ثنائيات العنف والحنان
هناك قدر هائل مِن التنوُّع في البيئات المصرية، نظرًا لاختلافات جغرافية وثقافية عديدة، ونادرًا ما كان الفن عادلًا ومنصفًا في نَقل هذا التنوُّع، فلا زال أغلب المسلسلات الدرامية، على سبيل المثال، يتراوح بين القاهرة والإسكندرية، ولا يبتعد عنهما إلَّا ليأخذ مشاهد سياحية على أحد شواطئ النُخبة أو في مناطق صحراوية أقرب للمنتجعات. وفي الأدب، أصبحت الأعمال التي تؤثر الابتعاد عن المركز أقلّ فأقل، فَبعدَ أعمال شهيرة وهامة مثل فساد الأمكنة لصبري موسى وواحة الغروب لبهاء طاهر، نستطيع أن ننتبع بضعة عناوين خلال السنوات الأخيرة، مثل سيدي براني لمحمد صلاح العزب وجبل المجازات لأحمد كامل ووادي الدوم لعلاء فرغلي، بعيدًا عمَّا بينها جميعًا مِن اختلافات فنية قد تكون عميقة أحيانًا. ومِن المُقلق أيضًا أن نجد الكُتَّاب الأحدث سِنًا وتجربةً مِن محافظات بعيدة تمامًا عن المدن الكبرى، وفي حدود إطلاعي على الأقل، نادرًا ما تعكس كتاباتهم محيطَهم المباشر أو تلتفت لخصوصيته وثرائه، وكأنهم صاروا جميعًا يكتبون حسب مقاييس موحدة، هي للأسف مقاييس كتابة المدينة، بل حسب ثقافة محددة ضيقة داخل تلك المدينة.
هذا كلُه يُفسّر جانبًا مِن سعادتي بقراءة مجموعة هشام البواردي، حرب كبيرة، الصادرة قبل أشهرٍ عن دار المرايا، حيث تدور قصصها في محيط إحدى قرى الدلتا، تحديدًا كَفر غير مُسمَّى بالقرب من قرية السنبلاوين، مِن غير أن تقع هذه القصص في الصورة الزائفة لفلَّاحين الدراما التليفزيونية أو تستسلم لغواية الإنثربولوجي، وهو للأسف فَخ ابتلعَ كثيرًا مِن الأعمال الأدبية الجيدة وخصوصًا كلما أوغلت في ثقافات نائية ومجهولة لدى أغلبنا، وفيها يكون الناس وطبائعهم وعاداتهم مجرد مادة مثيرة لاهتمام الباحث، أقرب إلى الفلكلور والكائنات المهددة بالانقراض. غير أننا في هذه المجموعة أمام شخصيات حيَّة وليس نماذج بحثية، يشبهوننا كثيرًا ولا يختلفون بالمرة عن ناسنا وأهلنا الغلابة في تسعين بالمئة مِن أرض مصر، بصورتهم (الواقعية) – مهما اتفقنا أو اختلفنا حول مغزى ودلالة هذه الكلمة ثقيلة الوزن – بطموحاتهم ومخاوفهم و(غُلبهم)، وأيضًا ولأنهم بشر أبعد ما يكونون عن الملائكة، بقدراتهم المذهلة أحيانًا على القسوة والعنف والغدر والقتل.
هشام البواردي مِن مواليد المنصورة عام 1977. حصلت روايته الأولى، الحياة عند عتبات الموت، على المركز الأوَّل في مسابقة إحسان عبد القدوس عام 2009، ونشرت بعد ذلك في دار مدبولي، أمَّا روايته الثانية، والتي اطلعت عليها منذ نحو عامين، الرجل النملة، فقد صدرت عن دار العين عام 2017 وفي العام نفسه رُشحت لجائزة ساويرس. وكان عالَم الريف المصري إطارًا شديد الوضوح في هذه الرواية، أو على الأقل في نصفها الأوَّل قبل أن يغترب بطلها عن قريته وأهله ليعمل صيدليًا في السعودية. ورغمَ الانقسام الحاد بين العالَمين، أو نِصفي الرواية، فقد عكسَ هذا التناقضُ الفاضح بينهما عُمقَ الاغتراب وقسوته دون تصريح مباشر بذلك، فمِن الخُضرة إلى الصُفرة، ومِن البراح والوَنس إلى الضيَق والوحشة. وعلى العموم، كانت التجربة الإنسانية العميقة والصادقة في رواية الرجل النملة هي البطل الأساسي، وليس الأسلوب ولا اللغة ولا بنية العَمل، فقد اتسمت ببساطة بالغة في هذا كله.
