تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

ماذا يعني اكتشاف تموجات النسيج المكاني ؟

قبل مليار وثلاثمئة سنة تقريباً عندما كانت الحياة في مراحل تطورها الأولى على كوكب الأرض وعلى مسافة بعيدة جداً من الأرض (١،٣ مليار سنة ضوئية) اندمج اثنين من الثقوب السوداء بكتلة تفوق كتلة الشمس بثلاثين مرة مع بعضهما البعض. هذا الحدث القديم جداً وصلتنا إشارته في شهر أيلول من عام  ٢٠١٥وكان بمثابة نافذة جديدة لرؤية الكون من منظور الجاذبية.

تخيل لو أنك تستطيع أن تسمع وتلمس وتشم وتتذوق وفجأة استحوذت على حاسة جديدة اسمها البصر. هذا تماماً ما حدث في شهر أيلول من عام ٢٠١٥. الكثير من النشرات والمقالات العلمية على الإنترنت نشرت خبر رصد تموجات النسيج المكاني على أنه انتصار للنسبية العامة وتأكيد مكانة ألبرت أينشتاين العلمية إلا أن عملية الرصد هذه لم تشكل اكتشاف جديد بالنسبة لنا على قدر ما أنها أكدت لنا فهمنا الحالي للمكان وأعطتنا وسيلة جديدة لاكتشاف الكون.

في هذا المقال سأقوم بشرح نظرية النسبية العامة وثم التطرق لموضوع الثقوب السوداء. ثم سنتحدث عن فيزياء الكم وموقع التعارض بينها وبين النسبية العامة ثم سأعمل على شرح معنى نتائج اكتشاف تموجات النسيج المكاني وكيف تم رصدها وماذا يحمل لنا المستقبل بناء على هذا الاكتشاف.

الجاذبية:

في مقال سابق بعنوان “نظرية التطور حقيقة علمية” بدأت المقال بأن نظرية التطور مثبتة أكثر من القوى الكونية الأربعة جمعاء (الكهرومغناطيسية والنووية القوية والنووية الضعيفة والجاذبية). بعض المتابعين انتقد هذه الجملة على أساس أنها شاعرية ولا توصف الواقع بشكل دقيق. في الحقيقة اكتشاف تموجات نسيج المكان هو دليل واضح على مدى جهلنا فيما يتعلق بالجاذبية. نحن نظن أننا نعرف كيف تعمل الجاذبية لأن الأشياء تقع ولأن الأقمار تدور حول الكواكب ولأنك عندما تقفز تعود إلى الأرض إلا أنه في حقيقة الأمر نحن لا زلنا نتعلم عن الجاذبية ونكشف أسرارها يوماً بعد و يوم و لاتزال الجاذبية دون تمثيل ذري حتى اليوم.

في العصور الوسطى كان الاعتقاد السائد أن كوكب الأرض هو مركز الكون وأن الشمس وبقية الكواكب تدور حوله إلى أن جاء نيكولاس كوبرنيكس (١٤٧٣ – ١٥٤٣) واقترح قالب مختلف يضع الكرة الأرضية في مدار حول الشمس. هذا الاقتراح مهد الطريق أمام غاليليو غاليلي (١٥٦٤ – ١٦٤٢) حيث استطاع غاليليو رصد أجسام كروية تدور حول كوكب المشتري عن طريق تيلسكوب هو صنعه. هذا الاكتشاف على الرغم من أهميته الكبرى في مسيرة علوم الفلك إلا أنه طرح سؤال صعب جداً أمام الجميع. كيف لهذه الأقمار أن تدور حول الكواكب؟ ماهي هذه الطاقة التي تضعها في مدارها فلا تفلت وتبتعد عن كوكبها؟

بعد رصد غاليليو أن الأقمار تدور حول المشتري و أن فرضية كوبرنيكس صائبة في وضع الأرض حول الشمس عوضاً عن القالب المركزي السائد للأرض صار الاعتقاد أن مدار هذه الكواكب و الأقمار هو مدار دائري كلاسيكي. إلى أن جاء يوهانس كيبلير(١٥٧١ – ١٦٣٠) و أوضح أن حركة الكواكب ليست فقط غير دائرية و أنما أن سرعة حركة هذه الكواكب تتفاوت بناء على مسافة مداراتها البيضوية من الشمس فكلما كانت المسافة أقصر كلما زادت السرعة و بالعكس.

