Перейти к основному содержанию

صندوق أدوات العلوم العصبية الجديد

مع ابتكار علم البصريات الوراثي وتقنيات أخرى مهمة، يستطيع الباحثون لأول مرة دراسة مصدر المشاعر والذاكرة والوعي.

 فرع جديد من علم الأعصاب السلوكي يمكن أن نطلق عليه اسم «اصنعوا الحبَّ لا الحرب» بدأ يتشكل في كاليفورنيا (وأين يمكن أن ينشأ إلا هناك؟) قبل عدة سنوات، حين قرر الباحثون في مختبر ديفيد جيه أندرسن بكالتيك (معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا) دراسة بيولوجيا العدائية. لقد أطلقوا هذا المجال البحثي من خلال تنسيق نسخة خاصة بالفئران من لعبة فايت نايت؛ حيث استفزوا ذكور فئران للاشتباك مع ذكور فئران أخرى مُنافِسة، ثم — من خلال إجراء دراسات جزيئية مثابرة — ركَّزوا على بضع خلايا متفرقة فيما تحت المِهاد، وهي خلايا نشطت حين بدأت الفئران في القتال.

منطقة ما تحت المِهاد بِنْيَةٌ صغيرة في عُمق الدماغ، من بين وظائفها أنها مسئولة عن التنسيق بين المدخلات الحسية — كظهور خصم — والاستجابات السلوكية الغريزية. إذا ما عدنا إلى عشرينيات القرن العشرين، نجد أن فالتر هس من جامعة زيورخ (الذي حصل على جائزة نوبل عام ١٩٤٩) قد أثبت أنك إذا ألصقت قطبًا كهربيًّا بدماغ قطٍّ، وقُمتَ بتحفيز مناطق بعينها من تحت المِهاد كهربيًّا، فإنك تستطيع أن تحوِّل القطَّ الهادئ اللطيف إلى كتلة عدوانية من الفراء. وقد حاولت العديد من الفرضيات المثيرة للاهتمام شرحَ كيفية وسبب حدوث ذلك، لكن لم تكن ثمَّة وسيلة لاختبارها. ومثل كثير من المسائل الجوهرية في علم الدماغ، لم يتلاشَ لغز العدوانية على مدار القرن الماضي، وإنما كل ما في الأمر أنه تعثَّر في بعض العوائق التجريبية المعتادة؛ إذ كانت لدينا أسئلة جيدة، لكننا كنَّا نفتقر إلى التكنولوجيا التي توصلنا إلى الإجابات.

وبحلول عام ٢٠١٠، بدأ فريق من الباحثين — في مختبر أندرسن في كالتيك — الكشف عن الآليات والدارَات العصبية الأساسية للعدوانية في أدمغة فئرانه المشاكسة. صادف الباحثون المزوَّدون بمجموعة من التِّقْنيَّات الحديثة، التي أتاحت لهم التركيز على تجمُّعات محددة من الخلايا في مناطق بالمخ، اكتشافًا تشريحيًّا مدهشًا؛ وجدوا أن ذلك الجزء الضئيل من تحت المهاد الذي كان يبدو متصلًا بالسلوك العدواني مُشْتبِكٌ بالجزء المرتبط بغريزة التزاوج. واتضح أن هذه المنطقة الصغيرة من الخلايا — المسماة تِقْنيًّا بتحت المهاد البطني الإنسي— هي تجمُّع لحوالي ٥٠٠٠ عصبون، تتداخل معًا على نحْوٍ طولي، بعضها يتعلق فيما يبدو بالتزاوج بينما يتَّصل بعضها الآخر بالقتال.

يقول أندرسن الذي يُقدِّر أنه قد يوجد ما يصل إلى ١٠ آلاف فئة مختلفة من الخلايا العصبية في الدماغ: «ليس هناك خلية عصبية عامة.» وحتى المناطق الصغيرة في الدماغ تحتوي على مزيج — على حدِّ قوله — من هذه الخلايا العصبية التي «غالبًا ما توجِّه السلوك في اتجاهات مختلفة متعارضة.» في حالة ما تحت المهاد، بدا أن بعض الخلايا العصبية تَنشَط في أثناء السلوك العدواني، بينما يَنشَط بعضها الآخر خلال سلوك التزاوج، وثمة مجموعة فرعية صغيرة — حوالي ٢٠ بالمائة منها — تَنشَط خلال كلٍّ من القتال والتزاوج.

