال الطين النضيج (التراكوتا) تلك هي نتاج فترةٍ طويلةٍ من الرخاء والتطوُّر النشط.

لا بد أنه حدث أيضًا تطوُّر حضاري كبير؛ فنشأت طبقة من النبلاء والكهنة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون داخلية الأصل تمامًا، ورافق ذلك توسع تدريجي لدرجة أن الحضارة في مراحلها الأخيرة حازت درجةً ملحوظةً من التوحيد في جميع أنحاء منطقتها المعروفة الآن، التي امتدت نحو ٣٠٠ ميل من الشرق إلى الغرب. أما الآثار المادية الأخرى، فتتمثَّل في المنتجات الفخارية المحلية وأدوات الحفر المعتمدة على الحجر المثقوب والفئوس الحجرية المصقولة، التي يكاد بعضها يكون متطابقًا مع الأدوات الموجودة لدينا من فترة العصر الحجري الحديث.

كما ينبغي الإشارة إلى أطباق الشفاه المصنوعة من الكوارتز، وهي شكل من أشكال الزينة تستخدمه بعض القبائل الوثنية في المنطقة اليوم، وكذلك إلى حقيقة أن قصات شعر الرءوس المنحوتة المصنوعة من التراكوتا ما زالت رائجةً أيضًا في الوقت الحالي. وفي المراحل النهائية لتلك الحضارة، من الواضح أنهم اكتسبوا معرفةً بكيفية صنع الأشياء من الحديد؛ إذ وُجدت بعض فئوسٍ من الحديد مصنوعة بنمطٍ مماثلٍ لتلك المصنوعة من الحجر؛ وقد وُجدت أيضًا أدلة على صهرهم للحديد. ويبدو أن القصدير المحلي قد استُخدم أيضًا؛ إذ استُخرج من المنطقة بعض الخرز المشابه للصدف والأدوات اللولبية المصنوعة من القصدير.

إن العمق الكبير الذي وُجدت عليه الكثير من الأدوات الخاصة بهذه الحضارة — والذي ليس دائمًا مؤشرًا على طول فترة الحضارة في علم الآثار الأفريقية — يختلف بحيث يصل إلى سبعٍ وعشرين قدمًا في الموقع الرئيسي في نوك. في الحالات العادية يمكن فقط التنقيب عن الاكتشافات على مثل هذا العمق على مساحةٍ واسعةٍ من خلال مشروعٍ تجاري، وأصبحت عمليات تعدين القصدير الحديثة مسئولةً الآن عن اكتشاف هذه الحضارة الرائعة على مساحةٍ واسعة.

فرواسب الرمل والطين الأزرق والرمال الأكثر حداثةً التي تقع بهذا الترتيب على الحصى القاعدي الذي يحتوي على هذه الاكتشافات؛ مؤشر على سبب النهاية المفاجئة ظاهريًّا لحضارة نوك في حوالي عام ٢٠٠ ميلاديًّا؛ ففي هذا الوقت كان العصر الناكوراني المطير قد انتهى وحل محله الظهور التدريجي للمناخ الأكثر جفافًا. كان على هذا المجتمع المزدهر والمتوسع الحفاظُ على نفسه في ظل ظروفٍ صعبةٍ على نحوٍ متزايدٍ ناجمةٍ عن النتيجة الحتمية بأن التربة أصبحت مجهَدة ومجدبة، في حين أصبحت هناك حاجة لتمهيد وزراعة مزيدٍ من الأراضي.

لم يتأكَّد بعدُ ما إذا كان لدى الزنوج في هذه المرحلة بقر — أحد الأعمال الفنية غير الكاملة المصنوعة من التراكوتا ربما تُمثِّل بقرة — ولكن إذا كان لديهم، فإن هذا البقر والماعز أثناء بحثهم عن المراعي الآخذة في التناقص من شأنه أن يُقلِّل كثيرًا من الغطاء النباتي الطبيعي. وربما تأتي الكارثة النهائية مع وصول موسم الأمطار الناتجة عن العواصف الاستوائية الشديدة، عندها سوف تتآكل الأرض بشدة؛ لأنها لم تَعُدْ قادرةً على الاحتفاظ بالماء وامتصاصه.

