تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

العاصمة الإسلامية في أوروبا

يستعرض فيليب مانسل مدينة السلاطين بدءًا من عام ١٤٥٣ فصاعدًا، ويجد أنها تميزت بتعددية ثقافية مبهرة حتى نهاية الوجود العثماني عام ١٩٢٢.

سيطرت الدول والقوميات على الكتب التي تتناول تاريخ أوروبا، ورغم ذلك يظل للمدن التأثير الأقوى على الحياة اليومية بالنسبة للكثير من سكان أوروبا. وإذا نظرنا إلى مدن أوروبا وسكانها ونُظُمها الاقتصادية وثقافاتها، فستبدو القومية والدولة القومية أقلَّ أهمية وأقلَّ حتمية.

لم توجد أية عاصمة أوروبية أكثر كوزموبوليتانيةً من القسطنطينية. فموقعها الجغرافي المطل على الطريق الرئيسية بين أوروبا وآسيا، وموانيها التي قال عنها السير دي كومب عام ١٦٨٨ إنها «أجمل البقاع التي رآها وأكثرها أمانًا»؛ جعلاها العاصمة الطبيعية للأناضول والبلقان وما وراءهما. وفي قرونها الأخيرة التي كانت فيها عاصمة للإمبراطورية البيزنطية لم تكن فحسب المدينة المقدسة للعالم الأرثوذوكسي المخصصة لأم الرب، بل كانت أيضًا مركزًا تجاريًّا كوزموبوليتانيًّا يسكنها أناس من البندقية وجنوة، وكذلك مسلمون ويهود وسلاف وآفار.

ولم يكتفِ السلطان العثماني محمد الثاني الفاتح (حكم من ١٤٥١ إلى ١٤٨١) بغزو المدينة ونهبها عام ١٤٥٣، بل منحها سكانًا جددًا. ومن خلال الهندسة الاجتماعية الإمبريالية المتعمَّدة لإكسابها صبغتها العثمانية الجديدة، هجَّر السلطان كثيرًا من السكان البيزنطيين المتبقين الذين كان يُقدَّر عددهم بنحو ٣٠ ألف شخص. وبعد ذلك، وبنصِّ كلمات المؤرِّخ العثماني عاشق باشا زاده:

… أرسل ضبَّاطه إلى كل أراضيه يعلن أنه مَن يرغب في القدوم إلى القسطنطينية فسوف يتملك ملكيةً مطلقة منازل وبساتين وحدائق … ورغم هذا الإجراء ظلت المدينة غير مأهولة بالسكان ولم يُعَدِ استيطانها. وبعد ذلك أمر السلطان أن تُستقدَم عَنوةً من كل أرضٍ عائلاتٌ غنيةٌ وفقيرةٌ على حدٍّ سواء … والآن بدأتِ المدينة تزدحم بالسكان.

وما زالت قصائد المسلمين موجودة ترثي تهجيرهم من المنازل المريحة في قونية أو بورصة إلى شواطئ البوسفور الغريبة.