لقد كان ذلك اكتشافًا مثيرًا، لكنه يُعَدُّ كذلك من بقايا علم الأعصاب قديم الطراز؛ فنشاط الخلايا لا يعني أنها تتسبب في السلوك؛ فالأمر ليس سوى علاقة ترابط. كيف عرف العلماء يقينًا ما الذي يسبب السلوك؟ هل استطاعوا استفزاز فأر لإثارة قتال بمجرد دغدغة بعض خلايا في منطقة ما تحت المهاد؟

قبل عَقْد مضى، كان مثل ذلك الأمر يبدو مستحيلًا من الناحية التكنولوجية، لكنْ خلال العشر سنوات الماضية، تبدَّل علم الأعصاب بفضل تِقْنيَّة جديدة بارزة تُسمَّى بعلم البصريات الوراثي، الذي ابتكره علماء بجامعة ستانفورد ووُصِف لأول مرة عام ٢٠٠٥. تمكَّن باحثو معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا من إدخال جين حسَّاس للضوء مُعدَّل وراثيًّا إلى خلايا بعينها في مواقع محددة من دماغ فأر ذكر حيٍّ يتنفس، عدوانيِّ السلوك، ويُلاطف أنثى بين الحين والآخر. باستخدام خيط رفيع في سُمك الشعرة من الألياف الضوئية أُدخل إلى هذا الدماغ الحي، تمكنوا حينئذٍ من تنشيط الخلايا العصبية في منطقةٍ ما تحت المهاد ثم تثبيطها بواسطة نبضة ضوئية.

وظَّف أندرسن وزملاؤه علم البصريات الوراثي لإنتاج مقطع فيديو يصور التوتُّرات المتعلقة بالحب والكراهية التي تعتمل في أعماق القوارض. يُظهِر هذا المقطع فأرًا ذكرًا يمارس غريزته الطبيعية، حيث كان يتزاوج بأنثى، إلى أن قام الباحثون في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بتشغيل الضوء، هنا يُجَنُّ جنون ذكر الفأر. عند تشغيل الضوء، حتى الفأر المهذب قد يصل إلى درجةٍ من الاستفزاز إلى حدِّ الهجوم على أيِّ هدف يُصادف وجودُه بالقرب منه، على سبيل المثال: شريكته في التزاوج، أو ذكر فأر آخر، أو فأر مخصيٍّ (وهو بطبيعة الحال لا يمثل تهديدًا)، أو — الأمر الأبعد احتمالًا — قفاز مطاطي يُسقَط داخل القفص.

يقول أندرسن: «إن تنشيط هذه الخلايا العصبية بتقنيات علم البصريات الوراثي كافٍ لتنشيط السلوك العدواني تجاه الأهداف المناسبة؛ مثل ذكر فأر آخر، وتجاه الأهداف غير المناسبة؛ مثل الإناث، بل والجماد.» من ناحية أخرى، يستطيع العلماء تثبيط هذه الخلايا العصبية في خِضَمِّ قتال الفئران من خلال إطفاء الضوء، يقول أندرسن: «بإمكانك إيقاف الشجار تمامًا في أَوْجِه.»

بالإضافة إلى ذلك، يشير البحث إلى أن ممارسة الحب تتغلب على شنِّ الحرب في حساب السلوك؛ إذ إنه كلَّما كان الفأر أقرب إلى إتمام فعل الجماع زادتْ مقاومته (أو عدم وعيه) لنبضات الضوء التي تثير العدوانية في الظروف العادية. وفي بحثٍ — نُشر في دورية بايولوجيكال سَيكيتري تحت عنوان «علم البصريات الوراثي والجنس والعنف في الدماغ: التداعيات في الطب النفسي» — ذكر أندرسن قائلًا: «ربما يكون أمر «اصنعوا الحب لا الحرب» منغرسًا في جهازنا العصبي بدرجة أكبر ممَّا كنَّا ندرك.» إننا قد نحب ونتشاجر في الوقت نفسه إذا فصل بين النبضتين الضوئيتين أقلُّ مسافات عصبية ممكنة.

علم البصريات الوراثي: مفاتيح الضوء الخاصة بالعصبونات (رسوم: جون ماكنيل).

علم البصريات الوراثي: مفاتيح الضوء الخاصة بالعصبونات (رسوم: جون ماكنيل).

مؤسسو مجال علم البصريات الوراثية

جيرو ميسينبوك: جامعة أكسفورد.

كارل دايسروث: جامعة ستانفورد.

إدوارد بويدن: معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

فينج جانج: معهد برود التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفرد.

من بين مليارات الخلايا العصبية في الدماغ البشري ما هو الدور الذي تلعبه عصبونات بعينها في التحكُّم في الحركة والإدراك الحسي، أو التسبُّب في اضطرابات مثل الاكتئاب والتوحُّد؟ من خلال استكشاف وظائف مجموعات متنوعة من العصبونات والدارَات العصبية في الفئران أو أيٍّ من حيوانات المختبر الأخرى، يمكن أن نحصل على إجاباتٍ عن هذا السؤال.

