Salta al contenuto principale

الاحترام

كم هـو عسير أن يبحث المرء في هكذا موضوع ، أو يكتب فيه ! ذلك أن لفظ (الاحترام) كثير التردد على ألسنة الناس ، وواسع التداول فيما بينهم ، حتى أن المراسلات المتبادلة بين مختلف الأشخاص تنعتُ كل مخاطَبٍ بأنه السيد فلان (المحترم) ، وتنهي الخطاب بعبارة مثل (واقبلوا الاحترام )  ويتكرر الحديث عن (الاحترام) كذلك في مجال التربية والأخلاق وقواعد السلوك الاجتماعي ، بل كثيراً ما يستعمل اللفظ في المجالات القانونية والسياسية ، كالحديث عــــــن احترام القانون ، أو احترام هيبة الدولـة ، أو احترام الاتفاقيات الدوليـة وما إلى ذلك  ورغم هذا الزخم في استخدام وتداول وشيوع مصطلح (الاحترام) ، فإنك تكاد لا تجـد معجماً يفسر لك معناه ، أو بحثاً جـاداً يدرس عناصـره ومقوماتـه وأبعاده ! ولهذا ، فإني سأحاول أن أجتهد في تفسير مفهوم (الاحترام) ، وإلقاء الضوء على بعض عناصره وجوانبه وأبعاده ، من خلال اثنتي عشرة نقطة (أُسَمّيها حقائق) ، وهي :


* الحقيقة الأولى ـ الاحترام اعتراف بقيمة شخص أو فكرة :

إن (الاحترام) من حيث أصله ومنطلقه شعور ينطوي على الاعتراف بقيمة شخص أو فكرة ، فإذا انتفى شعوري بالقيمة الإيجابية نحو شخص أو موضوع ، انتفى احترامي الفعلي له ، حيث أن الشعور بالقيمة هـو جوهر الاحترام وعنصره الأساسي وماهيته فلا يستقيم القول باحترامي لشخص إن كان شعوري وموقفي النفسي منه يتسم باللامبالاة به ، أو بالإحساس بقلة شأنه ، أو تدني اعتباره ، أو كان موقفي الوجداني يتسم بالاستهتار بـه.


* الحقيقة الثانية ـ الاحترام سلوك يمارس في الواقع ، ويتعدى مجرد الشعور:

الاحترام لا يظل في صورة مشاعر مكنونة في الوجدان ، وخلجات حبيسة الجنان ، وإنما يُترجم إلى سلوك وواقع عملي على مسرح الحياة ، وهناك عدة مظاهر سلوكية تدل على شعور الاحترام هذا ، فأن تحترم شخصاً أمرٌ يترتب عليه أن تحسَّ بوجوده وحضوره ، وتنتبه إلى حاجاته ورغباته ، وتستمع إليه، وتمتنع عن إيذائه بالقول أو الفعل أو الموقف أما أن تحترم القانون فهذا يعني أن تتقيد بأحكامه بدافع ذاتي ، وأن تحترم الوطن يقتضي ألا تنال منه بقول أو فعل  وهكذا .


* الحقيقة الثالثة ـ الأصل أن الاحترام ينطلق من الذات ولا يفرض بالإكراه :

الاحترام سلوك رضائي ينبع عن الإرادة الحرة ولا يُفرَضُ كرهاً ، فإذا كان غير نابع من العقل والقلب افتقد الصدقيّة ، ولم يعد احتراماً فعلياً ، فاحترام قوانين الدولة مثلاً يعني أن أَلتزمَ بها إحساساً بأهميتها وقيمتها وضرورتها ، واقتناعاً بلزوم التقيد بها انطلاقاً من إحساسي الأخلاقي ومسؤوليتي كمواطن أما إن كنتُ أخضعُ لتلك القوانين لمجرد الخوف من العقاب المترتب عليها ، فذلك مـن باب الرضوخ للقانون وليس احترامه  وشتان بين الشعورين، فالخضوع للقانون تجنباً للجزاء يعني أنني سأخالفه غالباً إذا أَمِنْتُ ذلك الجزاء لأي سبب ، أما تقيدي بالقانون احتراماً له ، فيعني التزامي بــه ، حتى لو ضمنتُ عدم تعرضي للعقاب المترتب على مخالفته.


