Перейти к основному содержанию
حياة غير مهمة في قصص جمعة شنب

يكتب جمعة شنب قصصه القصيرة جدًّا من الواقع الأردنيّ خصوصًا، والعربيّ عمومًا، والإنساني على نحو أشد عموميّة. يكتب بؤسَ هذا الواقع، يكتبه كما هو، يرسمه واقعًا بائسًا، عاريًا، ميئوسًا منه تمامًا. هو يكتبه ولا يكتب عنه. وهناك فرق بين أن تكتب الشيء وأن تكتب عنه. ففي الحالة الأولى، نحن حيال العالم والحياة لا أمام وصفها فقط. ولأن القصص قصيرة جدًّا، بعضها لا يزيد على سطرين، فقد جاءت بلغة شديدة التكثيف، لغة تصويرية وحادة وقاسية، لغة على قدر من الشاعرية. ولمّا كان من الصعب على أي قراءة لهذه المجموعة الإلمام بقصصها وحالاتها، كان من الممكن الإضاءة على أبرز معالمها وملامحها.


وكما في كتاباته جميعًا، في قصصه الطويلة والقصيرة، فإن جمعة شنب في مجموعته الجديدة «رجل غير مهمّ بالمرّة» (الدار الأهلية - عمّان) يلتفت إلى أدقّ التفصيلات في الحياة اليومية لشخصياته، فضلاً عن اهتمامه بالجوانب النفسية لهذه الشخوص، وتركيزه على عوالمها الداخلية العميقة. إنها شخوص تعبر عن يأس وإحباط وقلق، مثلما تعبر عن العنف والهمجية والخراب العامّ. فالقارئ إذاً أمام القسوة التي يعيشها في واقعه، حتى أن قراءة هذه القصص، قد تصيب بالاختناق لشدة ما تنطوي عليه من سوداوية ساخرة، وسخرية سوداء، هي في روح الواقع المعيش.

عالم جمعة شنب، غالبًا، هو عالم المهمّشين، وهذا ما يبدو واضحًا منذ عنوان المجموعة المتضمّن رجلًا على قدر من الهامشية حتى أنه «غير مهمّ بالمرّة»، وليس فقط «غير مهمّ»، وفي اختيار مفردة قريبة من العاميّة «بالمرّة»، في عنوان المجموعة، تعزيز لهذه الهامشية، وقد كان في إمكان الكاتب اختيار مفردة فصيحة تمامًا، لكن اختياره مقصود وذو دلالة. فالقصة التي تحمل عنوان المجموعة هي «حكاية» شخص ظل طوال سبع عشرة سنة يغرس في عقل زوجته «قناعات» عن عظَمته ومكانته وإمكاناته، لكن هذا كله ينهار ويتكشف عن خزعبلات حين يقنعه شخص آخر بأنه شخص «قليل الشأن وضئيل»، وحين يفضي لِزَوجته بهذه القناعة ترمقه بازدراء و «تُواصل جلْيَ الأواني».

هذا نموذج على درجة البؤس والانسحاق وغياب الثقة في النفس الذي قد يصل إليه إنسان ما، وفي كل قصة من قصص المجموعة، وهي تقارب مئة قصة أو تزيد، ثمة نموذج ذو خصوصية. ويعمل شنب على التقاط تناقضات الحياة والواقع، راسمًا صورًا ومشاهدَ تتراوح بين الجدية والهَزل، فنرى البؤساء في مواجهة الأثرياء، وحروبًا هنا وهناك، والمرأة في مواجهة الرجل، والموظف/ الموظفة في صراع أو تنافس أو استرضاء للمدير، بل يمكن أن نجد شخصًا يتعارك مع كرسيّ لأن النظر إليه «غير مُبهج بالمرّة» مثلًا.

وإلى ذلك، فقصص جمعة المشهدية، ذات اللقطة التشويقية، تنطوي على مواقف غاية في الطرافة، والظَرافة أحيانًا، مواقف تنتزع ضحكة القارئ حينًا، وقد تجلب له شعورًا بالأسى أحياناً، وذلك لما تتضمّنه من مفاجآت مدهشة، سارّة أو مؤلمة، ومواقف تبلغ حدود الكوميديا والعبث، لكنّ الأهمّ هو كيف يبني الكاتب قصّته ليقنع قارئه بصدقية قصته فنيًّا وموضوعيًّا، وأن القصة، ومهما كانت غرائبيّة الفكرة والبناء والموضوع، أو ذهنيّتها وخياليّتها، فهي في صورة من الصور، تنتمي إلى الواقع، إلى واقع ما.