بعد وفاة كيبلير بعدة أعوام ولد إسحاق نيوتن (١٦٤٢ – ١٧٢٧) وأخذ هذه المعارف التراكمية من أسلافه وطورها بما يسمى اليوم قانون الجذب العام. عمل نيوتن على وضع تفسير دقيق لسبب بيضوية مدارات هذه الكواكب واستطاع وضع تفسير رياضي لحركتها بحيث أصبح بالإمكان توقع حركتها بشكل مستقبلي. خلال توصيف نيوتن لهذه الظاهرة الفيزيائية التي تجعل الأجسام السماوية تدور حول بعضها كتب جملة شهيرة وهي بمعنى أنني سأترك تفسير سبب هذه الظاهرة لاستنتاج القارئ مما يدل أنه على الرغم من نجاحه في توصيف فيزياء الجاذبية بشكل رياضي إلا أنه اعترف أنه لا يعرف سبب هذه القوة التي تبدو وكأنها تجذب الأجسام الكبيرة لبعضها البعض.

بعد ثلاثمئة سنة تقريباً جاء ألبرت أينشتاين (١٨٧٩ – ١٩٥٥) حيث أكمل الرحلة من حيث توقف نيوتن وعمل على وضع تفسير لهذه الطاقة الجاذبة السحرية بين الأجسام.

gravitons

النسبية العامة:

عندما وضع أينشتاين نظريته الشهيرة e=mc2  المعروفة باسم النسبية الخاصة كان لابد له من حل مشكلة ربط سرعة الضوء مع قانون نيوتن للجذب العام. النسبية الخاصة تعمل فقط مع الأجسام ذو السرعة الثابتة ولا تأخذ باعتبارها الأجسام التي تتسارع. أيضاً لم تتضمن النسبية الخاصة أي تمثيل للجاذبية في حساباتها. عمل أينشتاين لمدة طويلة في البحث عن حل لعدم التطابق بين نظريته للنسبية الخاصة ونظرية نيوتن للجذب العام و في النهاية توصل أينشتاين لاستنتاج بأنه علينا التخلي عن نظرتنا الكلاسيكية التي تفترض أن المكان عبارة عن مكان هندسي إقليدي (Euclidean geometry). *الهندسة الإقليدية تفسر طبيعة المكان ضمن خطوط مستقيمة متوازية. اقترح أينشتاين أن يكون تجسيد المكان بشكل هندسي زائدي (اهليجي / Hyperbolic geometry). من هذا الاقتراح تطورت نظرية النسبية العامة ونتج عنها مصطلح الزمكان حيث دمج أينشتاين الوقت مع المكان لكي يصبح الزمن والمكان وجهان لنفس الشيء.

النسبية العامة تجسد المكان على أنه عبارة عن نسيج يتألف من الأبعاد الثلاثة المتعارف عيلها (أفقي عامودي عمق) بالإضافة لبعد الزمن. هذا القالب وضع تصور جديد لماهية الجاذبية حيث لم تعد الجاذبية عبارة عن قوة تجذب الأجسام لبعضها البعض وإنما انحناء في المكان يجعل الأجسام المتواجدة بالقرب من هذا الانحناء تتحرك وتتفاعل مع الانحناء. نسمي هذا القالب بفضاء مينكوفسكي.

النسبية العامة أحدثت ثورة علمية فيما يتعلق بفهمنا للفضاء وعلوم الفلك وتم تنفيذ العديد من التجارب والاختبارات للتأكد من أن توصيف النسيج الزمكاني المذكور في النظرية صحيح.

“المادة تقول للمكان كيف ينحني والمكان يقول للمادة كيف تتحرك”.

بشكل مختصر النسبية العامة تقول أن الأجسام تحني نسيج المكان بناء على تفاعل كتلة هذه الأجسام مع النسيج المكاني. هذا يجعل الجاذبية عبارة هن نتيجة انحناء النسيج الزمكاني و ليس طاقة جذب كما كان معتقد سابقاً.

