Перейти к основному содержанию
المكان الحقيقي في الرواية العربية

المكان الحقيقي في الرواية العربية

 

د. محمد عبدالله القواسمة
الرواية العربيّة وفيّة للمكان الحقيقي، وكأنّها تلتقي باهتمام الشعر العربي به، وبخاصة الشعر الجاهلي. نعاين هذا الاهتمام في الرواية التقليدية التي واكبت نشوء الرّواية، وما زالت على قيد الحياة، بخلاف الرواية الحداثية التي ظهرت بتأثير المنجز الغربي، وتنظيرات الروائيين والنقاد الفرنسيين، من أمثال: آلان روب غرييه، وكلود سيمون، وميشال بوتور.
إن المكان في الرواية التقليدية مكان حقيقي، ليبعث الإحساس لدى القارئ بإمكان معاينته على أرض الواقع، من خلال إغراقه بالتفاصيل والأوصاف الدقيقة؛ إذ كماـ يقول نجيب محفوظ: «إن أكثر التفاصيل صناعة ومكر لإيهام القارئ بأن ما يقرأه حقيقة لا خيال إذ إنه لا يثبت الموقف أو الشخص كحقيقة مثلُ التفاصيل المتصلة به وكلّما دقت أسرع القارئ إلى تصديقها» وتبعًا للعلاقة بين المكان الروائي والمكان الواقعي، أي المكان الموصوف في الرواية وبين المكان خارجها ظهرت تنويعات للمكان في الرواية العربيّة التقليدية، ويمكن أن نضعها في عناوين ثلاثة مستفيدين من المصطلحات البلاغية: المكان المحاكاتي، والاستعاري (الرمزي)، والكنائي أو المعادل الموضوعي.
ويمكن التمثيل على المكان الذي يحاكي الواقع برواية «زقاق المدق»، إذ تبدأ الرواية بتقديم المكان الزقاق بالإشارة إلى تاريخه الغابر، الذي تظهر ملامحه على طرقه ومنازله وحوانيته، فنقرأ: «كيف لا وطريقه المبلط بصفائح الحجارة ينحدر مباشرة إلى الصنادقية، تلك العطفة التاريخية، وقهوته المعروفة بقهوة كرشه تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك، هذا إلى قدم باد، وتهدّم وتخلخل، وروائح قوية من طب الزمان القديم الذي صار مع كرور الزمن عطارة اليوم والغد..»
ففي هذا التقديم تتضح وظيفة المكان في تأطير الأحداث، والإيهام بحقيقة وجوده عبر بيان تجذّره في الماضي.
وتمضي الرواية في تأكيد صدق المكان وحقيقته في ايراد الوصف الدقيق للأشياء التي تملؤه، وتقديم التفاصيل عن حركة الأشخاص فيه. ففي احدى الرقاع المكانية تتناول الرواية الفرن الذي يخدم مجتمع الزقاق برسم أبعاده، وبيان شكله، ومساحته، ومكوّناته، وألوانه، وما يحيط به من مبان ومنازل: «يقع الفرن فيما يلي قهوة كرشة. لصق بيت الست سنية عفيفي. بناء مربع على وجه التقريب، غير منتظم الأضلاع، تحتل الفرن جانبه الأيسر، وتشغل الرفوف جدرانه، وتقوم مصطبة فيما بين الفرن والمدخل ينام عليها صاحبا الدار: المعلمة حسنية وزوجها جعدة، وتكاد الظلمة تطبق على المكان ليل نهار لولا الضوء المنبعث من فوهة الفرن. وفي الجدار المواجه للمدخل يرى باب خشبي قصير يفتح على خرابة..»
وإذا بدا المكان في رواية «زقاق المدق» مكانًا جغرافيًا تتحقق فيه المحاكاة للواقع، فإنه يتحول إلى رمز للواقع في رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني إذ تتحول العمارة إلى رمز لمصر، ويتضح هذا من خلال إبراز تاريخها، وتنوع الطبقات الاجتماعية التي تسكنها، وحكايات الشخصيات الفاعلة فيها؛ فالرواية تربط بين تاريخ العمارة منذ بناها المليونير الأرمني هاجوب يعقوبيان عام 1935 وتاريخ مصر حتى تسعينيات القرن الماضي، وتمثل في سكانها، من الأغنياء والفقراء وصغار الحرفيين، مختلف فئات الشعب المصري.
