Salta al contenuto principale
فضاء المكان وتقلبات الزمان في رواية الموت الجميل لجمال أبو حمدان

إذا تجاوزنا عبارة الإهداء، في مستهل رواية الموت الجميل، التي تضعنا وجها لوجه أمام حقيقة أساسية، وهي أن الرواية رواية مكان، في المقام الأول، فإنّ العبارة الأولى في الشذرة الموسومة بعنوان (سراج) تضعنا ثانية أمام تلك الحقيقة التي لا تتنافى مع وحدة الزمان، والمكان. يقول الراوي (الحفيد) استقبلتني لحظة دخولي موجة غامرة من عبق العراقة، ورائحة تخثّر الزمن.  

فالمكان لا يذكر لنا اسمه إلا بتعبيرات عامة، مثل: آتي إلى المكان.. الدرب بين القرية والبرية.. أحاذي المكان. يتناهى المكان في غموضه. أترك المكان وراءَ وعيي .. فهو لا يفتأ يرسم في أفق النص تضاريس القرية بهذه الطريقة التي لا تذكر للأمكنة أسماءً محددة. فالدرب التي تصلها بالقرى الأخرى، وبالبرية من حولها، تغدو في رؤاه البصرية لهاثا متلويًا بين نقطتين « تظل الدرب وحدها تلهث ممتدة بين القرية والقرية.. « وما هي إلا لحظاتٌ يمضي بها القارئ حتى تستحيل الدرب، من حيث هي مكان، إلى رحلة في الماضي: « لم تكن دربًا. سواها تتابع عبور أقدام الناس، والدواب، عبر زمن بطيء الإيقاع. « 

 

والمكانُ يضم في أرجائه القنديل، والشجرة، والبوابة، والبئر، ولكلِ ركن من هذه الأركان المكانية حكايته في أزمنة الراوي. فالبئر حفرتها يد الإنس في زمن سحيق. والبوابة  تعود به إلى زمن شيدت فيه الدار الكبيرة، وأنجزت في طقوس تنتهي بأضحية (ذبيحة) ووليمة لا تبقي من الذبيحة إلا عظما كثيرًا، ولحمًا قليلا. والمقبرة هي الأخرى مكان آخر، والقبر الذي دفن فيه الغريب- صريع البئر- قبرٌ غريب هو الآخر. والغريب الذي طرأ على القرية ليس غريبًا في الواقع، وهذا ما تقوله سيرته المدونة في أوراق يعثر عليها الراوي مخبأةً بين حجرين بعيدين عن حافة البئر.

 

ومن اللافت للنظر أن هذه الفسيفساء من الأمكنة، لا تعدو أن تكون رموزًا تلخّصُ محتوى الحكاية، ومفاتيح تقودنا بسلاسة في منعرجات الخطاب السردي. فهو لا يذكر المدينة إلا بعد متواليات تظهر فيها الكثير من التفاصيل عن القرية، والدار المهجورة، وعن موت صاحب الأوراق، وعن قبره. وتتمدَّد القرية بظلالها على أركان الحكاية بما فيها من زمان، ومن مكان. ويجري التنقل باطراد بين فضاء القرية، ومكان خاص فيها هو الذي يسميه الراوي الدار المهجورة. فهي مكانٌ مغلفٌ بالأسرار، وأكثر هذه الأسرار غموضا أنها شيدت قديما على الخط الوهمي الفاصل بين الحياة والموت: « كنت أقف متسائلا أمام هذا البيت دون أن يفصح لي عن أسراره، لماذا هذه الحجارة السود؟ هل كانت سودًا لأن كل حجارة القرية كذلك، أم لأنَّ قلوب أهلها قلوبٌ بيض؟ « 

 

ومثل هذه الأمكنة تستفز الراوي، الذي يحاول التعرف على ما تخفيه زواياها الخالية من أسرار. وفي محكيِّه عما تخفيه الدار المهجورة ما يأخذُ بأنفاسنا : « بعد برهة أخذت أعماقي ترتعش، وأصابتني قشعريرة مباغتة، لم أدر لحظتها إن كانت نابعة من هواجسي تجاه عالم مجهول وجدتني أمامه، أم من اختلاط الرؤى التي راحت تنداح أمام عيني مما شهدته عبر الزجاج، دون أن أقدر على تبيُّن الحقيقي فيه من المتخَيَّل ... «  وفي « الموت الجميل « لكلّ مكان حكاية، وليس ثمة من هو أدقُّ روايةً لهاتيك الحكايات من الجدّ. على أنه بدلا من أن يروي لحفيده حكاية تلك الدار المهجورة، تحشْرَجَ صوته، وتهدَّج، ثم راح ينتحبُ بصوت مخنوق. « 