ضمن هذا التصور الجديد للجاذبية توقع أنشتاين وجود كيانات فضائية تكون فيها الجاذبية عظيمة لدرجة بحيث ينحني النسيج المكاني على نفسه بشكل كامل بحيث لا تستطيع الأشياء المتواجدة في داخله الخروج من هذا الإنحناء. تم اكتشاف هذه الكيانات الفضائية لاحقاً وسميت باسم الثقوب السوداء. أيضاً توقع أينشتاين وجود تموجات في النسيج الزمكاني كنتيجة لتحرك المادة ضمنه تماماً كما يحدث عندما تتحرك الأجسام داخل الماء لكن أينشاين أقر باستحالة رصد هذه التموجات إذ أنها ستكون ضعيفة جداً جداً لدرجة لا تسمح لنا برصدها.

الثقوب السوداء: 

بناء على ما توصلنا له من فقرة النسبية العامة فإن المادة تقول للمكان كيف ينحني. صحيح؟ في حال الثقب الأسود فإن كتلة المادة كبيرة لدرجة أنها تقول للمكان أن ينحني بشكل كامل بحيث يلتف على نفسه فكل مابدخل هذا
المكان يصبح غير قادر على الخروج من هذا الإنغلاف الزمكاني حتى الضوء (من هنا جاءت تسمية ثقوب سوداء). K7czr

النجوم عبارة عن كرات هائلة من الغازات في أغلب الأحيان تكون كرة من غاز الهيدروجين. عملية الإندماج التي يتعرض لها الهيدروجين تنتج مادة أثقل (هيليوم) و ثم كربون و أوكسجين. خلال عملية الإندماج النووي تنتج كميات كبيرة جداً من الطاقة باتجاه خارج النجم لكن كتلة الغاز الذي يشكل النجم تضمن تماسكه كنتيجة للجاذبية الهائلة. في مرحلة ما من عمر النجم تصبح الطاقة الناتجة عن الإندماج النووي غير كافية لمقاومة ضغط الجاذبية و ينتج عن هذا انهيار كامل للنجم. هذا الإنهيار ينتج عنه عدة سيناريوهات لكني سأركز على سيناريو الثقب الأسود.

إذاً كتلة النجم الهائلة تقول للمكان أن ينحني بشكل يتناسب مع كتلته مما يزيد ضغط الجاذبية على ذراته إلا أن الطاقة العكسية الناتجة عن الإندماج النووي الحاصل في داخله تدفع ضغط الجاذبية بشكل عكسي و تستمر حرب الجاذبية و الإندماجات النووية إلى أن ينتهي مخزون النجم من الإندماجات النووية (اندماج هيدروجين) فتبدأ الجاذبية بكسب المعركة و ضغط النجم أكثر فأكثر على نفسه مما يفعّل نوع جديد من الإندماجات النووية (اندماج هيليوم) إلا أن عمليات الإندماج في هذه المرحلة لا تستمر طويلاً و تستخدم مخزونها بشكل سريع و فجأة……

 تجد الجاذبية نفسها منتصرة في المعركة و يبدأ النجم بانهيار كلي مما يسبب تغلف للمكان حول النجم و ينشأ لدينا ثقب أسود.

طبعاً يوجد عملية حسابية تخبرنا ما إن كان انهيار النجم سينتج عنه ثقب أسود أم لا و هي باختصار مرتبطة بكتلة الجسم مع مساحة المكان الذي يستحوذه. نسمي هذه المسافة بنصف قطر شفارتزشيلد. للمزيد من المعلومات إقرأ مقالي عن الثقوب السوداء. مثلاً لو أخذنا نجم الشمس و ضغطناه بحجم ٣ كيلومتر ستتحول الشمس لثقب أسود. هي عملية حسابية تساعدنا على التنبؤ بتشكل الثقوب السوداء.