وتحمل شخصياتها النمطية حكايات تمثل العالمين: عالم الغنى، وعالم الفقر؛ فمن هذه الحكايات حكاية شخصية زكي الدسوقي ابن الرجل الغني عبد العال الدسوقي من زعماء حزب الوفد، وفي عهد الثورة لم يستطع أن يصل إلى أن يكون ذا شأن، لهذا يلجأ إلى الهجوم على عبد الناصر ووصفه بأنه « أسوأ حاكم في تاريخ مصر كله»> وتناقضها حكاية شخصية طه الشاذلي الكادح المتفوق في دراسته ينخرط في تيار الاسلام الأصولي، ويسعى إلى أن يصبح ضابط شرطة لينتقم ممّا يظنه العالم الفاسد، وينتهي في عملية ارهابية فاشلة، وتوجد حكايات تتصل بشخصية الحاج محمد عزام الذي يتزعم شبكة فساد كبيرة، وأخرى بشخصيات قبطية كسناء فانوس عشيقة زكي، وملاك خلة، وفكري عبد الشهيد المحامي وكيل عمارة يعقوبيان.
هكذا يتحول المكان العمارة إلى رمز، ويرى فيه الدكتور صبري حافظ أمثولة رمزية، عن الواقع المصري في تسعينيات القرن المنصرم، وقد فشل الكاتب في أن يكون المكان محاكاة ناجحة للواقع، لأن بناء الرواية كان نتاج تخطيط ذهني يلخّص المكان الواقعي، ولا يبعث فيه الحياة. ويعرّي حافظ أيديولوجية الكاتب ويصفها بالتخلف عندما يتيح لشخصية زكي الدسوقي، وهي أكثر الشخصيات تحضّرًا وتعففًا الهجوم على عبد الناصر واتهامه بأنه خرّب مصر، وأعمّ فيها الفساد على الرغم من أن هذا لم يحدث في عصره بل في عصر من جاء بعده؛ لهذا كان المكان الروائي كما تجلّى لحافظ «رمزًا مفضوحًا لمصر كلها»
ويتحوّل المكان في رواية «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف إلى كناية أو معادل موضوعي للمكان في الواقع؛ فالرواية بأجزائها الخمسة تتناول مجموعة من الأمكنة عن طريق الوصف، وذكر التفاصيل دون اغراق في الدقة، كما في رواية زقاق المدق أو روايات بلزاك. فتقدم الرواية في جزئها الأول التيه مجتمعًا مستقرًا في وادي العيون، ثم يضطرب الوادي بمجيء بعثة أمريكية للتنقيب عن النفط، ثم مع اكتشاف النفط تتغير حياة السكان، ويجبر كثيرون منهم على العمل في معسكرات أقامتها الشركات الأمريكية، ويستمرّ التغير بعد تدفق النفط والدولارات، لتبدأ مظاهر الحياة الغربية في الظهور، ويتتابع التغير في الأجزاء الأخرى من الرواية، وتظهر مدن نفطية كثيرة مثل مدينة موران، التي كانت بعيد منتصف القرن الماضي مجرد بلدة صغيرة على طريق القوافل، وبعد ظهور النفط تتغير لتبنى فيها القصور، وتقام فيها الشركات ومعارض السيارات، وتشق فيها الشوارع العريضة، وتظهر فيها الأسواق والمراكز التجارية»، وتبع ذلك تغير سلوك الناس وأخلاقهم. يصف محمد عيد أحد شخوص الرواية هذا التغير فيقول:» لا تشبه أية مدينة أخرى، ولا تشبه نفسها»
هكذا تبدو الأمكنة في رواية مدن الملح أمكنة افترضها خيال الروائي لتكون معادلًا موضوعيًا لمدن مشابهة لها على أرض الواقع، وهو يوهمنا بهذا التشابه بوصف المكان وما جرى فيه من تغير قبل اكتشاف النفط وبعده.
هكذا رأينا أن المكان في الرواية التقليدية العربيّة، كما في نماذجه المهمة عند نجيب محفوظ، وعلاء الأسواني، وعبد الرحمن منيف يتصف بنوع من الوحدة، ويعاني من سيطرة الإنسان على جغرافيته، انطلاقًا من إحساسه بقدرته على فهم العالم والسيطرة عليه ماديًا وعقليًا.

 

 

 

المصدر: الدستور

28 ноя, 2020 11:12:08 AM
0