في مجموعته القصصية الأولى، لم يزل هشام البواردي ممسكًا بتلابيب البساطة والصدق ووضوح النبرة، وإن تأكَّدت بعض سماته الأسلوبية واتخذت قوامًا أوضح، مِن ذلك على سبيل المثال استعانته المتكررة بالمفردات والتراكيب العامية، بل ربما يشعر القارئ أحيانًا أنه يسمع، لا يقرأ، حديثًا مِن أحاديث السَمر الريفية، أو بالأحرى جلسة مصطبة ونميمة ومَسك سيرة وتقطيع فروة خلق الله. تبدأ قصة بائع الملح العجوز هكذا: “انضمَّ العجوز كروان البلبيسي، الذي يسكن في شارع “المطاريد”، وهو الشارع الأخير في الكَفر، بجوار بيت الحاج لطفي الشحَّات صاحب الفِراشة، إلى تخت الشيخ عوض حافظ، القارئ بالإذاعة المصرية، حديثًا.” تبدأ القصة بالخبر، الذي تليه الحكاية وأصلها وفصلها وأبطالها أو بطلها الوحيد هنا. وتوحي الإشارة المحددة بوضوح إلى مسكن البلبيسي بأن المتكلم والسامع يعرفان المكان جيدًا وبأن الخطاب حميمي ولا أحد غريب بيننا. وربما نتيجة لاعتماد هذه النبرة في الحَكي، قد تطغى العامية أحيانًا حتَّى تهيمن على السرد، بصرف النظر عن قواعد اللغة والنحو وخلافه، ففي نفس هذه القصة نقرأ: “وقد نفقَ في رحلته تلك أربعة حمير، وعربتين كارو، وشاف بلاد، وتُرع، ومصارف، وقعد مع عُمَد، عُمَد عُمَد، وملَّى عينيه وروحه بجمال نسوان تحل من على حبل المشنقة! المَرة مَرة!”.
كأننا أمام حكَّاء شعبي، يجد وسيلته في الكتابة ويلجأ إليها مضطرًا لمجرد أنه غير قادر على الحَكي المباشر للناس عبرَ وسائط أخرى، لا يتعارض هذا الحِس مع استعانة هشام بأغلب تقنيات القص الحديث في رسم شخصياته ومواقفه. حرْص الكاتب على هذه النبرة ليس خياريًا جماليًا وحسب بقدر ما هو أيضًا موقف اجتماعي وأخلاقي تجاه هؤلاء الناس وهذه الحياة، فَكأنه لن يستطيع رسمهم وتشكيل صور حياتهم إلَّا إن أخلص لنبرة أصواتهم واستعار مفرداتهم وسعى بينهم ولم يطل عليهم مِن أعلى، وقد أحسستُ نبرته هذه موفقة في أغلب القصص، إلَّا حينما يرتبك المعنى الفصيح للمفردة بدلالتها العامية، مِن ذلك استخدام الفِعل (يتحايل) بمعنى التوسُّل، وليس بمعنى الحيلة والمكر. أو عندما يزج بتعبيرات مثقفين ومتعلمين في وسط الجملة فتبدو مثل سائح أجنبي تائه وسط قرية نائية، مثل عبارة (في المطلق).
لكن سِحر هذه القصص لا ينبع مِن لغتها ولا نبرتها الريفية خفيفة الروح، بل مِن طبيعة شخصياتها، فكأننا أمام ألبوم بورتريهات لنحو عشرين شخصية عجيبة، وربما في بعض القصص أكثر مِن صورة لأكثر مِن شخصية. ورغمَ ما قد تتسم به الشخصيات أحيانًا مِن قسوة تجاه الآخرين، ولو كانوا مِن لحمها ودمها، ورغم ما قد يشوب بعض أخلاقها مِن فساد، فهي كلها مرسومة بحنوٍ وعذوبة وطرافة، تثير الغيظ والابتسام والتعاطف معًا. لا يغفل الكاتب عن التناقضات الهائلة في حياتها وفي داخلها على السواء، ولعلَّ وعيه الحاد بهذه التناقضات دفعه لتشكيلها في ثنائيات صارمة، جعلت قصصه تتأرجح بين أقطاب متعارضة، فانقسمت بين القسوة الضارية (تصل لحد قتل حيوان أو إنسان) أو الحنو البالِغ (في العشق بين زوجين مسنين مثلًا أو في علاقة امرأة بحمارها)، حتَّى أنَّ هذه التضارب تسرب بوعي أو مِن غير وعي إلى عناوين بعض قصص الكتاب، مثل: الحُب والكره – المبصر والكفيف – النور والظلام. وتجدر الإشارة إلى أنَّ اختيار بعض العناوين عمومًا شابه شيءٌ مِن التسرع والتساهل غير جدير بجمالها وفتنة شخصياتها.
ثمَّة نغمات متكررة بين قصص الكتاب وشخصياته، كأنَّ الكاتب لديه ضعف خاص نحوها، مِن قبيل لحظة انقضاء حياة حافلة لرجل مسن أو سيدة عجوز، وكيف تنفض الدنيا مِن حولهم أو يقسو عليهم الأبناء. العُنف حاضِر بقوة كذلك، مِن القصة الأولى، حرب كبيرة، وهو عنوان المجموعة، والمفارقة في أنَّ تلك الحرب ما هي إلَّا محاول أهل قرية بكاملها لتفريق كلب وكلبة اشتبكا معًا والتصق عضواهما في أثناء الفِعل الجنسي، ونرى العنف الغليظ الغشيم مرة أخرى في قصة موت حِمار ليلى، حيث يتواطأ جميع أهل القرية على قتل حِمار، بأبشع وأقسى السُبل والوسائل، لمجرد أنَّ صاحبته ليلى تحبه وتحدثه وتنام بالقرب منه، فتسري شائعة بأن هناك اتصال جنسي بين ليلى وحمارها، الأمر الذي لا يرضي نخوة أهل الكَفر بطبيعة الحال. العُنف والقسوة لا ينالان مع ذلك مِن الحس الساخر الذي يسري في أوصال القصص، وإن كانت سخرية مُرَّة شأنها شأن كل شيء في حياة ناس هذا الكَفر، أم نقول ناس هذا البلد؟
المصدر:الكتابة