فكرة جانبية:

الثقوب السوداء ليست بلاعة… الكثير من الناس يتخيل الثقوب السوداء و كأنها تجذب كل شيئ حولها. في الواقع هذا غير صحيح و فقط المادة التي تعبر نقطة اللاعودة تدخل في مجال الجاذبية للثقب الأسود (انحناء النسيج الزمكاني لدرجة لا يستطيع الجسم العودة). على سبيل المثال، إذا تحول كوكب الأرض إلى ثقب أسود هذا لن يؤثر على مدار القمر. سيبقى القمر في مكانه لأن المسافة بين الأرض و القمر هي مسافة أمانة مقارنة مع سرعة دوران القمر.

مشكلة ضياع المعلومات و الصراع بين النسبية العامة و فيزياء الكم:WFC 

نظرية النسبية العامة تفسر لنا علاقة المادة مع المكان كما ذكرت سابقاً و الفيزياء الكمية تفسر لنا الفيزياء الذرية ضمن قوالب ذات حزم محددة من الطاقة. كلا النظريتين مثبتين بشكل لا شك فيه و كلا النظريتين تقدم تطبيقات نستخدمها في حياتنا اليومية. هذا يعني ان الخلاف بين هاتين النظريتين ليس كبقية التناقضات العلمية السابقة حين تأتي نظرية و تستبدل الآخرى. هنا تكمن معضلة غامضة حيرت العلماء حتى اليوم. لكن قبل الخوض في التناقض يجب أن أخبركم عن بعض خصائص الفيزياء الكمية.

الفيزياء الكمية ببساطة تتمحور حول فكرة أن المستوى الذري محكوم بعلاقات من الطاقة و الجزيئات ضمن قوانين مرتبطة بحزم محدودة الكمية. هذا يعني أن أي تمثيل فيزيائي نرصده مهما ظهر لنا على أنه مستمر إلا أنه على المستوى الذري يتجسد ضمن حزم متقطعة من الطاقة المحددة الكمية مسبقاً.

في الفيزياء الكمية يوجد قاعدة أساسية تقول أن معرفة حالة أي كيان فيزيائي في أي نقطة زمنية يمكننا من توقع حالته الفيزيائي في أي نقطة زمنية آخرى. هذه القاعدة هي أساس الفيزياء الكمية إذ أنها تعتمد على مبدأ الدالة الموجية (Wave function) بحيث نستيطع من خلال بعض المعادلات الرياضية معرفة تطور حالة الكيان الفيزيائي عبر الزمن.

حسناً لتبسيط هذا الكلام.. الفكرة هنا أن وجود معلومات لدينا عن حالة (س) من الأجسام يعطينا القدرة على معرفة مستقبل (س) في المستقبل و بالتالي هذا يعني أننا نستطيع استنباط تاريخ (س) أيضاً لأن معرفة مستقبل (س) مبني على نفس الاستدلال الذي يجعلنا نستنتج حالة (س) في الماضي.

مثال:

لدينا محلول ماء + سكر معرفة حالة الماء و السكر يمكننا من معرفة أنه في مرحلة ما تم اضافة السكر إلى الماء. أيضاً نستطيع معرفة نسبة تبخر الماء بناء على حرارة المحيط. تستطيع معرفة مستقبل كريستالات مركب السكر.

على فرض بدأنا الرصد في مرحلة الغاز (بخار الماء) أيضا نستطيع استنباط أن هذا البخار كان ماء سابقاً و أنه كان مرتبط مع مركبات السكر بناء على حالة مركبات السكر الموجودة لدينا. إذاً الدالة الموجية (Wave function) تمكننا من استخدام المعلومات الفيزيائية و معرفة مراحل تطور النظام الذي نرصده. (تنويه: الدالة الموجية تعمل على مستوى الذرات و ليس المركبات. المثال توضيحي فقط).

الأن تخيل معي السيناريو التالي:

كوب من الشاي يسبح في الفضاء و يقترب من ثقب أسود. قبل وصول الكوب إلى أفق الحدث (نقطة اللاعودة للثقب الأسود) قمنا بجرد كافة المعلومات الفيزيائية المتعلقة بالكوب من مركبات ثاني أكسيد السيليكون و أكسيد الكلس التي تشكل زجاج كوب الشاي و علاقات ذراتها من دوران و شحنات كهربائية و ثم قمنا بتحليل مركب الماء و تدوين كافة المعلومات المتعلقة بنسبة الهيدروجين الثقيل بالمقارنة مع الهيدروجين العادي و قمنا بنفس الشيء بالنسبة لمركبات الشاي و السكر و سجلنا كل هذه المعلومات لدينا.

