عزت القمحاوي في «غربة المنازل» أبطال عالقون في غُبار «كورونا»
من بوابة «ألف ليلة وليلة» يعبر الروائي المصري عزت القمحاوي إلى عالمه الروائي في «غُربة المنازل»، فيصدرها بمقطع غرائبي من الليالي عن حكاية شخص يُدعى عبد الله الفاضل، الذي كلما مرّ بأحد في المدينة وجده قد تحوّل إلى حجر.
يلتقط القمحاوي ثيمة التحوّل من ثنايا الحكاية التُراثية ليصل بينها وبين خيوط عالمه الروائي المُعاصر الذي يدور في عام 2020، طارحاً بناء سردياً قائماً على تحوّلات الواقع الجديد عبر حكايات تبدو في ظاهرها مُنفصلة لكن تجمعها أواصر ومُفارقات يصنعها وباء «كورونا»، الذي يُطل في الرواية كبطل مُلثَّم، يُحكِم قبضته على مُجريات الأحداث ومصائر أبطالها الذين يُعايشون الوباء بمستوياته المُتعددة، خوفاً أو مرضاً أو عُزلة.
يُحاصر الوباء أجواء الرواية منذ سطورها الأولى، حيث يُحكِم الناس كماماتهم فوق وجوههم، وتنتقل أسطوانات الأكسجين لجوار الأسِّرة، بعد أن بات الفيروس يخبط بعشوائية داخل الرئة والمخ والقلب وسائر أجهزة الجسم، ما يجعل أبطال «غربة المنازل» تائهين في غياهب تلك الخريطة الفيروسية المباغتة، ثم تجمعهم الأحداث داخل حدود مدينة يُطلق عليها القمحاوي اسم «مدينة الغبار» بمجازها التعبيري الخانق.
طوابق مُتعددة
تبدو فصول «غربة المنازل»، التي صدرت أخيراً عن «الدار المصرية اللبنانية» في 207 صفحات، أقرب لمرايا سردية لبشر متفرقين بين طوابق مُتعددة، فهذا مُوسيقار نسيه الزمان، فلم يعد أحد يلجأ إليه لتأليف مقطوعات جديدة، وهذا مُؤرخ يُقرر بعد ضغوط عدّة الانسحاب والعزلة قبل أن يعرف العالم شيئاً عن الوباء، وهذا باحث أفنى عمره في التتبع العلمي لسلوك الذباب وطبائعه، وصولاً للدور السُفلي حيث يقطن بوّاب العمارة وزوجته وقد أسكّتت عنهم شهور حظر التجوال فجأة نداءات سُكان العمارة بقوائم طلباتهم اللانهائية.
منح المؤلف صوت الرواية لراوٍ عليم، في سمت طيف شفيف يتجول بحرية خلف أبواب المنازل، وفناءات الذكريات، وكذلك في الحدائق المهجورة التي أعاد «كورونا» اكتشافها، بعد أن صارت ساحات مفتوحة لكسر العزلة، وتنفس بدايات جديدة لمشاعر وعواطف كامنة في النفس البشرية.
«ديستوبيا» الكوفيد
تتوحش مواقع التواصل الاجتماعي في أيام الصمت وراء الجدران، فتنعكس أصداء ساعات الحظر الطويلة على تغريدات «تويتر» مُتفاعلة مع سلسلة من الأخبار الكابوسية عن نساء يتم إلقاؤهن من شُرفات البيوت، فتُصبح تكرارية تلك الحوادث المُتزامنة مع تصاعد أعداد الموتى بسبب الوباء ساحة «ديستوبيا» خصبة، فيما تُصبح منصات المشاهدة المدفوعة بديلاً للواقع المُخيف، وشاشات التلفزيون التقليدية نوافذ خيالية تستجدي عوالم بديلة أخرى، فهذا المؤرخ بديع العطار الذي قرر اعتزال العالم وصار مشدوها أمام قنوات الأطفال، حيث بها « تاريخ خيالي مازح ينتصر فيه الضعفاء» إلى أن داهمته أخبار «كوفيد 19» مُبددة خيالات البراءة تلك، فيُعيده الفيروس لحبائل الواقع وهو يتتبع مساراته الجنونية منذ خروجه من «ووهان» الصينية.
