Перейти к основному содержанию

تفسير العالم، وتغييره

أونورا أونيل تقيم الدليل على قيمة الأبحاث الفلسفية.

كتب ماركس في أطروحته الحادية عشرة حول فيورباخ: «لقد اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بعدة طرق، إلا أن تغييره هو الأهم.» («أطروحات حول فيورباخ»، ١٨٤٥). على الرغم من أن ذلك الاتهام قد لا يكون عادلًا، فإن تعليقه اللاذع يقبع في أعماق الذاكرة، وما زال كثير من الناس يشاركونه ذلك الرأي، ومن بينهم فلاسفة كُثُر؛ فهم يشعرون بالانزعاج أحيانًا إزاء السعي إلى تغيير العالم، ويشعرون بشيء من البغض أو الاستهتار أو الغرور في سلوك الفلاسفة الذين يسعون إلى ذلك، إلا أن الفلاسفة — كغيرهم — واقعون تحت ضغط ليثبتوا أن عملهم مهم، وأنهم يسهمون في تغيير العالم؛ وليثبتوا فعليًّا — حسب لغتهم العصرية — أن العمل في مجال الفلسفة له «أثر». ويتسم لفظ «الأثر» بالغموض من عدة نواحٍ، وكثير من الأثر يكون له قيمة سلبية؛ ولذا فالأرجح أن يكون المقصود هو أن الفلاسفة ينبغي أن يثبتوا أن عملهم له أثر مرغوب فيه. ومن منظور مبسَّط، يمكن القول إن الأثر الجيد هو الأثر الاقتصادي. عندما دخلت المزاعم المتعلقة بالأثر دائرة الضوء في الأوساط الأكاديمية منذ بضعة أعوام، افترض كثير من الناس أن معنى ذلك أن البحث في بعض المجالات له أثر اقتصادي واضح، لكنه في مجالات أخرى — ومنها الفلسفة — لا يكون له ذلك الأثر. رحَّب البعض بفكرة إمكانية إقناع المموِّلين بتوجيه كل الأموال المخصصة للأبحاث إلى الفئة الأولى من المجالات. وفي أبسط صور هذا النهج، فإنه افترض أن الأثر المرغوب فيه لا يحدث إلا حين تتمخض نتائج البحث عن منتجات جديدة، أو إنتاجية زائدة، أو وظائف جديدة، أو زيادة في الصادرات.

تحديد المشروعات الرابحة

لا تقدم صورة الأبحاث ذات «الأثر» نفعًا كبيرًا، حتى فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية. بطبيعة الحال تكون النتائج مجهولة وقت إجراء الأبحاث، وهكذا، فحتى يكتشف المرء أثر البحث، لا بد أن ينظر إلى الأمور بأثر رجعي، متتبعًا مسار الابتكارات الناجحة رجوعًا إلى الأبحاث التي نبعت منها. تكشف تلك الممارسة أن الابتكارات الناجحة تعتمد في كثير من الأحيان على أجزاء «كثيرة» من البحث في مجالات متعددة، وأن الفترة الفاصلة بين البحث والابتكار قد تصل إلى «عقود طويلة». على سبيل المثال، أَدخلت إمكانات نظام تحديد المواقع الجغرافية التي تُزوَّد بها الهواتف المحمولة البسيطة تصحيحات قائمة على نظرية «النسبية العامة» التي وضعها أينشتاين، وهي أبحاث نُشرت عام ١٩١٦، فلا سبيل لمعرفة حجم الأثر الذي سيخلِّفه أي جزء معين من الأبحاث في مراحله الأولية، ولهذا السبب، عادةً ما تموِّل أو تنفِّذ المجالس أو المؤسسات أو الجامعات البحثية مجموعة من مشروعات الأبحاث، وأيضًا تموِّل الشركات التي تجري أبحاثًا — مثل شركة «بيج فارما» — مشروعات كثيرة، وتتوقع نسبة فشل مرتفعة، فلا أحد يمكنه تحديد المشروعات الناجحة في المراحل الأولية.