* الحقيقة الرابعة ـ على الاحترام تنبني فكرة الاخلاق :

لفكرة الاحترام أهمية كبيرة في جميع مجالات الأخلاق بوجه عام ، لأن الأخلاق جميعها تقوم على أساس احترام (القانون الأخلاقي) وفقاً لما يرى الفيلسوف كانت فـــي بحثه لـ (العقل العملي) ، فهـو يقول : (( إن الواجب هو ضرورة إنجاز الفعل احتراماً للقانون الأخلاقي )).


* الحقيقة الخامسة ـ بعض مجالات العمل والحياة تتطلب مزيداً من التمسك بقواعد الاحترام ومقتضياته ومظاهره السلوكية :

كلما زادت الحاجة إلى الانضباط والتقيد بالنظام وسرعة تنفيذ الأوامر ، زادت الحاجة لقيمة الاحترام ، ففي المجال العسكري مثلاً تتعدد مظاهر الاحترام وأشكاله وتطبيقاته فـي العلاقة بين مختلف الرُّتب ، كما فـي أداء التحية مثلاً ، والوقوف المُتهيّء المنتصب ، والتخاطب باللقب ، واستخدام الكلمات التي تدل على سرعة الاستجابة للأوام وفي مجال التربية والتعليم قد تسيح الأمور وتميع وتنفلت ، ما لم تتوافر حدود دنيا مقبولة ومعقولة من احترام المعلم ، واحترام مكان العلم ، ووقت الدرس ، وقوانين المدرسة أو المؤسسة العلمية.


* الحقيقة السادسة ـ يختلف مفهوم الاحترام من مجتمع لآخر :

تتفاوت المجتمعات في فهمها لقواعد الاحترام وتمسكها بها ، وتتفاوت في المظاهر السلوكية التي تعتبرها داخلة في مدلول الاحترام أو خارجة عنه ، فالمجتمعات المتقدمة مثلاً أكثر احتراماً للقانون ، والمجتمعات النامية أكثر احتراماً للعادات والأعراف ، وبعض المجتمعات الراقية تقرر أشكال سلوك الاحترام من خلال قواعد للاتيكيت والبروتوكول وبعض المجتمعات فرض عليها تاريخها أنماطاً متعددة من قواعد الاحترام وسلوكاته ، كالمجتمع الشركسي (الذي انتمي من حيث أصولي إليه) حيث نتج عن تاريخه الطويل في التعرض للهجمات والحروب في بلاده الأصلية ، وَضْعُ قواعد وسلوكات تكاد لا تُحصى في مجال احترام الكبير ، إضافة لعدد كبير من العادات والتقاليد التي تُعبّر عن الضبط وصرامة التقيد بآداب السلوك ، والتربية المتسمة بالحزم والجدية المُعبَّرِ عنها بمختلف مظاهر الاحترام .


* الحقيقة السابعة ـ قد يكون الاحترام موجهاً لشخص أو لفكرة أو للذات:

يمكننا تقسيم مفهوم الاحترام من حيث موضوعه وتَوجُههِ إلى ثلاثة أقسام : فثمة احترام الشخص للآخر ، واحترامه لفكرة ، واحترامه لذاته 0 وبصدد احترام الآخر فإن المبدأ هو أن يكون هذا الاحترام موجهاً للناس كافة تقديراً لإنسانيتهم ، بيد أن هناك نوعاً خاصاً من الاحترام ينبغي أن يوجّه إلى أناس بالخصوص ، كاحترام الأب والأم ، واحترام الأكبر سناً ، واحترام المعلم والقاضي والمسؤول والقائد والعالم أما احترام الفكرة فمثالها احترام القانون ، أو احترام الوطن ، أو احترام العِلْم ، أو احترام الفن ، بمعنى أن نضفي على تلك الأفكار القيمة التي تستحق ، ونمتنع عما ينال منها أو يقلل من شأنها.

أما احترام الذات ، فربما كان مبدؤه يتجلى أكثر ما يتجلى في بيت الشعر الذي يقول :

إذا أنت لـم تعرف نفسك قدرهـا

هواناً بها كنت على الناس أهـونا

بمعنى أن نيل احترام الناس ينطلق أول ما ينطلق من احترام المرء لنفسه ، ويكون ذلك بأن يعطي المرء ذاته قيمة ، أو بتعبير أدق : أن يحفظ لذاته قيمتها ، فيبتعد عن مواطن الهوان ، ويعزف عما يقلل من شأنه ، ويترفع عما يحطُّ من قدره ، ويسعى فيما يخلق له قيمة حقيقة في الحياة والمجتمع ، وفقاً للقاعدة التي تقول : ( يجب أن تكون لك قيمة ذاتية ؛ لتكون لك قيمة اجتماعية) .