ثمَّة تكنولوجيا تُسمَّى علم البصريات الوراثي تُمكِّن العلماءَ من إثارة العصبونات أو تثبيطها؛ فيستطيع العلماء حينئذ معرفة إذا ما كانت هناك مجموعة معينة من العصبونات مسئولة عن سلوكٍ أو مرضٍ بعينه أم لا. وباستخدام علم البصريات الوراثي، يستطيع الباحثون التحكُّم في الخلايا العصبية لدى الديدان والذباب والفئران، بل والقردة. وتُستخدَم هذه التكنولوجيا لدراسة العمليات العصبية الكامنة وراء الصرع والإدمان والاكتئاب وأمراضٍ أخرى.

يتطلب علم البصريات الوراثي إجراء تعديلات وراثية على العصبونات حتى تُنْتِج بروتينات حسَّاسة للضوء، كذلك يتطلب مصدرًا لضوءٍ ذي طول مَوْجيٍّ معيَّن، والذي غالبًا ما يُوجَّه عبر ثقْب في الجمجمة. لبعض الوقت، كانت البروتينات الحسَّاسة للضوء في غاية الفعالية في تنشيط العصبونات، وأما التثبيط فكان يحدث بمعدل بطيء وبدرجة ضعيفة. لكن مؤخرًا، أعدَّ الباحثون بروتينات يمكنها أن تُثبِّط العصبونات بفاعلية أيضًا؛ ممَّا يُوسِّع نطاق مجموعة الأدوات المستخدمة لدراسة الأدوار التي تلعبها الخلايا العصبية المختلفة في الدوائر العصبية الكثيرة في الدماغ.

وفي حين أنه من غير المحتمل تطبيق علم البصريات الوراثي في أيِّ وقتٍ قريب على الدماغ البشري، فإن هذه التِّقْنيَّة يمكن أن تقودنا على المدى القريب إلى استراتيجيَّات علاجية جديدة للقضاء على أمراض الدماغ المُدمِّرة لأصحابها.

الخلايا العصبية النامية: دراسة الأمراض العقلية (رسوم: جون ماكنيل).

الخلايا العصبية النامية: دراسة الأمراض العقلية (رسوم: جون ماكنيل).

١ من بين كل ٤: هي نسبة الأشخاص على مستوى العالم الذين سيصابون بأمراض عقلية خلال حياتهم.

٥: هو عدد الأمراض العقلية الأخطر، ومن بينها الفصام، والتي تشترك في حدوث تغيُّرات وراثية.

٤٠٠: هو عدد الجينات أو مناطق الكروموسوم التي قد تسهم في خطر الإصابة بالتوحُّد.

إن التغيُّرات الخلويَّة والوراثية التي تكمن وراء معظم الأمراض العقلية ليست معروفة جيدًا، إلَّا أن ثمَّة تِقْنيَّات جديدة تُتِيح فهم هذه التغيُّرات؛ ممَّا يُمكِن أن يُساعِد العلماءَ على تحديد عقاقير جديدة أو علاجات أخرى.

على سبيل المثال، يستطيع العلماء زراعة العصبونات للمرضى في طبق بتري. وكلُّ ما يحتاج إليه العلماء للبدء هو خلايا جلدية أو أي نوع آخر من الخلايا التي يسهل الوصول إليها. وتُحوَّل هذه الخلايا أولًا إلى خلايا جذعية ثم إلى عصبونات. يمكن فحص العصبونات المزروعة في طبق بتري لرؤية التغيُّرات التي طرأت على مظهرها ووظيفتها. يستطيع العلماء أيضًا اختبار العقاقير على هذه العصبونات لرؤية إذا ما كانت ثمَّة أيَّة مُركَّباتٍ تُعالج الخِلال.

أيضًا يستطيع العلماء استخدام تعديل الجينوم لإدخال التغيُّرات المحددة التي يُعتقَد أنها تتعلق بمرضٍ بعينه إلى الخلية الجذعية؛ ثم يُمكِنهم بعد ذلك فحص إذا ما كانت العصبونات الناتجة غير طبيعية.

إننا لا نُلمح هنا إلى أننا على وشك توظيف قاطعات الدارات العصبية لكبْح السلوك العدواني، لكن البحث — حسبما يشير أندرسن — يُسلِّط الضوء على نقطةٍ أهم فيما يتعلق بالكيفية التي تستطيع بها التكنولوجيا تغيير طريقة تطبيق علوم الدماغ تغييرًا جذريًّا؛ يقول أندرسن: «لقد كانت قدرة علم البصريات هائلة على تحويل أحد مجالات العلوم الارتباطية إلى مجال يختبر السببية.»