هذا، بدوره، من شأنه أن يؤدِّيَ إلى زيادة حجم الجداول والأنهار بسرعة، مع تآكُل ضفافها واجتياحها للقرى الموجودة في أودية النهر؛ مما سيُغرق المنازل والمقابر الواقعة بها؛ ثَمَّةَ عملية مشابهة جدًّا تحدث الآن في أجولو في شرق نيجيريا؛ حيث غُمرت الأرض المنخفضة بالمياه وتشبَّعت بها؛ مما شكَّل مستنقعاتٍ أو بُحيراتٍ تراكم فيها الطمي ببطءٍ في السنوات التي تَلَتْ ذلك. ربما استغرقت هذه العملية عدة سنوات، ولكن كان انهيار حضارة نوك لا مفرَّ منه؛ إذ لا بد أن الهجرة أصبحت بالنسبة إلى عددٍ كبيرٍ من أفرادها ضرورية.

إن ظهور مثل هذه الحضارة في فترةٍ مبكرةٍ للغاية كهذه، وتمتُّعها بهذا الفن الفريد من نوعه والمتطوِّر — واحتمال وجود منحوتات خشبية المفهوم ضمنًا من تكنيك صناعة أحد أعمال التراكوتا — يُغيِّر تمامًا مفاهيمنا السابقة حول التاريخ الزنجي. هل يمكن أن يعود أصل الفن الزنجي في غرب أفريقيا إلى نهضةٍ تعود إلى الألفية الأولى قبل الميلاد؟ يؤسفني أن أقول إن الجواب يجب أن يكون «لا»؛ الأدلة غير كافيةٍ حتى الآن لتبرير مثل هذا الادِّعاء. ومع ذلك، يصاب المرء بالدهشة جرَّاء أوجُه تشابهٍ معينةٍ بين أعمال التراكوتا الخاصة بحضارة نوك وتلك الموجودة في مدينة إيفي في الجنوب، والتي صُنعت بعدها بكثير، مع أن هذه التشابهات ربما تكون ظاهريةً فحسب.

على سبيل المثال، في كلتا الحالتين، للطين مظهرٌ مماثل ويشتمل على مسحوق طينٍ مطبوخٍ خشنٍ من الكوارتز؛ ويتشابه استخدام الخطوط المتعاقبة لإظهار الظل مع أعمال إيفي، والأشخاص في أعمال نوك يرتدون عمومًا سلاسلَ من الخرز تتشابه إلى حدٍّ كبيرٍ مع ما يرتديه الأشخاص في الأعمال الطينية والبرونزية في إيفي. ولأنه من الصعب تصديق أن مثل هذا التقليد الفني الكبير كان سينقرض تمامًا، ولأنه يبدو من المؤكَّد أن القوام الرئيسي للحضارة كان سيُضطر إلى الهجرة إلى مناطق جديدة، فإنني أميل إلى الاعتقاد بحدوث الهجرة نحو الجنوب والغرب؛ حيث ستكون البلاد أقل سكانًا ومهيَّأة للغزو من قِبل الغزاة الأكثر تقدُّمًا ويأسًا. وربما تناثرت مجموعات من هؤلاء الغزاة — تحت قيادة زعمائهم المتعددين — وانتشروا في غرب أفريقيا، حاملين معهم بعض عناصر حضارتهم السابقة، التي من شأنها أن تتطوَّر حتمًا من جديدٍ وعلى أسسٍ جديدة.

ومن غير المرجَّح أنهم توجَّهوا شمالًا؛ إذ إنهم كانوا سيقابلون هناك شعوبًا أخرى، منشغلة في الوقت نفسه بالتدفُّق جنوبًا وغربًا نتيجة الهجرة التدريجية من مناطق الصحراء الكبرى ومن النوبة.

