محمد جبعيتي: “حبس منزلي”.. المتوكل طه رهين زنزانتي الاحتلال وكوفيد 19
محمد جبعيتي: “حَبْسٌ منزِليّ”.. المتوكل طه رهينُ زنزَانَتَيْ الاحتلال وكوفيد 19
في كتابه “حبس منزلي”، الصادر عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، حديثاً، يقتفي الأديب والشاعر الفلسطيني المتوكل طه، تجربة منع التجوال القسري والإقامة الجبرية المفروضة من الاحتلال الإسرائيلي خلال الانتفاضتين، من جهة، والحبس المنزلي أثناء انتشار وباء كورونا من جهةٍ أخرى. من هنا، تراوح النصُّ بين الحاضر والماضي عبر سردٍ متدفقٍ وعفويٍّ لشهاداتٍ، ومشاهد، ويوميات، وقصص، عاشها الكاتب مثل بقية الفلسطينيين.
“حبس منزلي” للمتوكل طه نصٌ حرٌّ وطليقٌ وثريٌّ، أشبه بحديقةٍ غنّاء، أو مائدة طعام متعددة الأطباق، يمنح القارئ شعوراً لا متناهياً بالحرية، إذ لا وجود لحبكةٍ تضبط الأحداث، أو ثيمة تُهيمن على السرد، الذي ينهض على ثيماتٍ متعددةٍ. لذلك، نجد أنفسنا أمام مزيجٍ من كل شيء: أدب، فلسفة، موسيقى، سينما، طعام، صداقة، حب، زواج، سفر، انتفاضات، إقامة جبرية، منع تجول، اتفاقيات سلام. والأهم أن اللغة هنا، ابتعدت عن النبرة الخطابية، وإطلاق الشعارات الرنّانة، مُخلِصَةً لليوميّ وتجربة الذات، فتدفّقت من قلب الكاتب صادقةً وصافيةً.
يعجبني هذا السّرد الذي يستلهم من نص “ألف ليلة وليلة” بناء عوالمهِ ونحْتَ تجربته: لغة حارّة طازجة خارجة لتوِّها من أتون القلب، وسرد عامر بالحكايات الماتعة، وعوالم متنوعة مثل قوس قزح. حينما نقرأ “حبس منزلي”، نلاحظ أنّ المتوكل تجاوز السرد التقليدي، فنصُّهُ لا يرتكز على حكايةٍ واحدةٍ، وإنما على حكاياتٍ عديدةٍ، تتداخل مع بعضها، ما إن ينغمس القارئ في أجواء حكاية، حتى ينتقل إلى أجواء حكايةٍ أخرى، لذلك يتداخل السرد ويغدو جامعاً لحكاياتٍ مختلفةٍ.
وحدة السرد هنا، على حدّ تعبير ميلان كونديرا، ليست نابعةً من الحبكة، إذ يمكنها أن تنشأ عن ثيماتٍ متعددةٍ. هذا النمط الكتابي الذي يتمثَّل في تشظية الحكاية الواحدة، أو الجمع بين أكثر من حكايةٍ في النصّ ذاته، أحد الملامح البارزة التي ميّزت “حبس منزلي”، ويأتي استخدامه بطريقةٍ واعيةٍ، وبقصديّةٍ تنمُّ عن نزعةٍ توثيقيةٍ لحكايات الناس العاديين أثناء الانتفاضتين وأزمة كورونا، لتكون بذلك تاريخاً غير رسميٍّ لحقبةٍ ستُخفيها كتب التاريخ.
ولا يمكن للنص الذي يمُرُّ عبر الذاكرة، إلا أن يكون متشظيّاً ومتقطّعاً ومراوغاً وغير مكتملٍ. فضلاً عن السّارد الذي تغلُبُ عليه مشاعر التوتر والقلق الشديدين، لذلك لا بدَّ أن تكون حكاياته متداخلة، فيقفز السرد من حكايةٍ إلى أخرى، ليتوافق مع حالته النفسية.
يلتقي هذا النمط الكتابي في معناه العميق مع توظيف المتوكل عدّة تقنياتٍ سرديةٍ، مثل تقنية “الفلاش باك” أو الاسترجاع التي تعتمد على الذاكرة، والاستغراق في تيار الوعي، من خلال استخدام التداعي الحر في المشاعر والذكريات والمونولوج الداخلي.
ولأنّ العلاقة مع المكان، البيت، في فترة كورونا، باتت أكثر قرباً وعمقاً، يطيل الكاتب التأمُّل في بيتهِ الذي انحبس فيه أكثر من مرةٍ، يقول: “اكتشفتُ أنّ البيتَ هو المكان الأخير الذي نهرب إليه. والبيت هو الجمال الذي يتأمَّلُ ذاته! وستكتشف، وأنت بين الجدران، التجانس والتعاكس في الحياة”. بعد أن أمضى سنةً وستة أشهر في الاعتقال الإداري، فرض عليه الاحتلال الإقامة الجبرية مدّة ستة أشهر، ليتحول البيت إلى سجنٍ نظيف، لكنّه يقيّد حركة الإنسان ويحرمه من الحرية، إذ يجعله أسير حربٍ مجبراً على إطاعة الأوامر والتعليمات العسكرية. لم يهنأ الكاتب في عزلته الإجباريّة، لأنّ الاحتلال نغَّصَ حياته بالاقتحامات المتكررة، وما تُخَلِّفُهُ من خرابٍ وفوضى.