 

وإذًا، ثمة مأساة وراء هذه الدار المهجورة. ومأساة أخرى وراء ذلك القنديل الذي هجره الضوء، ولم يعد مضيئا مثلما كانت عليه الحال في الماضي. فالزمن، ها هنا، يتكسَّرُ على حافة المكان. والحياة تتناثر أباديد على إيقاع الجنائز المتكررة في مدوَّنة الغريب التي تشبه لحن الرجوع الأخير. يقول المخطوط الذي تلقفه الراوي الحفيد، وراح يتصفح تحت ضوء السراج الواني: « أبي أقعده المرض.. كان يطلب الموتَ ويتشهَّاه.. أخي باغته الموت على مفرق من مفارق الحياة. واختطفه إليه. أمي كانت تتوسد شقيقتي الصغرى على صدرها، وتنقل إليها لبانة الحياة من ثديها، حين زارها الموت زيارة هادئة، ريِّقة. اختطفَ الأمَّ أولا، ثم – ولربما طلبت الأم ابنتها من وراء القبر- فجاءَها الموتُ بعد أيام .» 

 

تنتهي هذه المدونة بأسئلة عن حقيقة الحياة والموت. ولأول مرة يذكر الكاتبُ على لسان الراوي صاحب الأوراق: المدينة، دون أن يطلق عليها اسمًا كعادته. جاء ذلك في سياق التخلي عن المكان الرائق. فبعد أن مات من مات، غادر صاحب الأوراق القرية إلى المدينة، لدراسة الحقوق، فالمدينة تضجُّ بالحياة، والصخَب، مثلما توهم الغريب. لكن، أي حياة تلك التي تضج بها المدينة؟ أهي حياته هو أم حياة الآخر؟ ينتهي في هذه الوريقة التي يقرؤها الراوي الحفيد بتساؤل غامض، وهو: أين تنتهي حياة الآخر، وأين تبدأ حياة الذات ؟

 

قُدر لطالب الحقوق أن يموتَ غريبا في بئر القرية، ذلك البئر الذي حفره الإنس في زمن عميق. لا أحد يتعرف عليه بادئ ذي بدء. وعلى إيقاع الجنائز، والدفن، يستأنف الراوي رسم التضاريس: الحقول، البساتين، والحواكير المليئة بأشجار اللوز، التي يتوهج زهرها في الربيع. والجد الذي يستذكر الماضي مستندًا إلى عكازه الذي هو صلة الوصل بين الموت الآجل، والحياة الآفلة. يستذكر الماضي جامعًا بين رائحة اللوز الطري، ورائحة الدخان المتصاعد من المواقد. وحديث اللوز، والدخان، ينبعث من بؤرة الحكاية التي تقوم على أساس مهم، وهو أن القرية صندوق حكايات. ومن ذلك حكاية الفتاة التي استهواها المكان الخَرِبُ، في الدار المهجورة، فالتجأت إليه، وقد رآها الراوي (الحفيد) بعينيها البنفسجيتين المبللتين بالندى. تلك الحكاية تضيف إلى أسرار القرية المغلَّفة بالكتمان الكثيف سرًا غامضًا جديدًا:» انبثقت في المكان الغريب، واختفت منه، ولكنها لم تختفِ من وعيي أبدا».

يكتشف القارئ أن بين هذه الإشارة، وما يعقبها من متواليات، علاقةً ما، لأن صاحب المخطوط، وهو الشخص الذي يتسلم مهمة السارد، لاحقًا، سيتعلق بفتاة في المدينة لا تعرف إلا باسم ذات العينين البنفسجيتين، أو فتاة النيون. وهي تسمية لها علاقة بالمكان، فقد رآها للمرة الأولى فيما نظن تحت أضواء النيون المنعكسة في عينيها المبتلتين ببقايا دموع، وفي هذه الجزئية من الحكاية يتجلى التماسّ بين المدينة، التي تضج بالحياةِ، والصخَب، والقرية الهادئة، النائمة بوداعة تحت تحت طبقات من الزمن المتخثر برائحة الماضي العريق:» عينان بنفسجيتان تومضان تحت النيون. فلا يقدر بضوئه الباهر على أن يطغى على وميضيْهما. فهل سأموت قبل أن أعرف ما الذي أوقفها تلك الليلة تحت ضوء النيون.. على قارعة طريقٍ ذي اتجاه واحدٍ يُفضي إلى الحياة والموت معًا. لماذا انجذبتُ إليها، وأنا مذ قدمت إلى المدينة أكرهُ أضواء النيون .. « 

تنتهي الشذرة السادسة والعشرون بهذا التساؤل، ممهدًا لسلسلة من الوقفات المكانية في متخيل الكاتب السردي.

