تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كيف يغزل المخ قصة حياتك

تتألف سيرتنا الذاتية من أحداث حياتنا المتعددة؛ لكننا ننتقي ونختار الأحداث التي نضمها إليها.

تتكون ذاكرتك من قصاصات حياتك.

تتكون ذاكرتك من قصاصات حياتك.

يوم التخرج، أول حفل موسيقي حضرته، أول قبلة. هذه الذكريات الشخصية تتميز عن باقي ذكرياتنا التي تشمل قوائم التسوق أو عواصم العالم. إن ذكريات سيرتنا الذاتية تحدد هويتنا، وتعبر عن حقيقتنا.

على الرغم من ذلك، فهي أبعد ما تكون عن الاكتمال؛ إذ تحفل بعض فترات حياتنا بكثير من الذكريات وتتسم أخرى بذكريات قليلة متفرقة نسبيًّا. ما الذي يدفعنا إلى تذكر حدث ونسيان آخر؟ حتى عهد قريب، كان هذا الموضوع في نظر الباحثين لغزًا مبهمًا، لكنهم بدءوا الآن يخطون خطوات واسعة نحو فهم الطريقة التي تسطر بها عقولنا قصة حياتنا.

تبدأ عقولنا في التذكر في سن مبكرة بالتأكيد، فتتعلم ارتباطات بسيطة قبل أن نولد، حتى إن إحدى الدراسات المصغرة اكتشفت أن الأطفال حديثي الولادة يميلون إلى التوقف عن البكاء عندما يستمعون إلى نغمة برنامج تليفزيوني كانت الأم تشاهده أثناء الحمل، ربما لأنها ذكرتهم بالطمأنينة التي شعروا بها في الرحم. لكننا لا نستطيع أن نتذكر أحداثًا محددة على المستوى الواعي قبيل سن الثانية أو الثالثة؛ أي عندما تبدأ ذاكرة سيرتنا الذاتية في التطور. وحتى عندها، يصعب علينا تذكر الكثير مما حدث قبل سن السادسة.

حتى الآن، ظهرت ثلاثة عوامل قد تفسر هذه الذاكرة الضبابية. أحد الاحتمالات هو أن المسارات العصبية لا تكون ناضجة بما يكفي بين منطقة الحصين — وهي مركز تجمع الذكريات — وبقية أجزاء المخ، ومن ثم قد لا تكون تجاربنا التي تنتمي إلى هذه الفترة مثبتة في مخزن الذكريات طويل المدى. وتلعب المهارات اللغوية المتنامية لدينا دورًا رئيسًا حسبما يرى مارتن كونواي، الأستاذ بجامعة سيتي يونيفرسيتي لندن؛ لأن الكلمات تمثل المشجب الذي نعلق عليه ذكرياتنا لنستدعيها مستقبلًا. أثبتت تجاربه أن الأطفال لا يميلون إلى تذكر حدث حتى يتعلموا الكلمات التي يصفونه بها.

وعيُنا بهويتنا ضروري أيضًا من أجل تذكر تجارب معينة. في سلسلة من التجارب، عرض مارك هاو الأستاذ بجامعة لانكستر في المملكة المتحدة على أطفال صغار أسدًا لعبة، ثم وضعه بعد ذلك في أحد الأدراج. بعد ذلك بأسبوع، تمكن الأطفال القادرون على التعرف على أنفسهم في المرآة — وهي علامة على أنهم أصبح لديهم وعي بالذات — من تذكُّر مكان اللعبة المحشوة، أما الصغار الذين أخفقوا في اختبار المرآة فلم يتذكروا شيئًا.

كلما تقدمنا في العمر، تطورت هوياتنا وذكرياتنا معًا في تناغم حميم. وفي حين تشكِّل أحداث حياتك رأيك في نفسك، فإن شخصيتك أيضًا تحدد ما تتذكره؛ فالشخص الذي يظن أنه شجاع قد يخفق في تذكر موقف تصرَّف فيه بجبن مثلًا. يقول روبين فايفوش الأستاذ بجامعة إيموري يونيفرسيتي في أطلانطا بجورجيا: «ثمة علاقة وثيقة تربط بين وعيك بهويتك وكيفية إظهارك لسماتك الشخصية وبين ذاكرة السيرة الذاتية.»

من يوجه كل هذه الأمور هم آباؤنا الذين يشكِّلون هوياتنا ويطبعون ذكرياتنا بحكاياتهم التي يقصونها. عندما تناقش العائلات الأحداث الشخصية بإسهاب، يكوِّن الأطفال قصصًا خاصة بهم قبل بلوغهم سن دخول المدرسة أكثر تفصيلًا من تلك التي ينسجها الأطفال الذين يقص آباؤهم قصصًا أقل تعقيدًا. تعتقد تشي وانج، أستاذة علم النفس بجامعة كورنيل يونيفرسيتي في إيثاكا بنيويورك، أن هذا قد يفسر تأثير الثقافة على الطريقة التي نستدعي بها ذكرياتنا. يميل الآباء الصينيون إلى تقليل التركيز على التجارب والعواطف الشخصية عندما يناقشون الماضي ويفعلون ذلك بتفاصيل أقل من الأمريكيين مثلًا. ونتيجةً لهذا، اكتشفت تشي وانج أن ذاكرة الصينيين — حتى بعد بلوغهم — يغلب عليها الابتعاد عن الشخصنة، بل تركز على الأحداث ذات الدلالة الاجتماعية أو التاريخية.