الانتفاضة والنموذج المشَرِّف في التكافل الاجتماعي..
يشير المتوكل طه في كتابه إلى الشّعب الفلسطيني الذي تقاسَمَ الخبز والماء والمستلزمات الطبية خلال الانتفاضتين، مسجِّلاً نموذجاً مضيئاً في الوحدة والتعاون، خلافاً لما عليه الحال في فترة الكورونا، إذ انشغل الناس بهمومهم الخاصة، ولم نلمس هذه الروح التكافليّة التي كانت سائدةً في الماضي. فالشعور بالسعادة يتحقق وسط الجموع، لأنه قيمةٌ روحيةٌ عميقةُ الأثر في النفس، طويلة المدى، تكمن في العطاء ومحبة الناس ومشاركتهم.
يتنهَّد الكاتب بمرارة، متذمِّراً ممّا وصل إليه الحال، مسترجعاً حالة التكافل الاجتماعي بين الفلسطينيين خلال الانتفاضتين، حينما تقاسموا قُوتَ يومهم، فضلاً عن السّهر مع الجيران والأصدقاء. بمعنى آخر، تشاركَ الكل الفلسطيني دون الالتفات إلى الانتماء الديني أو السياسي، هذا ما يؤكِّدُهُ الكاتب حينما يشير إلى احتفال الجيران بعيد الميلاد المجيد ورأس السنة مع جارهم نيقولا، فقامت النساء بتحضير قوالب الكيك وإضاءة الشموع، فيما تعاونت كل أسرةٍ وأحضرت ما لديها من فاكهةٍ ومشروباتٍ غازية.
في حين، صام نيقولا يوماً في شهر رمضان، وأفطر مع جيرانه المسلمين في العمارة، دون أن يثير ذلك استغراباً أو رفضاً، على العكس كانت هذه المبادرات موضع ترحيبٍ من الجميع.
الحالة الثقافية الفلسطينية بين الأمس واليوم
يسلّط الكاتب الضوء على أهمية الإنتاج الثقافي كفعلٍ مضادٍ للمَحْوِ والاستِلاب، خاصةً لغياب المؤسسة الرسمية التي تحفظ كرامة المثقف وتسانده، ما يُوقِعُهُ في حالةٍ من العَوَز المادّي والتسوّل، فتغيب قوة كلماته وحضوره، ونحن في وقتٍ أشدَّ ما نحتاج فيه للثقافة المستنيرة المقاوِمة لمشاريع التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية.
المشهد الثقافي ذاهبٌ إلى مزيدٍ من الغياب والتلاشي، والمرحلة التي تحيط بالمثقفين في غاية السوء، يقول المتوكل طه: لم أشهد، حتى الآن، مرحلةً تحيط بالمثقفين، أكثر سوءاً وغرابةً مما نشهده اليوم، تكاد أن تقضي على آخر خليّةٍ معافاةٍ في الجسد الإبداعي، بدءاً من انتفاء الاستراتيجية والرؤية، مروراً بانعدام المطبوعة وقوانين التفرّغ والبحث والتدعيم، وليس انتهاءً بتسْييد غير المَعْنيّ أو الطارئ والمُمَوّج، من النتاج والوجوه والتعبيرات، ما يعني أن القائمين على الأمر يتعاطون مع الثقافة باعتبارها “إكسسوار” وشيئاً هامشيّاً لا قيمة له!”.
الصداقة والدُّعابة والتسليَة في مواجهة الرعب اليومي
اللافت للنظر في بعض سرديات المتوكل أنها تحتفي بوضوحٍ بـ “الصداقة” كقيمة، بما تحققه من تحطيمٍ للأبواب المغلقة، وبما تمثِّلُهُ من انطلاقةٍ عاطفيّةٍ وفكريّةٍ، صوب فضاءاتٍ واسعةٍ، خاصةً إذا كان الأصدقاء من أعمدة الثقافة والصحافة والسياسة، وهي صداقة يُغْبَط المرء عليها.
يذكر لنا اللقاءات التي جمعته بالشاعر سميح القاسم، وفدوى طوقان، وسليمان منصور، وعبد اللطيف عقل، وغيرهم، إضافةً إلى مكالماتِ أصدقائه التي كانت تكسر قيود حبسه الإجباريّ.
مزجت السرديات، التي تندرج تحت جنس “السيرة الذاتية” بين الماضي والحاضر، الجد والهزل، الحزن والفرح، البكاء والضحك، وكانت الدعابة حاضرةً رغم جديّة الموضوعات وثقلها، يتضح ذلك في الأجزاء التي يتطرَّق فيها للزواج، فيعترف الكاتب مثيراً الضحك في نفس المتلقّي: سأعترف لكم، أنا أخاف من زوجتي.. نعم! ومَن لا يخاف من امرأته فليرفع رأسه ويقابلني. وأعرف أن الكثيرين سيتبجّحون ويقولون نحن لا نخاف منهنّ! لكنّي لن أُصدّقكم يا زملاء الإنسانية”. ويقول في مكانٍ آخر: بِتُّ على قناعةٍ بأن على الرجل أن يكون متغافلاً في بيته، وليس مغفّلاً.
المصدر:رأي اليوم
09 дек, 2020 05:39:52 PM
0