أما القتل والضرب والحروب الأسَرية والأهلية في قصص شنب، وهي تبدو عبثية أو لأسباب تافهة، مثل معارك الزوجين، لكن التمعّن في هذه الأسباب يوقفنا على طبيعة المجتمع وبِنيته ومشكلاته، وكذلك طبيعة تكوين الأسرة وثقافتها. فقصة الرجل الذي يعكف على قراءة كتاب ساعات، ثم تأتي زوجته وتنتزع الكتاب وترميه في الأرض، فيصفعها، ويلغيان حفلة عرس كانا سيحضرانها، هذه القصة «تقول» تفاصيل كثيرة من واقعنا وحياتنا، تحكيه في اختصار وتكثيف وترميز تحيل كلها على قدرة القصة القصيرة جدًا على قول الكثير، وبأسلوب الجملة القصيرة والشاعرية أيضًا.

وإلى ذلك فإن قصص جمعة تتابع وتعالج قضايا مواقع التواصل الاجتماعي، الفايسبوك مثلًا، وعلاقات الرجال والنساء، الذكور والإناث، وما ينتج من هذه العلاقات من خراب في البيوت والحياة العائلية، لكن عالمه أوسع من ذلك، ونقرأ في هذا العالم عن رجال متسلطين وعادات منتنة، وعن الأب الذي يحب أن يناديه أفراد عائلته بـ «ربّنا الأعلى»، وكثيرًا ما نرى رجلًا وامرأة غريبَي الأطوار و «الحوار الدائر بينهما غير وديّ على الإطلاق...»، أو نجد رجلًا تقوم زوجته «بقضم خدّ بنته الرضيعة» ونرى ابنه وقد «أجهز على نصف لحم أخيه...»، المفارقات اللغوية، قتلته لأنه طالبها بمراقبة سمنتها ودفنته هو وقطّتها في حفرتين، يعكس حجم الرعب والقسوة في عالمنا.

ويمتد عالم جمعة شنب إلى خارج العالم الاجتماعي، ليطاول عوالم وآفاقًا سياسية، وهنا نلتفت إلى أنه رغم أن الكثير من قصص المجموعة، بل قصص جمعة عمومًا، هي ذات معالجات اجتماعية، فهو شديد الملاحظة لهموم المجتمع وقضاياه الصغيرة والكبيرة، والتقاط أدقّ التفاصيل في حياة الفرد والمجتمع. لكن هذا لا يمنع الالتفات إلى الجوانب السياسية في قصص جمعة. فهو يمتلك ذاكرة سياسية يحوّلها إلى نوع من الكوميديا. ففي قصة عن «مسيرة» تبدأ بالهتاف الشهير «فليسقط وعد بلفور» يلتفت أحد المتظاهرين إلى شخص يقوم بتصوير التظاهرة من أعلى بناية مجاورة، فيتحول الهتاف إلى «فليسقط واحد من فوق»، ثم خلال دقائق تنتهي التظاهرة، لتدخّل قوات الأمن غالبًا.

وعدا ذلك، فهو يتصل بقضية شرق/ غرب، والعلاقة بينهما، من خلال شرق بائس في اليمن يرى أن أميركا والغرب عمومًا هما سبب مآسي الشرق، عبر حديث امرأتين غربيّتين، وبين غرب مرفّه يرى الشرق سببًا لمآسي العالم. وثمة عالم المخيم والبرد والتظاهر والقمع، عالم آخر من البؤس المآسي يلتقطها جمعة من هذا العالم الشديد السوداوية. عوالم شديدة الكآبة أيضًا هي من حياتنا وواقعنا تجعلك شديد اليأس تجاه هذا العالم وتغييره نحو الأفضل.

باختصار، أنت حيال قصص قد لا تكتشف فكرة القصة أو حكايتها، لأنها بفكرة صغيرة وبسيطة، وبلا حكاية غالبًا. لكنك ستُصاب بحالة من الاكتئاب لشدة ما فيها من صراعات تبلغ حدّ الاختناق. لكنها شديدة التعبير عن الواقع. في لغة أنيقة ومضبوطة ومبتكرة. حتى على مستوى الإعراب وعلامات الترقيم.

18 окт, 2018 10:48:07 AM
0