تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
الجزائري يحيى بلعسكري يعيد قراءة تاريخ وطنه

نعرف الكاتب الجزائري يحيى بلعسكري من خلال بحثٍ بعنوان «عبد القادر، النضال والتسامح» (2016) ونصّين روائيين («إن كنتَ تبحث عن المطر، فهو يأتي من العلى» و «أبناء النهار») قارب فيهما بطريقة جديدة وأسلوبٍ شعري فريد مواضيع مختلفة، كألم الاقتلاع من أرض الأجداد وعذابات المنفى والعطش إلى الحرية وشجاعة الناس البسطاء. مواضيع تحضر مجدداً، وضمن مقاربة جديدة، في روايته الأخيرة «كتاب عَمري» التي صدرت حديثاً عن دار «زولما» الباريسية، ويلقي بلعسكري فيها نظرة نقدية مصبوغة بإنسانوية عميقة على التاريخ القديم والحديث لوطنه من خلال شخصيتها الرئيسة والآسِرة، عَمري، التي تؤدّي دور الراوي وتشكّل خير حاضنة لجميع الأحداث والمساهمات الحضارية التي عرفتها الجزائر.


في بداية الرواية، نتعرّف إلى عَمري طفلاً بريئاً يعيش في حيّ فقير من مدينة غير مسمّاة، في ظلّ أم قروية زُوِّجت في سن الثالثة عشرة واقتصرت حياتها على الإنجاب وخدمة زوجها وأولادها من دون أيّ تذمّر أو مساءلة لظروف مُعاشها. ولا عجب إذاً في «هرمها قبل الأوان». امرأة بسيطة، أمّية، لكن مليئة بالحكمة، نَعِم عَمري في كنفها بموقع الابن المفضّل. أما والده، القروي أيضاً، فاقتلعته فرنسا من طمأنينة قريته لرميه في أتون الحرب العالمية الأولى، بعيداً من وطنه، ليعود فيختبر مكرهاً أهوال الحرب العالمية الثانية، دائماً كجندي في جيش المستعمِر. تجربتان رهيبتان لن تُجنّبانه يوماً الإهانة على يد الجيش نفسه، خلال حرب التحرير الجزائرية، لكنهما لن تنالا من نزاهته وحسّه الأخلاقي العالي واكتفائه طوال حياته بالقليل الذي يملكه.

عن أخوة عَمري وأخواته الكثر لن نعرف شيئاً يُذكَر سوى فقدانه شقيقه البكر خلال حرب التحرير في ظروفٍ غامضة، وأنه (عَمري) الوحيد بينهم الذي تابع دراسته. ولأنه كان يعشق القراءة ولا يملك الإمكانيات المادّية لسدّ هذا الجوع، كان يسرق الكتب بعِلم صاحب المكتبة ثم يعيدها إلى مكانها بعد قراءتها. أما أصدقاؤه، فيشكّلون خير مثال على تعدّدية المجتمع الجزائري قبل حرب التحرير: أنزار الوفي والحاضر في جميع الأفراح والملمّات، شلومو، ابن الحاخام، الذي سيتوارى يوماً مع عائلته مباشرةً بعد هذه الحرب، مثله مثل جميع أبناء الطائفة اليهودية؛ وأوكتافيا الجميلة، حبّ طفولته، التي سترحل بدورها مع عائلتها، للأسباب نفسها، ولن يلتئم أبداً جرح خسارتها داخله، وهو ما يفسّر محاورته هذه الغائبة- الحاضرة مراراً داخل النص وقوله في مكان ما داخله: «إنها يوتوبيّتي والرواية التي أكتبها».

بعد ذلك، ننتقل داخل الرواية إلى الجزائر خلال مرحلة الاستقلال، بعيداً من الحرب التي «مسحت قدميها على طفولتي». جزائر لا يسمّيها بلعسكري أبداً، لكننا نحزرها فوراً، ونراها تسير ببطء نحو الأسوأ، في الوقت الذي يستيقظ فيه الوعي السياسي للراوي. جزائر تحطّم التطلّعات البريئة والمشروعة بطريقة منهجية وتمزّق الأحلام وينخرط معظم طلابها السذّج في الحزب الواحد، ما يدفع عَمري وبعض رفاقه في الجامعة إلى تأسيس فرقة مسرحية والتنقل في المدن والقرى مع ديكور مسرحهم من أجل إيقاظ مواطنيهم على خطورة الوضع القائم وسياسات الحزب المذكور وأفعاله، قبل أن تلاحقهم الشرطة وتضع حداً لنشاطهم.