يجوب الكاتب من خلال شخصية المؤرخ في رحلة بانورامية لتاريخ الأوبئة، وعلاقتها الأزلية بالتجارة والحروب، ومحاولات تأمل هذا الكوفيد وسط أسلافه من الطاعون، والحُمى القرمزية، والإنفلونزا الإسبانية، ويبدو أن هذا البطل لم يتحمّل مواجهة الوباء خارج مُجلدات التاريخ التي تملأ مكتبته، فيؤثر الاختباء وراء خرافات الصين بدلاً من كوابيس وبائها، فيتساءل: «لماذا لا يكون هذا الكوفيد إحدى مزحات الخيال؟ قبل أن تصبح الصين مصدراً للأوبئة كانت دوماً موطناً للعجائب.أشجار تلد بشراً، وظباء تُرضع أطفالاً، وقرود تتكلم».
شهوة الحواس
تنفتح أعراض فيروس «كورونا» في الرواية على تأملات في فلسفة الحواس، فأحد أبطال الرواية الستيني «فريد عبد المحيط» له علاقة استثنائية بالروائح، منذ بواكير عمله كطبيب، فهو «يمتلك أنفاً ذا بصيرة، جعلته مميزا في مهنته وأتعسته تعاسة شخص يرى الغيب».
ويُصيغ عبد المحيط علاقة تفاعلية بين الروائح وتاريخ الإنسان ومُستقبله، وهو طالما اعتقد أن «عُمر الإنسان ليس سوى رحلة روائح جسده، من دفء حليب الأم إلى خدر خميرة الخبز إلى شهوانية الفلفل، إلى شجن النرجس، قبل أن يدب عطن التحلل الوئيد مع التقدم في السن»، ورغم تفرّد حاسة الشم لدى هذا البطل لدرجة أفسدت حياته بسبب حساسيته المبالغ فيها للروائح، فإن فقدانها في زمن «كورونا» الجديد بات نذير شؤم، وإعلان إصابة مؤكدة بفيروس الموت.
وكما تنساب مسارات السرد في الرواية من بوابة «الشم»، إلى التذوق، وتشكل بُهارات الطعام مدخلاً لتأسيس مُشتركات جديدة بين حبيبين، في مُقاربات وجدانية تجعل النص الروائي مسكونا بحسيّة كاشفة لفهم أبعاد الخوف والسكينة، كما تطل صور متشظية للذات كإفراز للعزلة، فأحد الأبطال يُراجع شريط حياته الطويل خلال تريّضه في حديقة بجوار المنزل، فيكتشف أنه طالما عاش حياته بنصفين، نصف خجول وآخر جرئ، نصف حذر ونصف مُتهوّر، وأن مُجمل أفعاله هي نتاج عراك النصفين معاً، كما يكتشف أنه اختزل حياته في تتبع بيولوجيا وسلوك الذباب حتى اكتشف أن «الحياة ليست حرباً عبثية مع الذُباب، بل مباراة شطرنج تكفي نقلة واحدة مُوفقة للفوز فيها، بشرط أن يكون القدر قد أنجز نقلتين أو ثلاث...».
ويفرض الوباء ومواجهته خوض أبطال الرواية حروبا أكثر ديناميكية وهم يتقمصون مهمة إنقاذ العالم، كحمادة «حارس» أحد المولات التجارية، الذي فقد وظيفته بعد الوباء، فاستبدل حراسة المول من السرقات مهمة حراسة أهله وجيرانه من الفيروس الخفي، يُقاوم سرعة انتشاره وحصده للأرواح فيُلاحق أجسامه اللامرئية برش شوارع الحي بجرادل المياه والمُطهرات، في دائرة من الهوس تستدعي «دون كيشوت» في حربه مع طواحين الهواء.
استدعاء الماضي
ووسط زخم الأحداث، وروائح الموت، يجد البعض ملاذاً في الذكريات، فالمُلحن رامي حنا الذي اعتزل الحياة والتلحين، وتخطى السبعين يُجاور حبيبته الوحيدة «غيداء» بعد أن ألّمت بها مُضاعفات «كورونا»، وهو يتذكر سنوات شبابها قبل ثلاثين عاماً عندما عرفها لأول مرة «حملته الذكريات إلى مقام السيكا» فهو ينظر إليها وقد هدّها الوباء، ويتذكر كيف أسرته من دون كل من عرف من نساء، ويستدعي شبابها وتجوالها الصبوح في المنزل حتى صارت لحناً ينمو في جسده، وكذلك جلستها المُترفعة في الصالون وهي تقرأ «الأمير الصغير». وهنا يخلق القمحاوي في الرواية تناصاً شفيفا بين حضور غيداء الاستثنائي في حياة المُلحن المنسي، وبين زهرة «أنطوان دو سانت إكزوبيري» النادرة التي استأنست الأمير الصغير، فلم تعد حياته بعد ظهورها المُباغت كما كانت من قبل.
المصدر: الشرق الأوسط