ففي شذرة أخرى، نجدهُ – أي الراوي صاحب الأوراق- يقول عن المدينة: « ليلُ المدينة يتحول إلى جدار صلب، شاهق، وأملس، وأنا متروك عند أسفله. فيما كنت أتحول إلى أنبوبٍ ضيِّق لمديد الرغبة الحارَّة «. ويصفُ سكان المدينة وصفا لا يخلو من معنى: « كأنهم مجموعة أسماك موزعون في أحواض متقابلة، كل منهم يجهد في ألا يرفع رأسه فوق ماء الحوض الصغير «. وفي المدينة لا يهم إن كانت للأشخاص أسماءُ، أم لم تكن. فما فائدة الاسم إذا لم يكن للمرء فيها عالمه الخاص؟ والشيءُ الوحيد، الذي ينعُم به طالب الحقوق، في المدينة، هو العتمة، وطيف الفتاة الموسومة بفتاة النيون. ومع اندماج الراوي الحفيد بصاحب الأوراق، ومذكراته، تتسع الحدود التي تباعد بين عالم المدينة، من حيث هي مكانٌ روائي، والقرية، فإذا كان كاتب الأوراق يسير في دروبه كالأعمى على غير هدى، فإن الراوي الحفيد يتنقل في فضائه هو من باب لباب، ومن موت سابق يتذكرهُ، إلى موت لاحقٍ يفاجأ به، كموت وطفا النعمان، التي لم تكن تشكو مرضًا، ولم تكن كبيرة في السن حتى تنتظر الوفاة. وفي الشذرة الخامسة والثلاثين يقترب الراوي- مرة ثانية - من المدينة بما تثيره في النفس من حذر، ومن رهبة، فقد كتب صاحب الأوراق عن هذا يقول: « سكنت في غرفة لا بأس بها تبعد مسافة عن الجامعة. صاحبة النزل امرأة «. ويمضي « أنا هنا في هذه  المدينة من أجل الدراسة، لكن هذا الحائط يُضايقني» يتهيأ لصاحب الأوراق أن المدينة تتجسد في ذلك الحائط، فهو مائلٌ، وغير ثابت في مكانه، ويوشك أن ينقضّ. وتعرض عليه صاحبة النزل غرفة أخرى، فيرد: إنه يشعر بنفسه مثل جسم جرى قذفه بسرعة منتظمة، ولما يصلْ بعْدُ إلى قراره، فهو ما يزال يتهاوى. والشيء المضيء الوحيد في فضاء المدينة المعتم هو تلك الفتاة، التي رآها تحت أضواء النيون، وقد شاءت الأقدار أن يراها مرة أخرى على هامش جنازة كانت تمر في الشارع المحاذي للنُزْل، ولنلاحظ - ها هنا - ربط الراوي – صاحب الأوراق- بين الجنازة، ومرور الفتاة، ورؤيته لها مستندة إلى حائط المقبرة العتيق .. « فبريق الأمل لا يومضُ إلا وهو على صلة بالموت، والمقبرة. 

 

ثمة تلميح لعلاقة بين هذه الفتاة بالفتاة التي ظهرت فجأة في الدار المهجورة، وطاردها أهل القرية مطاردة الذئاب المسعورة  قبل أن يسلموها للشرطة، ومثل هذا الربط يجعل من تجاور المكانين؛ المدينة والدار المهجورة، إشارة غير مباشرة ترمز للشعور العميق بخواء المدينة، وما توحي به من بَوارٍ يحرم المرء فيها من الشعور بالدفء، وبالعلاقات الحميمة المعتادة. فهي مكان طارد يخلو من الألفة. ومقابل هذا الإحساس بالتقزز من المدينة نجد الراوي متلهفًا لسماع ما يتعلق بالدار المهجورة، التي تفصلها عن المدينة أزمنةٌ، ودروب. فهو لا يمل الحديث عن وضع الدار، وعن بيوت العناكب، وعن الغبار المتراكم في هدوء على عتبات النوافذ العارية، ولا يمل الحديث عن البندقية التي هي شاهد على ماض مجيد في مقاومة الفرنسيين. ولا يمل الحديث عن السرير، الذي لم يعد ثمة من ينامُ فيه. وهو السرير الذي سيتكرر الكلام عليه عندما يتزوج طالب الحقوق من فتاة النيون، ويأتي بها للقرية. تلك المرأة كانت قد عافت المدينة، وتاقت للحياة في القرية، حيث القناديل التي تضاء بالزيت بدلا من أضواء النيون.. وحيث الدفء الذي يتيح لها الخلاص مما في المدينة من صقيع: « سترى أن البرودة ليست برودة السرير، ولا برودتي، ولكنها برودة المدينة . «  وحتى الدار المهجورة التي يستمرئ الحديث عنها يتطرق إليها طالبُ الحقوق. فعلى الرغم من أنها مهجورة، إلا أنه يجد فيها من الارتياح النفسي ما لا يجده في مدينة تعجّ بالضجيج، والصخب. وعندما تجدُ الفتاة نفسها أمام خيارين؛ إما البقاء في القرية بالرغم من نفور الناس منها، ومعاملتهم لها بصفتها غريبة، وطارئة، أو العودة إلى المدينة، تختار بلا تردد البقاء في القرية: « لا. سنبقى في القرية. هذه قريتك. وأنا أحببتها. وستصير بعد زمن قريتي ... « 

