تجاوز إلى المحتوى الرئيسي
رفيف صيداوي ترصد الحداثة العربية بين الدولة والمجتمع

جلبت الحداثة معها وعوداً بالخلاص، استناداً إلى مفاهيم أساسية مثل العلم والمنهج العلمي، والعقلانية والتحرر من الخرافة والأساطير والسيطرة على الطبيعة. هكذا بدا عصر التنوير عصراً واعداً بمجتمعات تسودها قيم الحرية والعدالة والمساواة. لكنّ مرحلة ما بعد الحداثة التي ارتبطت بما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الزمن الراهن، ففرضت البراديغم الخاص بها اللاعقلانية والفوضوية واللامعيارية بدلاً من براديغم الحداثة – العقل والنظام والمعيارية – فسادت مقولات النهايات: موت الإنسان، نهاية المثقف، نهاية الدولة، نهاية التاريخ... وكان لا بد أن نتساءل أين نحن من كل من هذا الجدل؟ وهل نحن، كدول ومجتمعات عربية، مساقون حكماً إلى تبني مفاهيم ما بعد الحداثة؟ وهل انتفت حاجتنا إلى الحداثة؟

هذه الأسئلة الإشكالية تؤطر القضايا والإشكاليات التي يدور حولها كتاب الكاتبة والباحثة رفيف رضا صيداوي «العرب: جدلية الحداثة... الدولة والمجتمع» (دار الفارابي، 2018)، انطلاقاً من أن مشكلاتنا يتفرع معظمها من عدم هضم الحداثة وعدم بناء الدولة الوطنية بوصفها تتويجاً للمنحى الحداثي، ومن أننا نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى مفاهيم الحداثة - العقلانية، الحرية، حقوق الإنسان، تداول السلطة، تكريس الديمقراطية، ترسيخ دور المؤسسات وآليات المحاسبة والمساءلة.

في رأي المؤلفة، أنّ حداثة الدولة الوطنية العربية لا تزال إشكالية راهنة. فالنهضويون، على رغم إنجازاتهم الفكرية، ظلّوا أسرى المنطق الفقهي بصدد الدولة والحكم، بمن فيهم الإصلاحيون الإسلاميون، الأفغاني وعبده _ إذ لم يكن العدل عندهم يتجاوز تقييد السلطان بقواعد الشرع. ولم يلبث زوال الاستعمار أن كشف عن هشاشة الدول المستقلة ، حتى جاءت ثورات «الربيع العربي» تعبيراً عن أزمة الدولة العربية المعاصرة التي أكدت أن هذا الخليط من الأقليات عاجز عن التعايش والاندماج في كيانات دول قومية. فعلى الضد من التحليلات التي ردّت الثورات إلى أسباب سوسيولوجية أو اقتصادية أو تكنولوجية، بات جلياً عمق التناقضات في الدول العربية منذ تكونها كدول حديثة، فضلاً عن زيف لبوس الحداثة الذي لبسته. إلا أن الدولة، على رغم توقع انفجارها لا تزال تضطلع إلى الآن بدور محوري في الاقتصادات العربية، إذ دلّت الإحصاءات على تضخّم دورها وتزايد إنفاقها على الوظائف الحكومية في البلدان العربية.

 


في رأي المؤلفة أن دولنا بوصفها دولاً نامية، هي دول تابعة للمركز الرأسمالي الغربي من جهة، وهي عاجزة من جهة ثانية عن إدارة مواردها، بحيث لم تعد المشكلة مشكلة تراجع دولة الرفاه، بل مشكلة تنموية عامة بامتياز، عنوانها كيفية النهوض باقتصادات مجتمعاتنا، لتكون منتجة عبر مراعاة العدالة في توزيع ثمار النمو. أما سيطرة الشركات العابرة للحدود والقوميات، فلا تعني البتة نهاية دور الدولة، وما دامت دولنا النامية هي التي تقدم للشركات الحوافز، فإنه يمكنها في المقابل وضع شروط تحد من استباحتها المجال الاقتصادي القومي.