وكما فعل مؤسس المدينة «الإمبراطور قسطنطين» منذ ألف ومائة عام، أشرف السلطان محمد الفاتح بنفسه على إنشاء مدينته الإمبراطورية الجديدة؛ فأمر الباشاوات والوزراء — كبار المسئولين في الإمبراطورية — ببناء المنازل والمساجد في العاصمة، مثل مسجد محمد باشا المجاور للسوق، والذي سيصبح أحد مراكز مقاومة الاحتلال البريطاني بعد ذلك بأربعة قرون. وفي الفترة ما بين ١٤٦٣ و١٤٧٠ بنى السلطان المسجد الكبير ومدرسة الفاتح في موقع مدفن الأباطرة البيزنطيين وباستخدام مواد من ذلك المكان المسمَّى بكنيسة الرُّسل المقدسين. وبدأت القسطنطينية تصطبغ بالطابع الإسلامي، وقد كان لديها بالفعل مزار إسلامي مقدَّس وهو قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري الواقع خارج أسوار القسطنطينية بالقرب من رأس القرن الذهبي. فقد عثر المرشد الديني الجليل للسلطان الشيخُ آق شمس الدين على قبر صاحب الرسول أبي أيوب الأنصاري بالقرب من هذا المكان، وكان أبو أيوب الأنصاري قد مات أثناء القتال مع الجيش العربي الذي كان يحاصر القسطنطينية عام ٦٦٩. وسرعان ما بدأتِ السلالة العثمانية في إقامة مراسم تنصيب السلطان الجديد، وتمثلتْ تلك المراسم في «تقلُّد سيف عثمان الغازي» في مسجد أبي أيوب الأنصاري المهيب، ذلك المسجد الذي ما زال مزارًا شائعًا للمسلمين في تركيا في الوقت الحاضر.

ورغم ذلك، لم تكن المدينة إسلامية بالكامل حتى أواخر القرن العشرين. كان محمد الفاتح حاكمًا منفتح الذهن. ونظرًا لاهتمامه بالثقافات اليونانية والعثمانية والفارسية، فقد كان متحمسًا لتقديم نفسه للأجيال القادمة بصفته الإسكندر الأكبر الجديد. وإلى حدٍّ ما اقتضتِ الضرورة استقدام المهاجرين التابعين للحكومة العثمانية إلى عاصمته الجديدة؛ إذ كان في حاجة إلى مهاراتهم، وكان هؤلاء المهاجرون من السلاف واليونانيين واليهود والأرمن. وأصبحت العاصمة العثمانية التي عُرِفت باسم «ملجأ العالم» تجربةً للتعددية العرقية في الإمبراطورية. اعتقد محمد الفاتح أن تعدد الأعراق يزيد من قوة المملكة عن طريق تمكينها من الموازنة بين كل عرق وآخر. وأصبح السلاف الذين تحولوا إلى الإسلام يشكلون العنصر الأكبر في الإنكشارية؛ وهي صفوة قوات حرس السلطان. وفي القرن السادس عشر قيل إن اللغة الصربية الكرواتية كانت اللغة التي تُسمَع في أغلب الأحيان في قصر الباب العالي.

وفقًا لتعداد سكاني رسمي لعام ١٤٧٧ كانت المدينة بالكامل تضم ٩٤٨٦ منزلًا يسكنها المسلمون، و٣٧٤٣ منزلًا يسكنها اليونانيون، و١٦٤٧ منزلًا يسكنها اليهود، و٨٠٤ منازل يسكنها الأرمن، و٣٣٢ منزلًا يسكنها الفرنجة، و٢٦٧ منزلًا يسكنها مسيحيو القرم، و٣١ منزلًا يسكنها الغجر. وربما كان التعداد الكلي للمدينة حوالي ٨٠٠٠٠ نسمة.

وقد كتب كريتوفولوس، المؤرِّخ اليوناني للسلطان، قائلًا:

استقدم السلطان بكل عناية وسرعة ممكنة أناسًا من كل الأمم، واستقدم المزيد من المسيحيين بصفة خاصة. فقد استشرى في روحه شغف شديد بالمدينة وبإعمارها وبإعادتها إلى ازدهارها السابق.

بعض مناطق المدينة، مثل سماتيا الواقعة في الغرب، استسلمت على نحو منفصل عن بقية المدينة خلال الحصار، وبذلك اكتسبتْ حق الاحتفاظ بكنائسها؛ وقد ظلَّتْ تلك الأحياء ذات تكوين سكاني يوناني في الأساس حتى عشرينيات القرن العشرين.