يدخل الكوب إلى الثقب الأسود…

الآن يوجد لدينا خاصية في الثقوب السوداء لن أدخل في تفاصيلها بسبب تعقيدها لكنها من أهم اكتشافات العالم ستيفن هوكنغ. هذه الخاصية تقول أن الثقب الاسود يتبخر مع الوقت. للمراجعة ابحث عن اشعاع هوكنغ 1589503Hawking Radition

لنفترض أننا انتظرنا الثقب الأسود إلى أن يتبخر ثم بحثنا ضمن الإشعاع الذي خرج من الثقب الأسود عن المعلومات التي سجلنها قبل دخول كوب الشاي إلى الثقب الاسود سنكتشف أننا فقدنا القدرة على استنباط تاريخ هذا الإشعاع و معرفة حالته البدائية. هذا يعني أننا مهما رمينا داخل الثقب الأسود من معلومات فإنها ستخرج بنسخة جديدة مشوهة غير قابلة للتمييز و هذا ضياع للمعلومات. ضياع المعلومات يتناقض بشكل مباشر مع مبدأ الدالة الموجية  في الفيزياء الكمية.

تذكر أن الثقوب السوداء هي استنتاج علمي لنظرية النسبية العامة. الأن أصبح لدينا معضلة كبيرة إذ أن الثقوب السوداء تبدو و كأنها تعمل بعكس حركة الكون (من الانتظام إلى الفوضى) فهي تأخذ معلومات مختلفة و تنظمها و تخرجها من الطرف الأخر بشكل مختصر و موحد. كوب الشاي و السكر و الماء و كل شيئ يدخل بحالة و ثم يخرج على شكل ترددات كهرومغناطيسية من الطرف الآخر.

هذه هي مشكلة النسبية العامة مع الفيزياء الكمية و هي مشكلة كبيرة جداً على الرغم من أنها قد تبدو للوهلة الأولى أنها ليست كذلك.

اكتشاف تموجات النسيج الزمكاني:

في بداية المقال بدأت بالحديث عن اندماج ثقبين سوداء مع بعضهما البعض قبل مليار و ثلاثمئة مليون سنة. هذا الحدث كان كفيل بإحداث تموجات في النسيج الزمكاني المحيط بهذين الثقبين لدرجة تسمح لنا برصدهم لكن كيف استطعنا أن نرصدهم مع أن أينشتاين ظن أنه من المستحيل القيام بذلك؟

مشروع LIGO فكرة رائعة و ذكية تعمل على أساس فكرة بسيطة من حيث المبدأ لكنها فائقة التعقيد في التنفيذ. الفكرة من مرصد LIGO هي بناء نفقين تحت الأرض و ارسال اشعاع ضوئي داخل النفقين بحيث يصطدم الإشعاع الضوئي بمرآة و يعود إلى جهاز قياس. بما أن سرعة الضوء ثابتة فهذا يعني أن الزمن الازم لانتقال الضوء من المرآة إلى الراصد يجب أن كون نفسه في النفقين.

الان أريدك أن تتخيل كرة قدم و ثم أن تقارن حجم هذه الكرة مع مجرة درب التبانة أو ١ على ألف من قطر البروتون. هذا القياس بين كرة القدم و مجرة درب التبانة هو مقياس دقة الرصد بين النفقين و إي اختلاف في حجم النفقين يتم رصده من خلال اختلاف في رصد الضوء المنطلق داخل النفق.

التموجات في الزمكان بسبب اندماج الثقبين السوداء قبل أكثر من مليار سنة تم رصدها من قبل LIGO و ذلك لان التموج الزمكاني يغير من شكل المكان و كل ماهو في داخله. المكان الذي يحتله LIGO يتمدد بشكل طفيف جداً بسبب تموج المكان كنتيجة لاندماج الثقبين السود فيتم رصد اختلاف الزمن الذي يستغرقه الضوء داخل النفقين.
لا أريد أن تبدو تقنيات الراصد بنفس البساطة التي أذكرها هنا إلا أنني أتطرق إلى الفكرة الأساسية فقط.