* الحقيقة الثامنة ـ احترام الطرف الأضعف في العلاقة واجب أيضاً :

رغم مــــا ذكرنا حول أن البعض يستحق احتراماً من نوع خاص ، كالآباء والمعلمين والمسؤولين وكبار السن ، فهذا لا ينفي أن على هؤلاء أن يحترموا الطرف الآخر ، فاحترام المعلم لتلاميذه ، والكبير للصغير ، والرئيس للمرؤوس، بالاعتراف بقدرهم وعدم إيذائهم بالقول أو الفعل ، مهم وواجب أيضاً.


* الحقيقة التاسعة ـ هناك مجال واسع لإدعاء الاحترام وتكلُّفه والتظاهر به:

إن خُلُقَ الاحترام ، سواء أكان موجهاً للذات أو للغير أو لفكرة مـا ، فيه مجال واسع للتظاهر والتكلف والتزييف ، فإذا كان من الطبيعي أن كل إنسان يسعى إلى نيل احترام الآخرين ، فإن البعض يحاول نيل ذلك الاحترام من خلال إحاطة نفسه بهالة كاذبة ، أو من خلال الاستعراض ومظاهر الاستهلاك  كما أن البعض يتكلف احترام الآخرين في ظاهر القول والفعل ، دون أن يكون صادقاً في حمل قيمة لهم  فكم عرفنا من رجال يتظاهرون باحترام النساء ، بالركض لفتح باب السيارة لهن مثلاً ، وسكب الطعام فـي صحونهن في الحفلات والولائم ، والدماثة في مخاطبتهن ، بينما لا تلقى زوجاتهم منهم في بيوتهم غير الإهانة والشتم والضرب  وكم عرفنا من أناس يُظهرون الاحترام للمسؤول أو المعلم ، حتى إذا غادر منصبه أو مجاله تعمّدوا إشعاره بعدم الاحترام ، كأنما يقدّمون بذلك اعترافاً لأنفسهم ولسواهم ، بأنهم إنما كانوا يمارسـون النفاق والتملّق ، وما ذلك إلا من قلة احترامهم لذواتهم ، وهم لا يشعرون !


* الحقيقة العاشرة ـ المحبة باعث على الاحترام ، لكنها ليست شرطاً لوجوده :

ثمة علاقة في جانب من الجوانب بين المحبة والاحترام ، لكن الترابط بينهما ليس شرطاً بالضرورة ، فالمحبة باعث على الاحترام ، لكن أن لا يشعر المرء بمحبة المعلم أو المسؤول عنه أو زوجه ، لا يحول دون أن يعامل أيا منهم باحترام ، بمعنى أن يعاملهم من خلال الاعتراف بدورهم وقيمتهم ، وبعدم النيل منهم  ونلاحظ أن كثيراً مـن المتخصصين يرون أن استمرار العلاقات الزوجية مثلاً ، وشيوع السلام في الأسرة ، يقوم على أساس الاحترام حتى لو لم تكن المحبة قائمة  ومراعاة قواعد الاحترام في معاملة الزوج أو الزوجة أفضل كثيراً من معاملة من يدعي الحب والهيام ، ثم لا يلقى منه الطرف الآخر غير الأذى.


* الحقيقة الحادية عشرة ـ الاحترام لا يعني التقديس :

الاحترام يختلف عن التقديس ، فالتقديس (في غير الأمور الدينية) لا يصح ولا يليق بتعامل البشر فيما بينهم ، فأنْ أحترم أستاذي مثلاً لا يعني أني أُنزهه عن الخطأ ، وأتصوره فوق البشر ، ولا يعني أن أحجم عن مخالفته الرأي ، وإنما يعني أن أُكنَّ له ما يلزم من الاعتراف بالقيمة والتقدير ، وأن أتعامل معه ضمن قواعد أدب السلوك التي يفرضها الاحترام.


* الحقيقة الثانية عشرة ـ تزداد أهمية التمسك بقيمة الاحترام في عصرنا الحالي

إننا في هذا العصر بحاجة ماسة إلى دراسة قيمة (الاحترام) ، وفهمها ، وإدراك ضروراتها ودورها في تحقيق النظام والانضباط والجدية ، وبحاجة للدعوة إلى تطبيق قواعدها والامتثال لمقتضياتها ، ولاسيما في مجال العلاقات الأسرية ، ومجال التربية والتعليم ، وعلى صعيد علاقات العمل ، والعلاقات الاجتماعية بوجه عام .

 

إبراهيم كشت

05 Giu, 2017 03:10:32 AM
0