في السنوات الأخيرة حدثت سلسلة من الاكتشافات الهامة الأخرى في شمال نيجيريا للوحاتٍ في كهوفٍ أو ملاجئَ صخرية، مرتبطةٍ بصخورٍ رنانةٍ وشريحةٍ صخرية، وقد تُوفِّر أيضًا أدلةً حول الدين والاقتصاد الزراعي في حضارة نوك، أو الحضارة التي تَلَتْهَا مباشرةً. واكتُشفت مصادفةً مجموعة أخرى من اللوحات — التي تضم أشكالًا بشرية — في كهفٍ كبيرٍ في جيجي على هضبة بوتشي.

تُصوِّر اللوحات نوعين من الماشية، ماشية «الحاميين»٦ أو البربر الكبيرة الطويلة القرون التي بلا سنام، والتي جاءت عبر الصحراء الكبرى من شمال أفريقيا قرب نهاية الألفية الأخيرة قبل الميلاد، والتي ما زالت موجودةً في مرتفعات غينيا الفرنسية؛ وماشية غرب أفريقيا الأصغر القصيرة القرون، التي بلا سنام، والتي بَقِيَ عدد قليل من قطعانها وسط القبائل الوثنية في منطقة الهضبة، وفي أقصى الجنوب في حزام الغابات الاستوائية المطيرة التي تأوي ذباب التسي تسي.

ربما يمكن تفسير غياب السلالة الطويلة القرون في هذا الجزء من غرب أفريقيا في الوقت الحالي بتهجينها مع ماشية درباني ذات سنام جُلبت على ما يبدو من الشرق، وربما من الهند، في القرن الأول الميلادي، وهي النوع الموجود هناك الآن. واستمرار وجود السلالة القصيرة القرون بين القبائل الوثنية في الهضبة، التي يوجد اتصال واضح بينها وبين حضارة نوك، كما رأينا بالفعل؛ يُغري المرء بالاعتقاد بأن السلالة كانت مملوكة لهذا الشعب القديم؛ ومن ثَمَّ وجود هذه الماشية في الجنوب يتماشى مع نظرية الهجرة جنوبًا وغربًا في وقت تفككهم حوالي عام ٢٠٠ ميلاديًّا. وكشفت أعمال التنقيب في الملجأ الصخري الذي وُجدت فيه لوحات الماشية القصيرة القرون عن مجموعةٍ من الأدوات المصنوعة من الحديد والحجر التي تشير، إلى جانب جزءٍ من سوارٍ حجري، على نحوٍ أكثر وضوحًا إلى وجود اتصالٍ بحضارة نوك.

بينما لا يوجد حتى الآن سوى عددٍ قليلٍ من المواقع المحتوية على رسوم، فإن الصخور الرنانة المرتبطة بها وُجدت على مساحةٍ أوسع مع عدة شرائح صخرية، وفي الموقع الرئيسي توجد الثلاثة معًا. وتتكون الصخور الرنانة ببساطةٍ من قطعٍ صخريةٍ ناتجةٍ عن تقشُّرٍ في الجرانيت، تُعطي نغمة تشبه نغمة الجرس عندما تُضرب؛ ومن ثَمَّ يمكن استخدامها في إنتاج موسيقى إيقاعية. ولا يزال الكثير منها قيد الاستعمال الجاد في حين أن أخرى، مثل الشرائح الصخرية، تُستخدم للتسلية فقط. وثَمَّةَ حقيقة مثيرة جدًّا، وهي أن الصخور الرنانة والشرائح الصخرية كلٌّ منها موجود على نطاقٍ واسعٍ في أفريقيا، كما أنها موجودة أيضًا في أوروبا، وحتى — على سبيل المثال — في ويلز.