تعليق جانبي: الراصد يطلق اشعاع ضوئي إلى جهاز يقسم الإشعاع إلى قسمين و يطلق الإشعاعين داخل النفقين. المرآتين المتواجدتين في نهاية كل نفق يجب أن تكون ذو جودة عالية جداً بحيث تعكس الإشعاع الضوئي دون امتصاص أي طاقة منه لكي لا تغير من تردد الموجات الكهرومغناطيسية. في هذه الحالة يصبح لدينا اشعاعين كهرومغناطيسين ذو تردد يمحو كل واحد الآخر مما يسبب بالغاء كلا الإشعاعين ضمن النفق. أي اختلاف في مساحة النفق يؤثر ليس فقط على الزمن الازم لقطع مسافة النفق (٤ كيلومتر) و إنما على تردد الموجات الكهرومغناطيسية (الضوء)مما يلغي حالة التطابق الموجي السابقة و يظهر الإشعاع من جديد.

ligo-documentary-film

للتأكد من أن عدم وجود ظواهر محلية سببت هذا الرصد في تموج المكان كتحركات جيولوجية أو غيرها من العوامل التي قد تلوث مصداقية الرصد تم بناء موقعين لمرصد LIGO واحد في ليفينغستون-لويزيانا، والآخر في هانفورد-واشنطن بحيث يتم مقارنة بيانات المرصدين في نفس الوقت و بهذا يكون تم الغاء احتمال أن يكون سبب الرصد ناتج عن حدث محلي أرضي. يجدر الذكر أن دقة الرصد عامل مهم جداً إذ أن تطابق الترددات ضمن راصد بهذه الدقة يعني أن سبب الرصد لابد أن يكون نفسه و بالتالي من عوامل خارج الكرة الأرضية.

يوجد خطط لبناء مرصد جديد LIG في الهندligo-gravitational-waves-detection

نتائج هذا الاكتشاف: 

الكثير من المواقع الإخبارية المعنية بالعلوم نشرت الخبر على أنه انتصار لأنشتاين لكن أنتصار أنتشاين على من؟ في الوقاع النسبية العامة ليست بحاجة للمزيد من البراهين على أنها صحيحة. نعم هي تتناقض مع الفيزياء الكمية عندما نتطرق لموضوع الثقوب السوداء كما ذكرت لكن هذا الإكتشاف لم يحل لغز التناقض بين النظريتين.

طرح الخبر بهذه الصيغة لا يعطي هذا الإنجاز حقة فالمجتمع العلمي لم يعتبر هذا الإنجاز أهم انجاز علمي منذ رصد الخلفية الكوني فقط لكي ينتصر أنشتاين.

أهمية هذا الإنجاز تكمن بمحدوديتنا الحالية في الرصد الكوني و فتح نافذة جديدة للاستكشاف. في الوقت الحالي نحن نستغل القوة الكهرومغناطيسية (الضوء) في جميع مراصدنا. الطيف الكهرومغناطيسي طيف واسع جداً من الترددات و على الرغم من أنه يقدم لنا نافذة كونية واسعة إلى أننا وصلنا إلى حائط ناري. مرحلة طفولة الكون.

لحظة بداية الكون مجهولة بالنسبة لنا لأنها تقع خلف جدار لا يسمح لنا بالنظر من خلفه. هذا الجدار يتجسد بعدم انفصال الفوتونات الضوئية حتى ثلاثمئة و ثمانين ألف سنة من عمر الكون تقريباً. هذا يعني أن ابعد نقطة نستطيع رصدها هي ضمن هذه الحقبة الزمنية (بعد ٣٨٠ ألف سنة من عمر الكون) وهي ما تسمى بالاشعاع الكوني الخلفي *Cosmic Microwave Background

عدم وجود ضوء قبل هذه النقطة يعني أن كل مانرصده من ترددات كهرومغناطيسية (ضوئية)اليوم لا يفسر لنا ما جرى قبل هذه النقطة. للمزيد من المعلومات عن انفصال الإلكترونات ضمن قصة تطور الكون ابحث عن Recombination  أو مرحلة إعادة الاندماج الكونية.