وعندما نبتعد عن الأمان الذي نشعر به في أحضان آبائنا، تواصل ذاكرة سيرتنا الذاتية نضوجها. يرى كونواي أن الاختلاف ملحوظ إلى حد ما؛ فلا يستطيع طفل يبلغ من العمر ١٠ أعوام أن يروي قصة حياة متماسكة، أما الشخص البالغ ٢٠ سنة، فيستطيع أن يحكي لساعات. ويضيف: «شيء ما يحدث خلال فترة المراهقة هذه.» لكن ما هو؟ نفتقر حتى الآن إلى دراسات تتناول هذا السؤال. يقول كونواي: «هناك فجوة واسعة بين سن السابعة تقريبًا وأواخر فترة المراهقة لا نعي عنها شيئًا.»

السيناريو الثقافي

لكننا، في الحقيقة، نعلم أننا من المرجح أن نتذكر أحداثًا وقعت في نهاية فترة المراهقة؛ أي بداية فترة الشباب، أكثر من أي فترة أخرى في حياتنا. قد يحدث «اندفاع الذكريات» هذا نتيجة تغيرات تشريحية في المخ الذي لا يزال قيد التطور. أو ربما كان ما يحدث هو أن المخ يعالج العواطف بحماس أكبر أثناء فترة المراهقة وبداية الشباب، وتتشبث الذكريات المرتبطة بالمشاعر الحادة بالمخ لفترة أطول.

أو ربما يرجع هذا ببساطة إلى حقيقة أن العديد من الأحداث البارزة المهمة في حياتنا تحدث غالبًا أثناء هذه الفترة؛ مثل تعلم القيادة والتخرج والوقوع في الحب لأول مرة. يقول فايفوش: «تلك الأحداث المميزة هي الأقرب إلى التذكر لأنها ذات طابع ثقافي.»

تدعم أبحاث أُجريت حديثًا في الدنمارك هذه الفكرة. اكتشفت أنيتا بون ودور برنستين من جامعة آرهوس أنه عندما طُلب من أطفال صغار كتابة قصة حياتهم المستقبلية، كانت أغلب الأحداث التي تخيلوها تقع في مرحلة بداية الشباب، لتحاكي بذلك اندفاع الذكريات. ومن ثم، يبدو أننا نعي «سيناريو الحياة الثقافي» منذ سن مبكرة، مما قد يشكِّل ذكرياتنا عن الأحداث عندما تقع.

يساير هذا الاكتشاف فكرة أن الذاكرة والبصيرة تتشاركان الآلية نفسها داخل المخ. يبدو أن قدرة الطفل على تخيل المستقبل تتطور بالتزامن مع ذاكرة السيرة الذاتية لديه. وفي الوقت نفسه اكتشفت تشي وانج أن الاختلافات الثقافية التي تشكِّل قصص حياتنا الشخصية تستطيع أن تؤثر في قدرتنا على التخطيط؛ حيث أوضحت أن الصينيين يكونون أكثر تحفظًا حيال الإفصاح عن تفاصيل شخصية دقيقة من الأمريكيين عندما يتحدثون على أحداث مستقبلية.

بالتأكيد لا نمتلك ذاكرة سيرة ذاتية تامة، لكن سواء كنا نتطلع إلى المستقبل أو نتأمل أحداث الماضي، فإن قصصنا الشخصية تلعب دورًا جوهريًّا في فهم موقعنا من العالم. هذه النقطة جديرة بالتذكر.

الذاكرة المشتركة

ذاكرة السيرة الذاتية شخصية بطبيعتها، لكن هذا لا يعني أنها تخصنا وحدنا، وفقًا لرأي أماندا بارنيار، عالمة القدرة المعرفية بجامعة ماكواري في سيدني بأستراليا. أجرت هي وزملاؤها مقابلات شخصية مع أزواج مرت على زواجهم عقود، وكما هو متوقع، استطاع الأزواج أصحاب التذكر المشترك — لا المستقل — أن يتذكروا أحداثًا أكثر بكثير من هؤلاء الذين استخدموا ذاكرتهم المنفردة.

تركز الكثير من الأبحاث على جوانب القصور في هذه العملية، بما فيها الذكريات الزائفة: فمن الشائع أن يدمج الأشخاص ذكريات أشقائهم أو أزواجهم في قصص حياتهم الخاصة مثلًا.

لكن أماندا بارنيار تعتقد أن فوائد التذكر التعاوني قد أُغفلت فترة طويلة. وقد يؤدي فهم الكلمات الدلالية التي يستخدمها كل زوج لحث الآخر على التذكر إلى ظهور سبل جديدة لتقوية الذاكرة لدى كبار السن الذين يعانون الخرف مثلًا.

تقول أماندا: «نسمع كثيرًا عن فكرة أن يفقد الشخص شريك عمره، وفجأة يعاني تدهورًا سريعًا، فيبدو وكأنه فقد جزءًا من عقله.»

28 مارس, 2017 03:53:45 مساء
0