وبالإضافة إلى جمع محمد الفاتح للآثار المسيحية وحضوره للقداس بين الحين والآخر، فقد أحيا بطريركية القسطنطينية المسكونية، المقر الأكبر لأسقفية المسيحية الأرثوذوكسية. وأطلق سراح قسٍّ أرثوذوكسي شهير يسمى جورج جناديوس، كان قد استُرقَّ بعد الحصار. وعلى الرغم من عدم وضوح الملابسات الدقيقة للموضوع، تُوِّج جناديوس بطريركًا في الخامس من يناير عام ١٤٥٤. وبعد وقت وجيز من وضع صيغة تمكِّن السلاطين من تعيين بطريرك جديد نصها: «عليك أن تكون بطريركًا وافر الحظ، متأكدًا من صداقتنا، ومحتفظًا بكل الامتيازات التي استمتع بها البطاركة من قبلك.» تم الاتفاق على تلك الصيغة، ومُنِح البطريرك السيطرة على الكنائس الأرثوذوكسية في كل أنحاء الإمبراطورية، ومُنِح نظامًا قضائيًّا أرثوذوكسيًّا، وحصل السلطان على الضرائب والطاعة.

واستقدم السلطان الأرمن أيضًا إلى المدينة، وعن هذا قال كريتوفولوس:

… استقدم السلطان إلى المدينة الأرمنَ الخاضعين لحكمه والذين كانوا نابغين في مجال الممتلكات والثروة والمعرفة التِّقَنِيَّة وغيرها من المؤهلات، واستقدم أيضًا المنتمين إلى طبقة التجار.

هذه هي النسخة الرسمية معسولة الكلام. ففي عام ١٤٨٠ كتب أرميني يُدعَى نيرسيس هذه الكلمات التي تنطبق أيضًا على بقية الأشخاص المُستقدَمين، فقال إن السلطان:

… تسبب في إثارة جَلَبة كبيرة بين المسيحيين وبين شعبه بنقلهم من مكان إلى آخر … لقد كتبتُ هذه الرسالة في وقت مرير؛ لأنهم نقلونا من أماسيا إلى القسطنطينية بالقوة ورغمًا عن إرادتنا، وقد كتبتُ هذه الرسالة ببالغ الحزن والأسى.

أما في القرن الثامن عشر، فقد أصبح بعض الأرمن مسئولي الصرافة لدى السلطان وعاشوا في قصور مطلة على البوسفور؛ لكن الكوارث أتتْ فيما بعد.

وما زالت توجد أيضًا قصائد بالعبرية تهجو استرقاق اليهود البيزنطيين وتهجيرهم وقسوة العثمانيين (ورغم ذلك فقد تمَّ سريعًا إحلال يهود آخرين مكانهم). وسرعان ما كتب أحد الأحبار إلى بعض إخوانه من رجال الدين اليهودي يقول:

… كلٌّ منا يعيش هنا في سلام وحرية. فهنا لا يُجبر اليهودي على ارتداء نجمة صفراء كعلامة للعار كما هو الحال في ألمانيا، ففي ألمانيا حتى الغنى والثروة الطائلة يمثلان لعنة لليهودي لأنه بهذه الطريقة يثير غيرة المسيحيين، فضلًا عن أنهم يُلفِّقون له شتى أنواع التهم والوشايات ليسلبوه أمواله.

في القسطنطينية تحت حكم العثمانيين لم تُرتَكب أية مذابح عنصرية مدبرة، ولم تُنشَأ جيتوهات عزل للأقليات اليهودية أو محاكم تفتيش. وفي الحادي عشر من أبريل عام ١٨١٠ عبَّر جون كام هوبهاوس، رفيق اللورد بايرون في التجوال، أثناء وجوده في المدينة في عبارة تكشف قسوة المعاملة التي يتعرضون لها في الغرب فقال: «عدد اليهود غزير في كل مكان ولا يتعرضون للإهانة.»