وهناك حتى يومنا هذا، هذه الأخيرة أحيانًا ما تُستخدم في شكلٍ بسيطٍ من طقوس «الخصوبة» من قِبَل الشباب المخطوبين؛ وهي في الواقع عادة شعبية من العادات الوثنية القديمة تنتمي إلى حقبة ما قبل المسيحية وتعود أصولها إلى العصر البرونزي. ففي شمال نيجيريا ترتبط الصخور الرنانة في كثيرٍ من الحالات باستمرارِ ممارسة طقوس الخصوبة الدينية الوثنية القديمة. وسيتبيَّن ممَّا سبق وجود بعض الدعم لنظريتي الثانية بأن عناصر من الديانة الميغاليثية العظيمة وصلت في نهاية المطاف حتى زنوج غرب أفريقيا، وكذلك شرق أفريقيا، وجُلبت عبر الصحراء الكبرى عن طريق شعوب البربر رعاة البقر «من ذوي الأصول الأوروبية».

كانت هذه الديانة بلا شكٍّ الديانة المُتَّبَعة على نطاقٍ واسعٍ في المناطق الشمالية حتى انتشار الإسلام في القرن التاسع عشر الميلادي، في حين أن تأثيرها في الجنوب والغرب استمرَّ لبضعة قرونٍ حتى حلَّت محلها إلى حدٍّ كبيرٍ المعتقدات النوبية المصرية الأصل من حوالي نهاية القرن الرابع وما بعده.

يبدو أنه يوجد سبب وجيه أيضًا لنفترض أن الأعمال الفنية الخاصة بمدينة إيفي٧ لها علاقة على نحوٍ ما بالتقليد الفني القديم لحضارة نوك، والتي من الصعب أن تختفيَ تمامًا كما سبق أن ذكرت. كان يُعتقد لفترةٍ طويلةٍ أن المذهب الطبيعي في أعمال إيفي الفنية غريبٌ عن أفريقيا، ولكن في واقع الأمر يمكن إثبات أنه معتاد في الفن الزنجي.

على هؤلاء الذين يرغبون في رؤية هذا الفن الكلاسيكي محاولة زيارة المتحف البريطاني. ويوجد أيضًا عرض دائم هناك في قسم الإثنوجرافيا لأعمال التراكوتا الرئيسية المكتشفة الخاصة بحضارة نوك.

ملاحظات

١- القبصيون: سلالة من أسلاف البربر؛ شعب «أوروبي» «أبيض» أو بُنِّي البشرة، سُمي بهذا الاسم نسبةً إلى الموقع الأثري «قفصة» في تونس، كانت لهم حضارة حجرية تسكن الأراضيَ المرتفعة وتعتمد على الصيد باستخدام القوس والسهام الشائكة، وتتشابه في هذا الأمر مع حضارة العصر الحجري المتوسط لدينا.

٢- تم استخدام المصطلح هنا بالمعنى الأثري والمادي على نحوٍ أساسي.

٣- العصر الحجري الحديث في الصحراء الكبرى: لا تزال حضارة تعتمد على الصيد وتتضمن تقاليدَ من تقاليدِ القبصيين جزئيًّا، مع تحسُّنٍ في تقنيات صنع الأدوات الحجرية اكتسبتْه من شعوب الشرق في العصر الحجري الحديث، مع الاعتماد اللاحق على رعْي البقر.

٤- مطيرة: فترات هطول أمطار شديدة للغاية في أفريقيا، يبدو أنها تتوازى تقريبًا مع الفترات الجليدية لدينا.

٥- ذكر المؤرخون في هذا الشأن تواريخَ مختلفةً في القرن السادس قبل الميلاد.

٦- الحاميون: مصطلح لغوي يشير إلى شعوب شمال أفريقيا التي عاشت منذ أمدٍ طويل، والتي كانت من البربر أو «من ذوي الأصول الأوروبية» (شعوب البحر الأبيض المتوسط​​)، مقارنةً بالغزاة الساميين أو العرب من السلالة الأصلية المماثلة، الذين جاءوا في وقتٍ لاحق.

٧- يمكن الحصول على كُتَيِّبٍ بهذا العنوان مزوَّدٍ بصورٍ ملونةٍ من مؤسسة «كراون أيجنتس»، وعنوانها ٤ ميلبانك، إس دابليو آي؛ أو المتحف النيجيري، لاجوس، نيجيريا.

14 Dic, 2015 02:03:23 PM
0