يتمثَّل الجانب الثوري من هذه التِّقْنيَّة في أنها تتيح للعلماء إثارة الخلية أو شبكة من الخلايا بدقَّة رائعة، وهو المفتاح لرسم مخطط للدارات العصبية التي تؤثر على أنماطٍ سلوكية مختلفة. وفي حين أتاحت تِقْنيَّات أقدم — كالتصوير — للباحثين مشاهدة الدماغ أثناء عمله، فإن علم البصريات الوراثي يُمكِّنهم من التأثير على هذا العمل بالتلاعب بأجزاء محددة من الدماغ في أوقات محددة لرؤية ما يحدث.

إن تِقْنيَّة علم البصريات الوراثي ليست سوى واحدة من مجموعة أدوات ثورية جديدة من المُتوقَّع أن تلعب دورًا رائدًا فيما يبدو، وأنها أَوْج ازدهار علم الأعصاب. وثمَّة مبادرات كبرى في كلٍّ من الولايات المتحدة وأوروبا تطمح إلى فهم الكيفية التي يتسبَّب بها الدماغ البشري — تلك الكتلة الأشبه بخثارة زِنَة ثلاثة أرطال من عصبونات مُتشابِكة ونسيج ضامٍّ ودارَات عصبية — في كلِّ شيء؛ بدءًا من الأفكار المجردة إلى المُعالَجة الحسيَّة الأساسية، وحتى المشاعر مثل العدوانية. وفي الوقت الحالي يُدرس الوعي والإرادة الحرة والذاكرة والتعلُّم في خِضَمِّ استخدام الباحثين لهذه الأدوات في دراسة الكيفية التي يحقق بها الدماغ آثاره الغامضة على ما يبدو.

ارتباطات

منذ أكثر من ألفي عام، أشار أبقراط إلى أنك إذا أردتَ فَهم العقل فعليك أن تبدأ بدراسة الدماغ. وخلال الألفيتين السابقتين لم يحدث شيء يغيِّر هذا الإلزام، باستثناء الأدوات التي يُسهِم بها علم الأعصاب.

إن تاريخ علم الأعصاب، كتاريخ العلم نفسه، كثيرًا ما يكون قصة اختراع أدوات جديدة وتِقْنيَّات حديثة؛ فقد أدَّى أول قطب اخترعه مُصادفةً لويجي جلفاني — والذي تسبب في انقباض عضلة الضفدعة — إلى استلهام اختراع كلِّ مِجسٍّ كهربي لاحق، بدءًا من القطب المحفِّز للقطط، الذي اخترعه فالتر هس، وحتى الاستخدام العلاجي الحالي لتحفيز الجزء الداخلي من المخ لعلاج مرض باركينسون (ثمَّة حوالي٣٠ ألف شخص اليوم على مستوى العالم لديهم أقطاب كهربية مزروعة في أدمغتهم لمعالجة هذا المرض). أتاحت تِقْنيَّة الالتقاط الرقعي لإخصَائيِّ التشريح العصبي رؤية حركة الأيونات في العصبون في حين تستعد لتوليد النبضات الكهربية. ولم يكن بول لاوتربر يدرك حينما كان يركز مجالًا مغناطيسيًّا قويًّا على حيوان محار ملزمي وحيد سيئ الحظ — في مختبره في جامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك في بداية سبعينيات القرن العشرين — أنه وزملاءه يضعون الأساس لآلات التصوير بالرنين المغناطيسي التي ساعدت في الكشف عمَّا يُوجَد داخل المخ الحي ونشاطه الداخلي.

لكن التطورات في علم الوراثة والأدوات الجينومية خلال السنوات القليلة الأخيرة هي التي أحدثت ثورة في علم الأعصاب. وقد أتاحت هذه التطورات إجراء التعديلات الوراثية في جوهر علم البصريات الوراثي، بل ويمكن استخدام المزيد من طرق تعديل الجينوم الحديثة من أجل تغيير الخصائص الوراثية للخلايا الحية في المعمل بدقة. وتعني هذه الأدوات — إلى جانب علم البصريات الوراثي— أن باستطاعة العلماء البدء في تحديد وظيفة الآلاف من مختلف أنواع العصبونات من بين الستة والثمانين مليار عصبون تقريبًا الموجودة في الدماغ البشري.

ما من شيء يدل على قيمةِ أية تكنولوجيا جديدة أكثر من عدد العلماء الذين يُسارعون إلى تبنِّيها واستخدامها لغزو أراضٍ علمية جديدة. وحسبما يقول إدوارد بويدن — العالم بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والذي ساهم في تطوير علم البصريات الوراثي: «غالبًا حين تظهر تكنولوجيا جديدة يظهر شيء من التنازع على الفرص العلمية.»