وعلى مدار فترة طويلة، أقامتْ جالية إيطالية — أغلبها من أهل جنوة وكانوا يشتغلون بالتجارة — حول برج جالاتا الذي ما زال يقف حتى الآن في مواجهة القسطنطينية على الجانب الشمالي من القرن الذهبي. ومن حكمة تلك الجالية أنها استسلمتْ مبكرًا وعقدتْ صلحًا مع السلطان، وسُمِح لها بموجب مرسوم صدر في الأول من يونيو عام ١٤٥٣ بالاحتفاظ بنوع من الحكم الذاتي على الرغم من عدم منحها الحق في قرع أجراس الكنيسة؛ لأنه من غير المسموح أن ينافس أيُّ صوت آخر صوتَ نداء المؤذن للصلاة. وظلت العائلات الكاثوليكية في جالاتا مثل عائلة درابيريس وفورنيتي وتيستا تقدم أجيالًا من المترجمين والدبلوماسيين للدول الكبرى في أوروبا. وحتى منتصف القرن العشرين ظلت جالاتا بالنسبة للأتراك المسلمين مرادفًا للجنس والخمر؛ إذ يقولون: «من يتحدث عن جالاتا فإنه يتحدث عن الحانات، فليسامحنا الرب.» ونجد أن محمدًا الفاتح نفسه يقول في إحدى قصائده:

لا أحد سيربط روحه بالجنة بعد رؤية جالاتا.

لا أحد سيفكر في شجرة السرو بعد رؤية هذه النعمة الجميلة.

هناك رأيت مسيحًا إفرنجي الطباع، لو رآه أي شخص قد رأى المسيح لقال إنه صورته الحية.

ضمَّت حاشية السلطان المؤرِّخ اليوناني كريتوفولوس، والتاجر الجنوي فرانسيسكو درابيريس، وطبيب السلطان اليهودي يعقوب باشا، الذي كان يعرف سابقًا باسم جاكومو دا جايتا، والصدر الأعظم محمودًا باشا ذا الأصل الصربي. وكان علي القَوْشَجي السمرقندي — آخر أعظم الفلكيين المسلمين — يدرس في المدرسة الملحقة بمسجد آيا صوفيا. أما الرسَّام الرسمي لدوق البندقية جينتيلي بيلليني، فرسم السلطان وزيَّن الغرف الداخلية لقصره بأشكال من التصوير الجصي الإباحي.

ويشكو أحد الشعراء الأتراك قائلًا:

إذا أردت أن تحظى بغاية التبجيل عند عتبة السلطان،

فيجب أن تكون إما يهوديًّا أو فارسيًّا أو إفرنجيًّا.

عُرفِت المدينة باسم إسطنبول بالنسبة للأتراك، وكونستانتينوبل للأوروبيين، وتساريجراد للسلاف، وبوليس لليونانيين (وتعني المدينة؛ فقد كانت غنية عن التعريف)، وكوشتا لليهود، والقدس الجديدة للأرمن، والأستانة (بيت الدولة) للعرب، والقسطنطينية أو دار السعادة (نظرًا لأنها حظيت بالسعادة المتمثلة في وجود السلطان) بالنسبة للحكومة العثمانية، وعُرفت المدينة في سنوات لاحقة باسم «إسلامبول» أو المليئة بالإسلام بالنسبة لبعض المسلمين. وبعد الغزو العثماني لمصر عام ١٥١٧ وقبول السلطان لدور خليفة المسلمين و«خادم الحرمين الشريفين» (مكة والمدينة)، اكتسبت المدينة لقبًا جديدًا؛ ألا وهو «مقر الخلافة». وكانت آفاق المدينة لا يضاهيها آفاق أية مدينة إسلامية أخرى؛ إذ حفلت بقباب ومآذن المساجد التي بناها سليم الأول (حكم من ١٥١٢ إلى ١٥٢٠)، وسليمان القانوني (حكم من ١٥٢٠ إلى ١٥٦٦)، وابنته ميهريماه سلطان، والسلطان أحمد (حكم من ١٦٠٣ إلى ١٦١٧)، ومحمود الأول (حكم من ١٧٣٠ إلى ١٧٥٤). وأظهر العدد المتزايد من المباني الحكومية والثكنات العسكرية ومصانع البارود والترسانة البحرية والقصور سيادةَ الحكومة على المدينة. وحاولت الحكومة تنظيم كل شيء بدايةً من لون النعال التي ترتديها الأقليات وحتى زاوية المنازل المبنية على طول مضيق البوسفور.