في مقاربة مسألة تجديد الخطاب الثقافي، تذهب الباحثة إلى أن هذه المقاربة تتمّ من البنية الإجتماعية الكلية، لأنّ الخطاب الثقافي ما هو إلا أحد تمظهرات تلك البنية وتفاعلاته الجدلية معها في ظل انخفاض مستوى التحصيل العلمي في البلدان العربية وفي ظل أوضاع التبعية التي لا تزال تعاني منها، حيث تشغل العلاقة بالآخر النسبة الكبرى من القضايا الإشكالية المركزية. لكن المثقف العربي اضطلع بأدوار طليعية على مدى التاريخ العربي وقد تعرض للاعتقال أو القتل أو إحراق الكتب، من الحلاج والتوحيدي وابن رشد إلى حسين مروة ومهدي عامل وفرج فودة. ومع ذلك، شاعت غبّ الربيع العربي مقولة «موت المثقف» لغياب دوره في الثورات. إلا أن ما انتهى هو الدور الخلاصي للمثقف وليس مهمته في مقاومة الأيديولجيا النيوليبرالية المسيطرة اليوم، وفي صوغ رؤية كلية تعي التناقض وتساهم في فهم أفضل للعالم المحيط.

وإذ تتصدى المؤلفة لذهنية التكفير بوصفها من مكونات البنية الثقافية، ترى أنّ هذه الظاهرة ترتبط بالفكر السلفي الذي استتبع الوقائع الاجتماعية للنص الديني، حيث سلطة النص فوق منطق الواقع، إلا أنه لا بد من تأكيد الدوافع الاقتصادية التي وقفت دائماً وراء الحركات السلفية التكفيرية.

ترتكز ذهنية التكفير على مزج المطلق بالنسبي، إذ تمنح صدقية أبدية لرؤية نسبية، كما تسعى إلى إقامة «الدولة الإسلامية» ولو بالقوة، بقصد السيطرة على مقاليد نظام الحياة كي لا تستمد قوانين المجتمع من مصدر آخر غير الشريعة. وتتميز ذهنية التكفير بكونها إلغائية لا تعترف بالآخر وتعاديه، كما أنها تدعي احتكار الحقيقة، وتكرّس العلاقة بين العنف والقداسة، وتعد بحلول للقضايا التي عجزت عن حلها الأنظمة العلمانية.

بالنظر في إشكالية العلمانية وحقوق النساء، ترى المؤلفة أن مفهوم العلمانية الذي يعترف باستقلالية الفرد وحرية الفكر والدين لم تهضمه غالبية دولنا الوطنية التي ظلت تستبطن قيماً عشائرية وقبائلية ومذهبية، وتعيد إنتاجها مشدودة إلى ثيوقراطية إسلامية يتماهى في إطارها الحاكم بالإله. إلا أن الاعتقاد بأن زمن ما بعد الحداثة أو ما بعد بعد الحداثة سيضع حداً للعلاقات العمودية وللدين هو اعتقاد خاطئ، لأن هذه العلاقات لا تزال تتغلب على الحواجز والفواصل، بل إن الأصوليات التي نشطت في الغرب كما في الشرق، تؤكد الدور الأساسي للعقيدة.

وفي ظل عدم اكتمال بناء الدولة الوطنية، لا بد من أن تنتابنا شكوك حول المدى الذي يمكن أن تكون فيه حقوق المرأة مصانة ومضمونة، وحول ما إذا كانت العلمانية ستفضي حتماً إلى حريتها. لكن أياً تكن الحال فإن «العلمانية هي لا شك الإطار الأمثل للمساواة بين المواطنين».

نرى أخيراً، أن المؤلفة قاربت في كتابها القضايا الأكثر إشكالية في فكرنا الحديث والمعاصر، ومن منظور تميز بالعقلانية والرصانة والموضوعية فضلاً عن التحرر من الضغوط المرجعية، والانفتاح الواسع على الآراء المتناقضة إن في الفكر الغربي أو في الفكر العربي على السواء، معيدة بذلك الجدل القديم المتجدد منذ زمن نهضتنا العربية، وهو جدل مثمر وذو تأثير أساسي ومركزي في معركتنا مع قوى التخلف وفي سعينا التاريخي إلى بناء الحداثة العربية، ما يجعل من كتابها مساهمة جديدة في معركة التنوير العاثرة.

13 سبتمبر, 2018 08:37:22 صباحا
0