حتى بينما ينتزع الباحثون تلك الفرص في مجال علم الوراثة وعلم البصريات الوراثي لا تزال تظهر تطورات أخرى جديدة على الساحة؛ فثمَّة علاج كيميائي جديد يسمح برؤية الألياف العصبية مباشرةً في أدمغة الثديِيَّات؛ وثمَّة قطب كهربائي ذو قطر داخلي رقيق للغاية وآلي يمكنه التَّنصُّت على فُرادى الخلايا (وإثارتها) في الحيوانات الحية؛ وثمَّة تِقْنيَّات تصوير أكثر تعقيدًا تسمح للباحثين بمواءمة خلايا عصبية وأليافٍ في شرائح دماغية لتكوين خريطة ثلاثية الأبعاد للروابط العصبية. باستخدام كلِّ هذه الأدوات معًا للوصول إلى فهم نشاط الدماغ، يتمنَّى العلماء فهْمَ أكبر قدر ممكن من لعبة الإدراك؛ وهي: الذاكرة، وعملية اتخاذ القرار، والوعي، والأمراض النفسية؛ مثل القلق والاكتئاب، بالإضافة إلى الجنس والعنف بالطبع.

في يناير من عام ٢٠١٣، استثمرت المفوَّضيَّة الأوروبية مليار يورو في إطلاق مشروع الدماغ البشري الخاص بها، وهو مباردة مُدَّتها ١٠ سنوات لوضْع مخطط لكافة الروابط العصبية في الدماغ. وبعد بضعة أشهر، وتحديدًا في أبريل ٢٠١٣، أعلنت إدارة أوباما عن مبادرة تحت اسم «أبحاث الدماغ عبر التكنولوجيا العصبية المبتكرة المتقدمة» أو ما يعرف اختصارًا بمبادرة «برين»، التي من المتوقع أن تصبَّ مليار دولار في هذا المجال، مع تخصيص الكثير من التمويلات المبكرة للتطوير التكنولوجي. وهناك أيضًا مشروع خريطة الدماغ البشري الشاملة «هيومان كونيكتوم بروجيكت»، الذي يهدف إلى استخدام صور مِجْهر الإلكترونات لشرائح نسيج الدماغ المتتالية لتخطيط الخلايا العصبية وروابطها بالأبعاد الثلاثية. ويجري العمل قُدُمًا على مبادرات تكميلية لرسم خرائط الدماغ وخرائط الروابط بين الخلايا العصبية في معهد هوارد هيوز الطبي بفرجينيا ومعهد آلن لعلوم الدماغ في سياتل، وهي جميعًا جزء من جهد عالميٍّ ضخْم، يحصل على تمويل حكومي وخاص؛ لبناء صورة شاملة للمخ البشري بدءًا من مستوى الجينات والخلايا وحتى مستوى الروابط والدارات.

وضمن مبادرة برين الأمريكية، تلقت معاهد الصحة الوطنية الأمريكية في ديسمبر الماضي مقترحات لمشروعات بقيمة ٤٠ مليون دولار للتطوير التكنولوجي في مجال علوم الأعصاب. تقول كورنيليا بارجمان — عالمة الأعصاب بجامعة روكِفلر التي تشارك في إدارة عملية التخطيط للمشروع: «لمَ تُولِي مبادرة أبحاث الدماغ عبر التكنولوجيا العصبية المبتكرة المتقدمة كلَّ هذه الأهمية للتكنولوجيا؟ إن الهدف الأساسي هو فهم الكيفية التي يعمل بها الدماغ على كثير من المستويات في المكان والزمان، وفي كثير من العصبونات في وقت واحد. وما حال بيننا وبين هذا الفهم هو قصور التكنولوجيا.»

تَنصُّت

ترجع أصول علم البصريات الوراثي إلى عام ٢٠٠٠؛ ففي محادثة عرضية جرت في وقت متأخر من الليل بجامعة ستانفورد، بدأ عالِما الأعصاب كارل دايسروث وإدوارد بويدن في تبادُل الأفكار حول طرق تحديد نشاط داراتٍ بعينها في الدماغ، والتحكم فيها في النهاية. وكان دايسروث — الذي يحمل درجة الدكتوراه في علوم الأعصاب من ستانفورد — متشوقًا لفهم الأمراض العقلية التي أرَّقت الجنس البشري منذ عصر أبقراط، وخصوصًا القلق والاكتئاب (وعلاجها في يوم ما). أما بويدن — الذي كان يواصل دراساته العليا عن وظائف الدماغ — فكان لديه حبُّ اطِّلاع شرهٍ على التكنولوجيا العصبية. في البداية، كان أملهما هو استخدام خرز مغناطيسي دقيق كوسيلة للتحكم في وظيفة الدماغ لدى حيوانات حية سليمة، لكن في مرحلةٍ ما من خَمْس السنوات التالية طرَأتْ فكرة مختلفة.