الواقع أن بعض الاكتشافات والنظريات التي يُتوقَّع لها الفوز في سباق الأثر الاقتصادي في بداية الأمر يتضح لاحقًا أنها لم تكن رائعة إلى هذا الحد. منذ فترة غير بعيدة، كان الكثيرون يشيرون إلى الأبحاث المالية على أنها عمل ذو أثر اقتصادي كبير، وقليل من يفعلون ذلك اليوم. وينطبق ذلك أيضًا على العلوم الطبيعية؛ فكثير من الابتكارات الناتجة عن أبحاث في العلوم الطبيعية يتضح في نهاية المطاف أن قيمتها الاقتصادية موضع شك، فكِّر في «مشروع مانهاتن»، وفي المبيد الحشري «دي دي تي»، وفي ابتكارات كيميائية كثيرة اتضح أنها ضارة بالبيئة.

حتى إذا افترضنا أن الأثر الجيد الوحيد هو الأثر الاقتصادي، فلن يساعدنا ذلك كثيرًا في تحديد المشروعات التي ينبغي تمويلها. على أقصى تقدير قد نستنتج أن بعض مجالات العمل في حالة من التخمُّر أو النشاط، وأن ابتكارات عملية ستنبثق على الأرجح من تلك المجالات في وقت غير محدد في المستقبل، لكننا في كثير من الأحيان لا نكتشف مثل هذا التحول سوى بعد مرور عقود من الزمان، فمن كان يظن أن الأبحاث السرية التي أجرتها مجموعة صغيرة من علماء الرياضيات والفلاسفة المعنيين بالمنطق الصوري منذ قرن مضى ستؤدي إلى نشأة الحوسبة، وفي النهاية إلى صناعات جديدة تمامًا، وإلى إعادة تشكيل العمل والحياة في كل مكان على وجه الأرض؟

ما وراء القيمة الاقتصادية

حتى الأشخاص الذين يعون جيدًا القيمة الاقتصادية للصناعات الإبداعية والثقافية — النشر والمسرح، والتعليم العالي، والموسيقى — كثيرًا ما يتساءلون ما إذا كان ثمة حجة اقتصادية تؤيد دعم إجراء الأبحاث في مجالات الفن والأدب، والموسيقى والمسرح، والتاريخ والفلسفة؛ فقد يشعرون أن حياتنا لا تتشكل بفعل نتائج البحث في العلوم الإنسانية، بل بموضوعات ذلك البحث: بالموسيقى والعمارة، واللغات والآداب، والثقافات والأديان التي يتناولها الأكاديميون بالبحث؛ لذا يسهل كثيرًا إقناع الناس بأن الأدب والفن — بل والفلسفة — مجالات قيِّمة، وينبغي أن تحصل (جزئيًّا) على تمويل عام، لكن من الصعوبة بمكان أن نقنعهم بأن البحث في العلوم الإنسانية له من القيمة ما يجعله يستحق الاستثمار هو الآخر.