في معظم الأوقات عاشت الجاليات المختلفة في مناطق منعزلة، متجمِّعةً حول مسجد أو كنيسة أو معبد يهودي. لقد ولَّدت القسطنطينية الكراهية والتسامح أيضًا. وفي عامي ١٥٢١ و١٥٣٧ (في فترة الحرب مع الدول المسيحية الكبرى) كانت هناك دعوات لتدمير كل الكنائس، بل ولقتل كل المسيحيين في مناسبة أخرى. وأدَّى التطرف الإسلامي إلى منع إقامة المطابع أو أي مراصد فلكية.

ورغم ذلك، فمع زيادة عدد سكان القسطنطينية إلى ٣٠٠ ألف نسمة في القرن السابع عشر وإلى ٤٠٠ ألف نسمة في القرن التاسع عشر، أصبحت أكثر تحررًا من الأحقاد القومية. وعزَّز من هذه العملية بعد منتصف القرن السادس عشر ظهور عنصر أجنبي جديد؛ إذ أُنشئتِ السفارات في مزارع العنب الموجودة في شمال جالاتا لكلٍّ من فرنسا والبندقية والإمبراطور الروماني المقدس، وإنجلترا وبولندا. (وكانت توجد بعثات دبلوماسية منتظمة، رغم كونها غير دائمة، مُوفَدة من قِبل شاه إيران وإمبراطور المغول في دلهي.) ونظريًّا، كان السفراء الأوروبيون تابعين خاضعين للسلطان، ويقيمون بإذنه الكريم، وتحرسهم إنكشاريته. وكانت معظم المراسيم التي تنظم تواصل السفراء مع الباب العالي — مقر الحكومة العثمانية — مُهينة. وفي الشوارع كان الناس في بعض الأحيان يطلقون على جنود الإنكشارية الذين يحرسون السفراء «رعاة الخنازير».

وعلى الرغم من ذلك، كانت القسطنطينية هي العاصمة الإسلامية الوحيدة التي توجد فيها سفارات مسيحية دائمة. فتلك السفارات كانت نافذة بين عالمين بينهما عداء؛ كما أن حماية تلك السفارات (والمراسيم الإمبراطورية الصادرة عن الحكومة العثمانية) مكَّنت التجار الفرنسيين والإنجليز، والقساوسة ودارسي الدين، من العمل بحرية نسبيًّا في الإمبراطورية العثمانية. وفي القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، أصبحت القسطنطينية بالنسبة لكثيرين مقصدًا من مقاصد الجولة الأوروبية الكبرى، حيث كان يزورها مسافرون من أمثال اللورد سانويتش، واللورد شارلمونت، واللورد بايرون، ونساء مثل الليدي هيستير ستانهوب.

ومن خلال العلاقات الدبلوماسية والتجارية والامتداد الجغرافي أصبحت الإمبراطورية العثمانية، القوة الإسلامية الكبرى، «جزءًا ضروريًّا» من «النظام الأوروبي» كما وصفها اللورد كاسلريه في أوائل القرن التاسع عشر، واتخذت من القسطنطينية مركزًا دبلوماسيًّا لها. وكان هذا الأمر واقعًا وليس أملًا بعيد المنال.