منذ سبعينيات القرن العشرين، عكف علماء الأحياء الدقيقة على دراسة فئة من جزيئات حسَّاسة للضوء تُعرَف بالرودوبسين، التي تمَّ اكتشافها في عُضَيَّات بسيطة؛ مثل: البكتيريا والفطريات والطحالب. تعمل هذه البروتينات كحراس على طول جدار الخلية؛ فحين تلتقط ضوءًا بطول موجيٍّ معين، فإنها إما أن تسمح بدخول الأيونات إلى الخلية أو — على العكس — تسمح لها بالخروج. وتعكس عمليةُ انحسار وتدفُّق الأيونات هذه عملَ العصبون؛ إذ تتراكم الشحنة الكهربية بداخل الخلية العصبية إلى أن تطلق دفقة من النشاط الكهربي تتدفق على طول أليافها (أو محورها) إلى المشابك العصبية؛ حيث تنتقل الرسالة إلى الخلية التالية في المسار. يعتقد العلماء أنك إذا استطعت إدخال الجين المسئول عن أحد هذه البروتينات الحساسة للضوء إلى عصبون ثم أرسلت نبضة ضوئية في الخلية، فربما تستحث الخلية على النشاط. بعبارة أبسط، بإمكانك إثارة أو تثبيط عصبونات معينة في الحيوان الواعي بنبضة ضوئية.

في عام ٢٠٠٤، نجح دايسروث في إدخال جين خاص بجُزَيْء حسَّاس للضوء مأخوذ من طحلب إلى عصبونات حيوان ثدييٍّ مزروعة في طبق. وراح دايسروث وبويدن يعملان على إثبات أن الضوء الأزرق يستطيع استثارة العصبونات على النشاط. وفي الوقت ذاته تقريبًا، التحق طالب الدراسات العليا فينج جانج بمعمل دايسروث. وأثبت جانج — الذي كان قد اكتسب خبرة مبكرة في تِقْنيات البيولوجيا الجزيئية والمعالجة الجينية وهو في مرحلة المدرسة الثانوية في دي موين بآيوا — أن الجين المسئول عن البروتين المراد من الممكن إدخاله إلى العصبون باستخدام الفيروسات المُعدَّلة وراثيًّا. ومرة أخرى باستخدام نبضات من الضوء الأزرق، أثبت فريق ستانفورد بعدها أنه استطاع تشغيل وإيقاف نبضات كهربية في الخلايا العصبية الثديية المعدلة باستخدام الفيروسات. وفي ورقة بحثية بارزة نُشرت في دورية نيتشر نيوروساينس في عام ٢٠٠٥ (بعدما رفضتها مجلة ساينس، على حدِّ قول بويدن)، وصف كلٌّ من دايسروث وجانج وبويدن التِّقْنيَّة (ولعام كامل آخر، لن يطلق أحد على هذه التِّقْنيَّة اسم «علم البصريات الوراثي»).

وعلى الفور، هرع علماء الأعصاب إلى استغلال قدرة التِّقْنيَّة من خلال إدخال جينات حسَّاسة للضوء إلى حيوانات حية، واستخدم الباحثون في مختبر دايسروث الخاص هذه التِّقْنيَّة لتحديد مسارات جديدة تتحكم في القلق لدى الفئران، كما استخدمها كلٌّ من فريق دايسروث وأعوانه من الباحثين من مستشفى ماونت سايناي في نيويورك لإثارة الاكتئاب وتثبيطه في الجرذان والفئران. واستخدم معمل سوسومو تونيجاوا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مؤخرًا علم البصريات الوراثي لخلق ذكريات زائفة في حيوانات المختبر.

حينما زرت مكتب بويدن في ميديا لاب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في ديسمبر الماضي، أثار هذا العالم في حديثه قصة أبحاثه الأخيرة المفضلة التي تضمنت علم البصريات الوراثي. وبكلمات متلاحقة بسرعةٍ توازي سرعة ضرباته على مفاتيح لوحة الكتابة، وصف بويدن تِقْنيات الجيل الثاني التي دخلت حيز التطوير بالفعل. يتضمن أحدها التنصُّت على الخلايا العصبية الوحيدة في حيوانات منوَّمة وأخرى واعية؛ من أجل رؤية «الأمور التي تدور في خِضَمِّ ذلك النشاط» داخل العصبون في حالة غياب الحيوان عن الوعي، يقول بويدن: «لقد ألقى هذا الأمر الضوء فعليًّا على ما يعنيه أن تكون لديك أفكار ووعي ومشاعر.»