أرى أن أبحاث العلوم الإنسانية — بما في ذلك الأبحاث الفلسفية — قيِّمة لأسباب جادة لافتة للنظر تتجاوز القيمة الاقتصادية، ولا ينبغي أن نخجل من الحديث عنها، فأبحاث العلوم الإنسانية تحمل قيمة عامة لأنها تشكِّل وتغيِّر الأفراد والمجتمعات؛ فهي تشكِّل وتعيد تشكيل معتقدات الناس وأفعالهم وما يولونه القيمة. وقد تفاجئ هذه التغييرات القائمين بالبحث أنفسهم، وما إن تحدث، حتى يصبح من العسير تذكُّر ما كانت عليه الأمور قبلها؛ فلا يمكننا الآن أن نستعيد فهمًا للعالم الطبيعي لم تطله أيادي البحث العلمي على مدى أجيال عديدة، وبالمِثل، لا يمكننا الآن أن نتخيل فهمًا للعالم البشري لم يتشكَّل بعمق بفعل الأبحاث المتراكمة في العلوم الإنسانية على مدى أجيال عديدة؛ ففهمنا للأماكن والمواضي، ولمكاننا وماضينا، ولحاضرنا، ولمؤسساتنا السياسية والقانونية؛ غارق في البحث في اللغات والنصوص، والفنون والآثار والحجج التي تشكِّل الآن ذكرياتنا وإدراكنا، وفهمنا ومشاعرنا، بل ووعينا بعالم البشر، فنحن لا نكشف عن أنفسنا بذكر إحداثيات زمكانية، وإنما بالإشارة إلى كفاح البشر ونضالهم على غرار: سقوط جدار برلين، وانتفاضة الفصح ١٩١٦، والربيع العربي. إننا نعبر عن إدراكنا للعالم باستحضار إشارات تذكيرية رنانة، مثل: حقول فرنسا الشاسعة (من مسرحية «هنري الخامس» لشكسبير)، وأول أسطوانة طويلة المدة لفريق «بيتلز»، و«أنشودة الفرح» لبيتهوفن. تفسير العالم ليس مشروعًا صغيرًا، ولا مشروعًا يمكن إنجازه بنجاح وإزاحته جانبًا باعتبار أنه قد اكتمل إلى الأبد، ولا تدور أبحاث العلوم الإنسانية كلها حول التفسير وإعادة التفسير، كما تكشف نماذج الأبحاث التاريخية والفلسفية؛ فنحن ننبهر بالأبحاث التجريبية الصعبة المعنية بالماضي، كتلك التي أثبتت أن بعض العظام المكتشَفة مؤخرًا تعود إلى الملك ريتشارد الثالث، وننجذب إلى الحجج التي تقدِّم أسبابًا لأخذ حرية الكلام على محمل الجد أو تشكك في المزاعم المتعلقة بالعلاج بالمعجزات.

القيمة العامة لأبحاث العلوم الإنسانية

كما هو الحال في العلوم الطبيعية، فإن كثيرًا من أبحاث العلوم الإنسانية يكون تجريبيًّا؛ فهي تهدف إلى إقامة الدليل على الحالة القائمة أو التي كانت قائمة من قبل. يهدف البحث التجريبي في العلوم الإنسانية — كما في غيرها — إلى الحقيقة؛ فهو يسعى إلى تتبع الأدلة، وتحديد المواضع التي تكون فيها الأدلة غائبة أو غير واضحة، وكغيره من العمل التجريبي، يكون عُرضة للتفنيد؛ فكما قد يَثبت خطأ نظرية علمية ممتازة أمام حقيقة أو تجربة غير ملائمة، قد تقوِّض وثيقة غير ملائمة تحليلًا تاريخيًّا ممتازًا. والأبحاث التاريخية مهمة لأنه من دونها تضطر المجتمعات إلى اللجوء إلى الآراء المتعارف عليها أو العقائد الأيديولوجية المفروضة؛ مما يترتب عليه في كثير من الأحيان المجاملات الشخصية والسرد غير الدقيق لأمجاد الماضي ومآسيه، وهو ما قد يلقي بظلال خطيرة على وضع السياسات وإدراك الذات في الوقت الحاضر. فالتاريخ الزائف، والأيديولوجيات غير المدروسة، والاستخدامات المسيئة للأدلة والحجج التاريخية؛ يمكن أن تضر جميعًا بفهمنا للماضي واستيعابنا لإمكانات الحاضر.

