... وأصبح للعدالة الدولية قاموس
شهد عصرنا فظائع كبرى لم يسبق لها مثيل في التاريخ، ورافق ذلك وعي بضرورة منع تكررها في المستقبل، من خلال اتخاذ إجراءات متنوعة، ربما يكون أهمها منع المسؤولين عن ارتكاب هذه الجرائم من الإفلات من العقاب.
من هذا المنطلق تم إنشاء محكمة الجنايات الدولية بموجب معاهدة دولية أقرّت في روما في عام 1998، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ إلا في عام 2002، ومهمتها النظر في جرائم الإبادة الجمعية والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ثم ما لبثت أن أضافت جريمة العدوان إلى مهامها لاحقًا.
200 متخصص
ولكون العدالة الدولية مسألة حديثة نوعًا ما، رأى متخصصون أن وضع قاموس بمصطلحاتها وتعابيرها أصبح أمرًا ضروريًا لتغطية عالم القانون الجديد هذا، فصدر أخيرًا "القاموس الموسوعي للعدالة الدولية"، الذي يقع في أكثر من ألف صفحة.
شارك في وضع هذا المجلد أكثر من 200 متخصص وباحث، بينهم قضاة ومحامون ومدعون عامون في محاكم دولية وخبراء في القانون الدولي ومؤرخون ودبلوماسيون وفلاسفة وعلماء نفس وغيرهم، عملوا جميعًا تحت إشراف أولفييه بوفاليه المتخصص في القانون الدولي.
يعرض هذا القاموس جوانب متعددة للقانون الدولي ومصطلحاته، منها القانونية والتاريخية والسياسية والسوسيولوجية والدبلوماسية والاستراتيجية والنفسية.. إلخ. ونطلع فيه على معاني وتاريخ مصطلحات، مثل آيخمان ودوش وتجنيد الأطفال وحبري والاختفاء القسري والتطهير العرقي والاحتجاز عن طريق الخطأ، ويتضمن ما مجمله 250 نصًا مأخوذة من المحاكم، مع شرح لمحطات التوقف الرئيسة في العدالة والجرائم الدولية.
دور ألمانيا
نشرت هذا المجلد DICTIONNAIRE ENCYCLOPÉDIQUE DE LA JUSTICE INTERNATIONALE دار بيرجيه ليفرو، (المؤلف من 1200 صفحة، 75 جنيهًا إسترلينيًا) وهي دار قديمة، كانت قد نشرت نص معاهدة فرساي في عام 1919 التي تمثل حجر الأساس لمفهوم معاقبة الجرائم الدولية، إذ عرضت محاكمة الإمبراطور غيوم الثاني أمام محكمة دولية.
ويرى غيرهارد فيرل أستاذ القانون الجنائي في جامعة هامبولدت في برلين أن تطور هذا النوع من القوانين ما كان ممكنًا لولا الموقع المركزي الذي احتلته ألمانيا في قفص الاتهام العالمي خلال القرن العشرين. ويكتب: "لولا الألمان لما تطور قانون الجنايات الدولية إلى شكله الحالي".
تطور المصطلحات
كان مصطلح جريمة ضد البشرية قد ظهر في عام 1915 عندما أصدرت كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا بيانًا مشتركًا اعتبرت فيه عمليات القتل التي تعرّض لها الأرمن على يد العثمانيين في بداية القرن العشرين "جرائم ضد البشرية والحضارة"، وقد تكرر هذا المصطلح لاحقًا وتكرّس بعد مرور ثلاثين عامًا في محاكم نورنبيرغ، التي نظرت في الجرائم التي ارتكبها النازيون.
في هذه المحاكم ظهرت مصطلحات أخرى، منها "مجرمو حرب"، ثم ما لبثت مصطلحات جديدة أن ظهرت، وتطورت معها مفاهيم أخرى عندما جرت محاكمة رئيس شرطة الجستابو الألمانية في مدينة ليون الفرنسية كلاوس باربي، وهي محاكمة جرت في فرنسا في ثمانينات القرن الماضي، حيث اتهم باربي بالتسبب في مقتل أكثر من أربعة آلاف شخص وممارسة التعذيب وتنفيذ أحكام إعدام اعتباطية وترحيل أطفال يهود إلى معسكر أوشفيتز.
عنف جنسي وثقافي
من جانبها وثقت محكمة يوغسلافيا السابقة "التطهير العرقي"، وتركت أرشيفًا ضخمًا يتكون من 9 ملايين صفحة موثقة. وكانت أول محكمة يمثل أمامها رئيس دولة كان لا يزال في منصبه، وهو ميلوسوفيتش، لمواجهة تهم بارتكاب جرائم دولية. ثم قضية تشيليبيتسي، التي اعتبرت الاغتصاب شكلًا من أشكال التعذيب، واعتبرت العنف الجنسي جريمة كبرى أيضًا، ثم قضية جوكيتش التي نظرت للمرة الأولى في التاريخ في جرائم ترتكب ضد التراث الثقافي بعد تدمير جسر دوبروفنيك.
هذا ولا تقتصر هذه الجرائم والجنايات على القارة الأوروبية فحسب، فهناك أيضًا ضحايا الدكتاتورية والجرائم الجمعية في أميركا الجنوبية، ثم مجازر رواندا، حيث تم إنشاء ما يقارب من 12 ألف محكمة محلية في عام 2001، وتحمل اسم غاشاشا، تحت إدارة وجهاء محليين، عملوا على محاكمة مرتكبي المجزرة التي وقعت في عام 1994، وراح ضحيتها حوالى مليون شخص من قبيلة التوتسي. وبلغ عدد الملفات التي نظرت فيها غاشاشا على مدى عشر سنوات حوالى مليوني ملف.
هذا التقرير بتصرف عن "ليبيراسيون" الفرنسية