وقد أرسلت مجموعة بويدن لتوِّها ورقة بحثية تُظْهِر منعطفًا جديدًا في علم البصريات الوراثي؛ ألا وهو أن المسارات العصبية المنفصلة المستقلة يمكن أن تُستثار في آن واحد بأضواء حمراء وزرقاء ذات أطوال موجية. ولهذه التِّقْنية القدرة على إظهار الكيفية التي تتفاعل بها الدارات العصبية المختلفة بعضها مع بعض وتؤثر بعضها في بعض. وتعمل مجموعته كذلك على مِجسَّات تسجيل بالغة الكثافة ومَجاهر تهدف إلى تصوير نشاط الدماغ بأكمله. ليست هذه بالطموحات المتواضعة، يقول بويدن: «هل يمكنك تسجيل كلِّ الخلايا الموجودة بالدماغ كي تستطيع مراقبة الأفكار أو القرارات أو أية ظواهر أخرى معقدة تظهر حينما يتنقل الشخص من موضع الإحساس إلى الانفعال إلى الفعل؟»

وعلى بُعد بضعة مبانٍ من مكتب بويدن، أعد فينج جانج — الذي يعمل الآن أستاذًا مساعدًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وعضوًا بهيئة التدريس في معهد برود — قائمةً بأسئلة قديمة تتعلق بمجال علوم الأعصاب، والتي ربما تبدأ التِّقْنيات الحديثة في تناولها الآن. فيطرح الأسئلة التالية قائلًا: «هل يمكنك إجراء تحديث للذاكرة وزيادة سعتها؟ كيف يحدث التشفير الجيني للدارات العصبية؟ كيف يمكنك إعادة برمجة التعليمات الجينية؟ كيف تُعالج الطفرات الوراثية التي تُسبب عيوبًا خلقية أو أية مشكلات أخرى في الجهاز العصبي؟ كيف تجعل الدماغ العجوز أصغر سنًّا؟»

بالإضافة إلى مساهمة جانج في ابتكار علم البصريات الوراثي، فإنه أدَّى دورًا رئيسًا في تطوير تِقْنيَّة لتعديل الجينات تُسمَّى سي آر آي إس بي آر. تتيح هذه التكنولوجيا للعلماء استهداف جين بعينه — في العصبونات على سبيل المثال — ثم مسحه أو تعديله. فإذا عُدِّل بحيث يشمل طفرة وراثية يُعرَف أو يُعتَقَد أنها تسبب أمراضًا عصبية، فبإمكان العلماء إذن دراسة مراحل تقدُّم تلك الأمراض لدى حيوانات المختبر. وكبديل لذلك، يستطيع العلماء استخدام تِقْنيَّة سي آر آي إس بي آر في المعمل لتعديل الخلايا الجذعية التي يمكن أن تنمو بعد ذلك لتصبح عصبونات لرؤية النتائج.

تنتج كثيرٌ من وظائف الدماغ من عملياتٍ تتعاون فيها حزم من العصبونات معًا لنقل إشاراتٍ بين مناطق مختلفة. وسيساعد تخطيط هذه المسارات العلماء على فهم الكيفية التي يعمل بها الدماغ. وهي مهمة كبيرة، لكن ثمة فِرقًا كثيرة تساهم في هذا الجهد؛ حيث تدرس الجوانب المختلفة من التركيب التشريحي للدماغ.

تخطيط الدماغ: تخطيط الطرق الفائقة السرعة للمعلومات في الدماغ.

تخطيط الدماغ: تخطيط الطرق الفائقة السرعة للمعلومات في الدماغ.

٨٦ مليارًا: عدد العصبونات في دماغ الشخص البالغ.

١٠٠٠٠: أكبر عدد من الوصلات العصبية أو الروابط التي يمكن أن يُشكِّلها العصبون الواحد.

١٠٠٠ تريليون: تقدير عدد المَشابِك العصبية في الدماغ البشري.

تِقْنيات تخطيط أخرى (رسوم جون ماكنيل؛ بتصريح من دايسروث لاب (كلاريتي)، ومعهد آلن لعلوم الدماغ (برينسبان)، ومشروع هيومان كونيكتوم بروجيكت).

تِقْنيات تخطيط أخرى (رسوم جون ماكنيل؛ بتصريح من دايسروث لاب (كلاريتي)، ومعهد آلن لعلوم الدماغ (برينسبان)، ومشروع هيومان كونيكتوم بروجيكت).