في المقابل، لا تكون الأبحاث في الفلسفة تجريبية عمومًا، إلا أنها تقدم هي الأخرى إسهامات مميزة لفهم الذات ولإمكانات الأفراد والمجتمعات، وهي تحقق ذلك بطريقين؛ فالفلسفة هي فرع المعرفة الذي يقدم الإسهام الأكبر فيما يتعلق بتقصِّي أنماط الجدل ومعاييره وتطويرها واختبارها عمليًّا؛ فالعمل المعنيُّ بالمصداقية والإثبات، وأدلة المعرفة ومعاييرها أمر وثيق الصلة بالحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومن ثم فهو يحمل قيمة عامة لا شك فيها. والفلسفة — إضافةً إلى ذلك — واحدة من الفروع القليلة التي تبحث مسألة التفكير المعياري؛ أي تفكيرنا فيما «ينبغي» عمله (ومثلها النظرية السياسية والفقه القانوني). والتفكير المعياري ليس معنيًّا بالسعي إلى إثبات الوضع القائم، وإنما تحديد المعايير التي تتوفر لدينا أفضل الأسباب لإقرارها. تدور النقاشات الخاصة بتغيير العالم في سياقات كثيرة، إلا أن التفكير المعني بأسباب أهمية تغييرات بعينها وضرورة القيام بها، وكذلك التفكير المعني بمعايير التفكير، كلاهما له أصول راسخة في الفلسفة، فتلك هي ضروب البحث الفلسفي التي ساهمت في تغيير العالم. والمُثُل الدستورية والقانونية الجليلة التي تتردد في النقاشات الخاصة بالسياسة لا تعدو كونها مجرد أهواء أو تفضيلات؛ فهي ما تبقَّى حاليًّا من جدال احتدم حول العدالة والحرية، والمساواة والديمقراطية، وأخفقت فيه مُثُل أخرى كانت تحظى بالتقدير يومًا، وهي التي قد يثبت أنها بدورها بحاجة إلى مراجعة.

أهمية الفلسفة

لا يجري أحدٌ بحثًا إلا ولديه أمل في أن يُحدث اختلافًا في مرحلة ما، لكن كثيرًا ما لا يكون الاختلاف مجرد نفع أو مكسب «اقتصادي». على سبيل المثال، أثرُ الأبحاث الفلسفية — أو بعبارة أخرى أثرُ «غياب» الأبحاث الفلسفية — كثيرًا ما يتبدَّى عندما تجنح الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية بسبب سعي الناس وراء مجموعة من الأهداف أو المعايير أو المقاييس التي لا يمكن الوفاء بها معًا؛ مثلًا، عندما يطالب الناس بالمساواة في الحصول على السلع التي تمنحهم مكانة (الجوائز للجميع!)، وبفلسفة الاستحقاقراطية (الحكم بالاستحقاق) مقرونة بنتائج فيها مساواة بينهم، وبحرية الاختيار مصحوبةً بالأمن المطلق، إضافةً إلى العديد من التراكيب المستحيلة الأخرى. إن فهم سبب استحالة حصولنا على كل الأشياء معًا، وفهم التغييرات الممكنة هما من المهام الفلسفية، وهناك عمل فلسفي يتعين القيام به متى وجد الأشخاص أو المؤسسات أو الحكومات أنهم يسعون وراء غايات ومعايير متنافرة.

الفلسفة مهمة إذن، لا يمكننا أن نكون ملزِمين بشأن القنوات التي ستغير الفلسفةُ العالمَ من خلالها، لكن يمكننا أن نرى أن التغيير لن يحدث إذا كدَّسنا الأبحاث الفلسفية على الأقراص الصلبة أو في مجلات أكاديمية مغمورة. علينا أن نشترك مع الآخرين، وهو ما قد يبدو عبئًا على البعض، لكني أرى عكس ذلك؛ فكثيرًا ما يسفر اتساع نطاق النقاش عن تكوُّن مفاهيم جديدة لدى جميع الأطراف.

تختلف الخبرات، لكن خبرتي أرشدتني إلى أن إسهامات الفلاسفة ليست ضئيلة ولا عديمة الجدوى، وأن الدخول في نقاشات أوسع نطاقًا قد يغير رأي المرء بشأن قيمة حججه الفلسفية وجدواها.

17 дек, 2015 02:47:07 PM
0