وبعد تخرّجه من الجامعة، ولكسب قوته، يعمل عَمري في مؤسّسة تجارية لا يكثرت المسؤولين فيها لبيع منتجاتها. وحين يحاول القيام بواجبه ويقترح حلاً لهذه المشكلة يصبح شخصاً غير مرغوب فيه، فينتقل إلى مؤسّسة أخرى ليستنتج بسرعة أنها تعاني بدورها من إدارة يرثى لها وعدد فائض من الموظّفين. وحتى حين يتزوّج ويُرزَق عدة أطفال، لا يستسلم للرداءة واللامبالاة المتفشّيتين حوله، بل يبقى متمسّكاً بمبادئه وحرية تفكيره ورأيه، على رغم تنامي التشدّد والمخاطر داخل مجتمعه الذي بات يفرض على كل واحد من أبنائه تحديد «مكان العبادة الذي يتردد إليه». ولا عجب إذاً من طرْق فكرة الرحيل باب ذهنه بشكلٍ ملحّ ومن وضعه إياها موضع التنفيذ مع انطلاق فظائع «العشرية السوداء». لا عجب أيضاً من قول أمّه له، حين رجع يوماً لزيارتها: «عُد إلى دارِك. هنا الناس قتلة. ولا رحمة». قولٌ سيختبر حقيقته الرهيبة بأبشع طريقة يمكن تخيّلها حين يعود ثانيةً إلى وطنه لترحيل زوجته وأطفاله.

باختصار، رواية مؤثِّرة على أكثر من صعيد، وضعها بلعسكري بطريقة يتعذّر فيها تحديد أحداثها داخل الزمن. فصحيح أننا داخل جزائر ملموسة فيها، لكن نثر الكاتب الشعري يحوّلها إلى جزائر ملحمية رثائية، وإلى أرض عنفٍ متجدِّد أبداً. كما لو أن المأساة قادرة في هذا البلد على التواتر إلى ما لا نهاية، كما لو أنها حركة روحه وقلبه النابض. أما التاريخ فيحضر كخلفية هادرة تصدي قسوته بشكلٍ عضوي داخل حيوات ضحاياه.

وهذا ما يقودنا إلى الطبيعة المعقَّدة لسردية «كتاب عَمري» التي نتلقّاها كنشيد انطباعي كئيب تحمله كتابة مقتضبة وتتخلّله أبيات شعرية لشعراء جزائريين وغير جزائريين تتناغم مع نصّ الكاتب المصبوغ بآلام وطنه، وأيضاً صفحات جميلة مرصودة لثلاثة وجوه أمازيغية كبرى: الفيلسوف مار أغسطينوس (354 ـ 430) المولود في طاغاست (حالياً سوق أهراس)، القائدة العسكرية الأمازيغية «ديهيا» أو «الكاهنة» (585 ـ 712) والأمير عبد القادر الغني عن التعريف؛ شخصيات ينزلق بلعسكري تحت جلدها كسليلٍ لها وتساهم بنضالاتها النبيلة ومواقفها المتسامحة المستحضَرة في تعزيز خطاب روايته المعادي لجميع أنواع التطرّف والسلطوية.

يبقى أن نشير إلى أن الكاتب لم يختَر «كتاب عَمري» عنواناً لروايته فقط لاعتماده فيها صيغة المتكلّم ووضعه سرديتها على لسان شخصيتها الرئيسة، فكلمة «كتاب» في هذا العنوان لا يمكنها إلا أن تستحضر عناوين بعض النصوص المقدّسة للديانات التوحيدية إلى ذهن القارئ النبيه، خصوصاً حين ينطلق في قراءتها ويتلقى نبرة خطابها التي تجيز هذه المقارنة. وليس صدفةً أن يكون عَمري الإنسانوي محوطاً منذ طفولته بأصدقاء وجيران من «أهل الكتاب».

وفي حال أضفنا أن كلمة «عَمري» تعني باللــغة التامازيغية «ذلك الذي له رأي في كل شيء» وأيضاً «ذلك الذي يملك القدرة على الإرشاد والقيادة»، لتجلى لنا طموح الرواية وصاحبها.

19 يوليو, 2018 10:56:02 صباحا
0