كثير من الأحداث المهمة في التاريخ الأوروبي تأثرت على نحو غير مباشر بقرارات اتُّخِذتْ في القسطنطينية. وقد أعاق النفوذ العثماني في البحر المتوسط والبلقان جهود آل هابسبورج في القضاء على حركة الإصلاح البروتوستانتي؛ مما ساعد البروتوستانت الألمان على النجاة بأنفسهم في القرن السادس عشر. ورغبةً في تخفيف الضغوط النمساوية على الإمبراطورية العثمانية أرسل لويس الرابع عشر جيوشه لمحاربة الإمبراطورية الرومانية المقدسة عام ١٦٨٨، وبهذه الطريقة سهَّل دون قصد غزو ويليام الثالث أمير أورنج لإنجلترا وقيام الثورة المجيدة. وكان لانتصارات الروس على العثمانيين في الفترة ما بين ١٧٦٨ و١٧٧٤ أثر في منحهم فرصة البدء في تقسيم بولندا. وحلم الأباطرة الروس المتعاقبين من بطرس الأكبر وحتى نيكولاس الثاني بالاستيلاء ليس فقط على الولايات العثمانية الحدودية، بل أيضًا على مدينة القسطنطينية الأرثوذوكسية المقدسة نفسها، رغم أن بقية الدول الأوروبية الكبرى اعتبرت أن هذا الحلم ليس إلا كابوسًا. وفي عام ١٧٧٠ أرسلت فرنسا معلمين عسكريين تحت قيادة البارون دي توت للمساعدة في تحصين مضيق البوسفور ومضيق الدردنيل من البحرية الروسية. وفي عام ١٨٢٩ أرسلت فرنسا وبريطانيا أساطيل لحماية القسطنطينية من تقدم الجيش الروسي، وكذلك فعلت مجددًا بريطانيا عام ١٨٧٨.

كانت الأميرة ليفين زوجة أحد السفراء الروس في لندن مُحقَّة عندما قالت في خطاب إلى اللورد أبردين في ثلاثينيات القرن التاسع عشر مشيرةً إلى مستقبل الإمبراطورية العثمانية بأنه «أكبر مسألة تواجهها أوروبا بأسرها.» وفي عام ١٨٤٠ ساد التهديد بنشوب حرب بين فرنسا والدول الكبرى الأخرى؛ بسبب انتشار روح الوطنية الشعبية في فرنسا ضد طموحات حليف فرنسا محمد علي باشا حاكم ومؤسس مصر الحديثة الذي أراد حكم الولاية العثمانية سوريا. وحافظ لويس فيليب على سلام بلاده عندما رفض خوض الحرب من أجل محمد علي، لكنه خسر شعبيته في وطنه. كانت أوروبا تحتاج إلى الإمبراطورية العثمانية لتكون قوة حفظ توازن في البلقان والشرق الأوسط، وحائلًا منيعًا أمام التوسع الروسي؛ وفي المقابل كانت الإمبراطورية العثمانية في حاجة إلى أوروبا للاستمرار على الساحة.

من العوامل الثابتة القليلة في الدبلوماسية الأوروبية في الفترة ما بين القرن السادس عشر إلى الثامن عشر؛ التحالفُ الفعليُّ بين فرنسا والإمبراطورية العثمانية ضد العائلة المالكة النمساوية. بدأ هذا التحالف في عام ١٥٢٥ بعد معركة بافيا عندما توسل فرانسيس الأول إلى سليمان القانوني ليساعده في مواجهة الإمبراطور تشارلز الخامس الذي غزاه؛ فأعاد تجهيز الأسطول الفرنسي في ميناء القسطنطينية عام ١٥٣٨، وأعيد تجهيز أسطول عثماني في طولون عام ١٥٤٢. ومنذ عام ١٥٣٩ أصبح هناك سفير فرنسي دائم في القسطنطينية. وكان ملك فرنسا يُسمَّى في خطابات السلطان «باديشاه»؛ أي إمبراطورًا، مثل السلطان نفسه.