شفافية

وفي ستانفورد، حينما يفرغ دايسروث من مرضى اضطرابات طيف التوحُّد أو الاكتئاب في العيادة، فإنه يواصل ابتكار أدواتٍ يمكنه هو والآخرين استخدامُها لدراسة هذه الحالات. في الصيف الماضي، قدَّم مختبره طريقة جديدة للعلماء لرؤية كبلات الألياف العصبية، والتي تُعرف ﺑ «المادة البيضاء»، التي تربط بين مناطق متباعدة في الدماغ. تقوم هذه التكنولوجيا — التي تُعرَف باسم كلاريتي — أولًا بتجميد حركة الجُزَيئات الحيوية مثل البروتين والدنا في شبكة تشبه البلاستيك تحافظ على السلامة المادية للمخ بعد الوفاة. بعد ذلك يُجرِي العلماء مُطهِّرًا خلال هذه الشبكة لإذابة كافة الدهون في نسيج الدماغ، والتي تحجب الضوء في الأحوال الطبيعية. يصبح الدماغ شفافًا؛ ممَّا يكشف فجأةً بالكامل عن نظام اتصالات الدماغ على نحوٍ ثلاثي الأبعاد. هذه الأدوات الجديدة جميعها تُغيِّر كثيرًا من الآراء التقليدية في علم الأعصاب. على سبيل المثال، حسبما أشار دايسروث في مقال استعراضي نُشر في وقت سابق من هذا العام في مجلة نيتشر، لقد تحدَّى علم البصريات الوراثي بعض الأفكار الأساسية التي يقوم عليها التحفيز العميق للدماغ، والذي يستخدم على نطاق واسع لعلاج كلِّ شيء بدءًا من التشنجات والصرع وحتى القلق واضطراب الوسواس القهري. ما من أحد يعرف سبب نجاح التحفيز العميق للمخ، لكن الافتراض الذي طالما قام عليه هو أن آثاره العلاجية مستمدة من التحفيز الكهربي لمناطق محددة جدًّا من الدماغ؛ ويبذل جرَّاحو الأعصاب جهدًا استثنائيًّا لوضع الأقطاب الكهربية بدقة مُتناهِيَة.

لكن في عام ٢٠٠٩، أظهر دايسروث وزملاؤه أن تحفيز المادة البيضاء على وجه التحديد — وهي الكبلات العصبية التي يُصادَف وقوعها بالقرب من الأقطاب — كان سببًا في أقوى تحسُّنات إكلينيكية لأعراض مرض باركينسون. بعبارة أخرى، لم تكن المنطقة التي توضع فيها الأقطاب مهمة بقدر أهمية أية ممرات عصبية يُصادف مرورها بالقرب من الأقطاب. وكثيرًا ما يستخدم العلماء كلمات مثل «مدهش» و«غير متوقع» لوصف مثل هذه النتائج الحديثة؛ مما يعكس أثر علم البصريات الوراثي على فهم المرض النفسي.

وفي السياق نفسه، يشير أندرسن — من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا — إلى أن الشغف العام والعلمي بدراسات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، على مدار العقدين الأخيرين، خلَق ذلك الانطباع بأن مناطق معينة من الدماغ تعمل ﮐ «مراكز» للنشاط العصبي، على سبيل المثال: اللوزة العصبية هي «مركز» الخوف، وما تحت المهاد هو «مركز» العدائية، لكنه يُشبِّه التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي بالنظر إلى مشهدٍ ليلي من طائرة على ارتفاع ٣٠ ألف قدم و«محاولة اكتشاف ما يحدث في بلدةٍ ما بعينها.» أما علم البصريات الوراثي — على النقيض — فيقدم رؤية أكثر تفصيلًا إلى حدٍّ كبير لذلك القسم الفرعي الصغير من خلايا تحت المهاد، ومن ثَمَّ صورة أكثر تعقيدًا ومليئة بالفروق الدقيقة لمشاعر العدائية. وتنشيط عصبونات في هذه المنطقة الصغيرة يمكن أن يستفز كائنًا حيًّا ليَشنَّ حربًا، لكن تنشيط العصبونات المجاورة يمكن أن يدفعه إلى ممارسة الحب.

إن هذه التِّقْنيات الحديثة ستمنح العلماء أُولى اللمحات حول الكيفية التي يعمل بها الإدراك البشري؛ فهي تقدم ملمحًا عن الكيفية التي تنشأ بها الأفكار والمشاعر والهواجس والنشاط العقلي المختل من الدارة العصبية، ومن نشاط أنواع معينة من الخلايا. وقد بدأ الباحثون لتوِّهِم في اكتساب هذه الرؤى، ولكن بالنظر إلى سرعة التطور التكنولوجي في الفترة الأخيرة، فربما تظهر الصورة في وقت أقرب كثيرًا مما حلم به أيُّ شخص حين ومض علم البصريات الوراثي للمرة الأولى قبل سنوات قليلة.

10 дек, 2015 02:09:50 PM
0