 

كلاهما يحاول التخلص من ثقل المدينة على الروح: هي تريد التخلص من ماضيها، بما يمثله من برودة، وخواء عاطفي، وهو يحاول النجاة من مدينة تبدو له كحائط مائل يريد أن ينهار عليه، ويلحقه بأفراد أسرته ممن فقدهم : الأب والأخ والأم والأخت، واحدًا تلو الآخر، لتصبح الدار العامرة بالحياة- مثلما يقول الجد - دارًا مهجورة.

فالأمكنة، في هذه الرواية، إذا تخطينا ثنائية القرية والمدينة، تغرق في التفاصيل الدقيقة التي تكتنه علاقة الإنسان بالمكان، دون أن تبتعد عن علاقته بالزمن. فالحبّ الذي ربط بين صاحب الأوراق- طالب الحقوق- وابنة القرية؛ وطفا النعمان، جرى في ظلال شجرة اللوز التي تزهر في الربيع. ومغادرة البلدة كانت بهدف التخلص من تبعات تلك العلاقة التي انتهت بقطف الثمرة تحت شجرة اللوز المزهرة. وعند تذكيره بذلك، يفقد إحساسه بالزمن. بل يفقد إحساسه بتحولات الليل والنهار، ولا يعي إلا شيئا واحدا هو اختلاط الدوي بكلمات وطفا، دويٌ يشبه دويَّ رصاصة كتلك التي تنطلق من البندقية الممدة على السرير في الدار المهجورة. والموقف الغامض، الذي يحيط بطالب الحقوق، سرعان ما ينجلي عندما يخاطبه الجدُّ قائلا: « انت تعرف القرى. والمدن تختلف. لم يقدر أهل القرية، وأنت الوحيد الباقي من سلالة أكبر الدور فيها، أن يروك تترك ابنتهم وطفا  .. النقية . العفيفة. وتذهب بقصد  الدراسة. ثم تعود بزوجة .. « و « المدينة كبيرة. وتستر. وأما القرية فصغيرة تكشِفُ  « 

ولا ينفكّ الراوي الحفيد يتردد إلى الدار المهجورة متأملا ما فيها من بيوت العناكب.والغبار المتراكم.. وينفذ ببصره إلى السرير والبندقية التي تمثل تاريخا مجيدًا مضى. والكتب المبعثرة على الأرض. كتب تعود به إلى زمن الشيخ محيي الدين بن عربي .. وعبر الكتب وقراءتها يطردُ السرد فيما يشبه السيناريو، مشهدًا تلو آخر. طالب الحقوق، فتاة النيون، وطفا التي استرجعها المؤلف من العالم الآخر. مشاهد تمهد لأخرى يختلط فيها المكان بالزمن القُلَّب: القبر، والبئر، والدم، والذبيحة، والبوابة وشجرة الزيتون، والقنديل، والدرب، والسراج، مشاهد سبق لنا أن وقفنا إزاءها في توطئة المؤلف لحوادث هذه الحكاية الغربية، الغامضة، العجيبة، التي لا تكتفي بمحاكاة الواقع، بل تتجاوزه في الحدود التي يسمح بها الخيال العجائبي، مما يضفي على فضاء النص بعدًا دائريًا، فما بدأت به الحكاية تنتهي به، وإن كان ثمة ما يدعو لتوقع دورة جديدة تتيح للراوي الرجوع بنا إلى البوابة، والدار المهجورة، والدرب التي تصل القرية بالمدينة، وتصلها بغيرها من القرى، وربما يكون في ذلك جزءٌ آخر من الرواية.

14 Apr, 2017 10:28:53 AM
0