كان السفراء الفرنسيون يقدمون توجيهات لسلاح المدفعية العثماني خلال الحملة العثمانية على بلاد فارس في الفترة ما بين ١٥٤٨ و١٥٥٠، ونظَّموا عمليات بحرية فرنسية عثمانية مشتركة ضد إسبانيا في البحر المتوسط في الفترة ما بين ١٥٥١ و١٥٥٥. ومنذ عام ١٥٦٩ ومع استمرار تجديد الامتيازات الأجنبية تمكَّن التجار الفرنسيون من العمل في كل أنحاء الإمبراطورية العثمانية تحت حماية قوانينهم الخاصة. وبحلول القرن السابع عشر قيل إن حجم التجارة الفرنسية مع الإمبراطورية العثمانية كان مصدر رخاء لبروفنس بأكملها، وإنه يشكل نصف حجم التجارة البحرية الفرنسية كاملة. وقد قال أحد النبلاء الفرنسيين، ويدعى فارس آرفيو، الذي أصبح فيما بعدُ قنصلًا في سيدون: إن الإمبراطورية العثمانية بمنزلة «جزر الهند الغربية للفرنسيين.»

علاوة على ذلك، عملت السفارات الأوروبية كمراكز بحثية. فالكتب التي ألَّفها السفراء وضيوفهم من أمثال نيكولاس دي نيكولاي، أوجييه دي باسباك، أنطوان جالان، موراجا دوهسون، ورسوم فناني السفراء أمثال فانمور، فافري، كاساس، لويجي ماير؛ قدَّمتْ قدرًا من المعلومات عن الإمبراطورية العثمانية لا يتوفر مثيلها عن أية دولة أخرى باستثناء إيطاليا. وفي القرن السادس عشر كان فضول الناس لمعرفة خبايا الإمبراطورية العثمانية يفوق فضولهم بشأن أمريكا. وبفضل الخوري أنطوان جالان الذي ترجم ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية في الفترة ما بين ١٧٠٤ و١٧١٧، قرأت باريس تلك الحكايات قبل مائة عام من صدور مسرحيات شكسبير.

كانت السفارات أيضًا وسيلة لنقل الأفكار والأساليب الأجنبية، لا سيَّما العسكرية والبحرية، إلى الإمبراطورية العثمانية، فضلًا عن نقل الأساليب والصيحات العثمانية إلى أوروبا. ففي عام ١٧١٨، عقب عودة الليدي ماري وورتلي مونتاجيو من سفارة زوجها في القسطنطينية، ورغم المعارضة الكبيرة قدَّمتْ لقاح الجدري إلى إنجلترا. وفي القرن التاسع عشر فيما بعد، خرَّجت المدارس والكليات العثمانية والفرنسية والأمريكية الموجودة في مدينة القسطنطينية الصفوةَ الذين شكَّلوا الجمهورية التركية والدول العربية الحديثة وهم: مصطفى كمال، والملك فيصل الأول ملك العراق، والملك عبد الله الأول ملك الأردن، وثلاثة رؤساء سوريين، ومعظم رؤساء الوزراء الأوائل في العراق، والناشطة النسائية التركية (والروائية التي عمدتْ إلى الكتابة باللغة الإنجليزية) خالدة أديب، وكل هؤلاء كانوا خريجي تلك المدارس.