History-of-the-Universe-Crop

إذاً القدرة على رصد تموج النسيج المكاني هي بمثابة حاسة جديدة أضيفت لحواسنا الكونية. هذا الإكتشاف لا يأخذ أهميته من كونه يؤكد رؤية هذا العالم أو ذاك و إنما يأخذ أهميته من إعلان حقبة جديدة في قصة البحث العلمي و فضول الجنس البشري في اكتشاف الفضاء. هذا الإكتشاف بمثابة يوم نظر غاليليو إلى السماء و أعلن بداية حقبة حضارية جديدة تتمثل بولادة علوم الفلك.

رصد تموجات المكان سيعطينا القدرة على رؤية الكون في لحظات ولادته الأولى…

اليوم و غداً: 

على الرغم من النجاح الذي حققه مرصد LIGO إلا أن قدرته على الرصد لاتزال محدودة جداً و لا يمكن الإعتماد عليها بشكل دقيق. اليوم LIGO ليس قادر على تحديد الاتجاه الذي تأتي منه التموجات المكانية و يحتاج للتنسيق مع تيلسكوبات فضائية آخرى لتحري مصدر التموجات. يوجد الكثير من الخطط المستقبلية لإنشاء مراصد أكثر دقة فعوضاً عن استخدام نفقين لهم وظيفة رصد التغير في المكان فقط سيتم بناء مراصد على شكل مثلث مما يتيح تحديد مصدر التموجات. أيضاً لدى ناسا مشروع اسمه LISA تم توقيفه بسبب تكاليفة الباهظة و بسبب أن LIGO كان لم يرصد أي تموجات مكانية بعد لتبرير البدأ بالمشروع.

مرصد “LISA” Laser Interferometer Space Antenna  مشروع ناسا و وكالة الفضاء الأوربية لرصد التموجات المكانية عبارة عن ثلاث محطات فضائية تشكل مثلث في الفضاء و تستخدم نفس تقنية LIGO بارسال شعاع كهرومغناطيسي بين المحطات الثلاث و رصد أي أهتزازات مكانية مع امكانية مسح فضائي بناء على مصدر التموج و تردده. المسافة التي تفصل المحطات الثلاث تساوي ٥ مليون كيلومتر بين كل محطة بالمقارنة مع LIGO ٤ كيلومتر.

6a00d8341bf67c53ef014e8753d511970d-800wi

يوجد الكثير من الفوائد التطبيقية لوجود تلسكوبات تموجات مكانية وهذا لأنها إن تم تفعيلها بانسجام مع التيلسكوبات الضوئية (المعتادة) فهذا سيعطينا قدرة على رصد ظواهر غير ممكنة اليوم مثل الثقوب السوداء و قياس سرعة توسع الكون و الحصول على بينات دقيقة أكثر بالنسبة للمسافات التي تفصلنا عن المجرات البعيدة.

في النهاية أود أن أترك القارئ مع بعض الفضول للبحث أكثر…

ملاحظة:

تم استخدام عبارة أمواج ثقالية أو أمواج جاذبية من قبل العديد من الصفحات العلمية على الإنترنت و تم التنويه أنه يوجد فرق بين العبارتين. المشكلة الحقيقة أننا دائماً نعمل على ترجمة الأبحاث العلمية و بالتالي لا يوجد لدينا عبارات باللغة العربية تعبر عن الظاهرة بشكل أفضل من الترجمة. أنا لم أستخدم عبارة أمواج ثقالة لأنني بصراحة لم أفهم هذه العبارة و لم أستخدم عبارة أمواج الجاذبية لأنه تعبير خاطئ. الجاذبية كما ذكرت في المقال عبارة عن انحناء في النسيج المكاني و الأمواج التي تم رصدها هي ليست أمواج جاذبية ( أمواج الجاذبية هي ظاهرة مرتبطة بتفاعل وسطين مختلفين مثل الهواء و الماء مثلاً) و إنما اهتزازات في المكان لهذا اخترت استخدام عبارة اهتزازات في النسيج المكاني كاجتهاد شخصي و قد أكون مخطئ. (وجب التنويه)

01 سبتمبر, 2020 12:11:05 مساء
0