في ذلك الوقت انخفضتِ النسبة التي يشكِّلها المسلمون من سكان القسطنطينية، والتي كانت في السابق ثابتة عند ٦٠ في المائة تقريبًا، وأصبحت ٤٤ في المائة. وفي عام ١٩٠٠، بلغ عدد سكان المدينة مليون نسمة. وعلى الرغم من أن المدن العالمية الأخرى مثل فيينا وبراج كانت قد بدأت تأخذ الطابع إما الألماني أو التشيكي، فإن توازن القوى بين القصر والباب العالي والسفارات والمساجد والكاتدرائيات والثكنات العسكرية والبازارات والميناء جعل القسطنطينية مدينة عالمية حقًّا. وأصبحت المدينة اقتصاديًّا ودبلوماسيًّا جزءًا من النظام الأوروبي؛ ففُتِحت البنوك الأوروبية في جالاتا وسيطرت على الدَّيْن الحكومي، وصناعة التبغ، وكثير غير ذلك. بداية من السلطان فنزولًا، ارْتَدَتْ صفوة المجتمع العثماني ملابس مصممة على طراز أوروبا الغربية ومصنوعة في الغالب هناك. والأكثر من ذلك أن الأوروبيين هددوا بعض المباني العثمانية الأكثر قداسة في المدينة؛ إذ أُزيلت لوحات إزنيق الخزفية الرائعة عن المساجد الإمبراطورية وبيعتْ إلى متاحف الغرب مثل متحف اللوفر ومتحف فيكتوريا ومتحف ألبرت، كل هذا والسلطان عبد الحميد الثاني (حكم من ١٨٧٦ إلى ١٩٠٩)، آخر السلاطين العثمانيين الأقوياء، ما زال يعتلي العرش.

وفي سنواتها الأخيرة كعاصمة للدولة العثمانية، أصبحت القسطنطينية مدينة عالمية أكثر من أي وقت مضى. وبوصفها مقرَّ الخلافة الإسلامية وعاصمة آخر الولايات الإسلامية المستقلة المقاومة لدخول الإمبريالية الأوروبية، أسرتِ القسطنطينية قلوب المسلمين وأموالهم من البوسنة وحتى سومطرة. ورغم ذلك، ففي نوفمبر ١٩١٤، كان قرار وزير الحربية أنور باشا بدخول الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جوار ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية سببًا في الهزيمة والاحتلال الأجنبي. وبعد الحرب، في الفترة ما بين ١٩١٩ و١٩٢٤ تحولت حركة الخلافة المدعومة من قِبَل الهنود المسلمين وغاندي وبعض الهندوس إلى احتجاج وطني عارم، وعنيف في بعض الأحيان، ضد احتلال القسطنطينية «مقر الخلافة» على يد القوات البريطانية والفرنسية والإيطالية.

في عام ١٩٢٢ دحرتِ القوات الوطنية التركية غزو اليونانيين للأناضول، وطُرِد آخر السلاطين العثمانيين في العام نفسه. وبدأتِ المدينة تفقد طابع تعدد الجنسيات الذي كان مميِّزًا لها، وجاء مصطفى كمال الذي خلَّص تركيا من اليونانيين واتخذ أنقرة عاصمة جديدة لتركيا. وشهدت القسطنطينية، وكذلك بقية أنحاء تركيا، خروجًا جماعيًّا لليونانيين والأرمن. وبسبب عوامل متعددة مثل الوضع المالي والحالة الشرطية والضغط الشعبي الذي اشتمل على أعمال شغب في الشوارع في عام ١٩٥٥ بإيعاز من الحكومة، شجعتِ الجمهورية التركية منذ ذلك الوقت على مغادرة بقية اليونانيين والأرمن.

أما المدينة المعاصرة التي يبلغ تعداد سكانها نحو ١٢ مليون نسمة، فيشكِّل الأتراكُ والأكرادُ المكونَ الأساسي تقريبًا لسكانها رغم تدفق أعداد كبيرة من تجار أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى. علاوة على ذلك، فإن إغلاق آخر المعاهد الأرثوذوكسية على الأراضي التركية في عام ١٩٧٠ يجعل بقاء بطريركية القسطنطينية المسكونية والجالية اليونانية الضئيلة مثار شك. ومع ذلك، فإن الطابع الجديد الذي يتسم حصريًّا بالهُوِيَّة الإسلامية لا يمنع إسطنبول وتركيا، مثلما كان الوضع أيام السلاطين العثمانيين، من الحنين إلى أن تكون جزءًا من «النظام الأوروبي» والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

30 ديسمبر, 2015 11:05:58 صباحا
0