Ana içeriğe atla
مفهوم السيرة حين يتسع ليتحول إلى ما يمكن أن يكون «سعرة ثقافية»

قد لا يكون خالد الجريوي في المشهد الثقافي حاضراً بأعمال سابقة، إلا أنه يأتي من حمولة «حياتية» قل ما تتمظهر بجرأة على خوض الكتابة والنشر لأول مرة. هذا ما نجده عبر كتابه «على عتبات العمر»، الصادر حديثاً - دار مدارك للنشر 2021. تلك التجربة التي تطالعنا اليوم، وهي تركن إلى رؤى خاصة وشديدة الحساسية، وتستند إلى ذخيرة معرفية هامة لرجل توقن أنه مملوء في الصمت بشواهد ومحكيات وقراءات عريضة عن الحياة وفي إدراك مواجعها المبكرة.


يبدأ الكاتب في الصفحات الأولى من مؤلفه عن البيت، فيعلن عن «عمودي الظل الكبير»، فالأب (رجل السماء)، وهو هنا يحيلنا إلى العطاء الممتد دون توقف، والأم (باب السماء) حيث مرد الرحمة والأمان. فإن كان للعمر عتبات فناصيته قبل كل شيء النشأة التي هيأت له ميلاد النجاح. استعرض الجريوي في هذا المقام تحديداً مراحل الأب في الوظيفة وسعيه إلى معارج الخير التي بقيت صلة متينة من الامتنان والتقدير. والأم سكنه وسكينته التي تخيط جراحه بابتسامة آسرة. وهنا يقول الدكتور سعيد السريحي في تقديمه لهذا الكتاب «... ولهذا لا عجب أن يحتفي كاتب السيرة بالأصوات الأولى حين تناديه، صوت والده وهو يبحث عنه (خویلد، وينك يا خويلد؟) وصوت أمه کلما نادته (یا وليدي)».


ثم تتوالى طوالع الكتاب بعناوين اختطها من معمل تصوراته والشواهد التي عبرت بمراحل الإنسان، ونصبها لتكون علامة ما سيقول من مواقف ونماذج عيش وتصورات عابر، في تتبع لعمر له ذاكرته، وفي اختيار لآراء ترسخ المعنى. يزاوج بين الفكرة التي تشكلت بالسنوات وبين الرأي الذي ينضجها، في سيرة متفرقة تحت تلك العناوين. في بارقة يتخذ من مقولة لشخصية بارزة تمام ما قاله أو نقصان ما لمح إليه، وفي عارض آخر، لا يقل تأملاً، يستحضر الشاهد ليوثق موقفه ويؤكد مقطوعة الكشف ويعزز الإيضاح. تراوح الجريوي بين ثقة ما يقول وبين احترام نموذج الحياة التي عاشها، ويعيشها، دون أن يخل بمصداقية تتخلل اللغة الشفيفة والواضحة دون مواربة أو تخف. لم يقل كل شيء، لكن قدم كل ما يلزم القارئ ليعرفه في حدود المصافحة الأولى عبر كتاب لم يكن فيه ضنيناً بدعوته للتبصر وتمحيص الحياة، ولا شحيحاً في محاكمة جراح مضت فآثر أن يشرح مفهوم التجاوز ولملمة ما تهدم من منظوره المحايد. وعن هذه الاستعادة يذكر السريحي أن الكاتب ينفذ إلى دلالات مختلفة فيما قاله ولم يقله و«بما تعلنه کلماته وبما توحي به تلك الكلمات، وبما تتواطأ تلك الكلمات معه فلا تبوح بشيء منه، لا تتوقف تلك الكلمات عند الإحالة إلى عنوان الكتاب، وإنما تمضي بعد ذلك كي تكون عتبة يمكن للقارئ أن يعبرها لكي يجمع بين ما تفرق من فصول الكتاب، ويؤلف بين ما اختلف من موضوعات الكتابة...».


وفي تجسيده للعمر أشكال متفاوتة من حيث الزمن الحاكم الوحيد في تدرج الإنسان داخل الحياة، فصروف الزمن أدوات عاملة، ولكل أداة وقعها في منظومة المقاطع كما هندسها الكاتب. والمثال يتعدد بمختلف الفصول، ففي عنوان «تأملات على عتبات العمر»، يتحدث عن الحب كوسام راسخ لا تشوبه الأيام بتتابعها، ولا يفقر القلب الذي اعتمره، كما يرد عنوان «هيبة المسافات» دليلاً متصلاً بتلك المساحة الآمنة التي ينفرد بها لنفسه ويجعها الخلاص من الكثير. وفي عنوان «إنه فخ» يستدعي عبارة الكاتب الروسي دوستويفسكي ونصها «لا تكبر... إنه فخ»، يقول: «اليوم أقف مبتعداً عن هذا الطفل... تفصلنا نظرة، وأربعون عاماً، والكثير الكثير من الخيبات». هكذا محملاً بالحنين لذلك العهد البعيد، وهذه عتبة كبرى في العمر يجتازها ولا يستطيع، يقاومها ولا يهزم، يسقط ولا ينكسر. وكما يصفه السريحي «ليس للعمر ماض طواه النسيان أو تستدعيه الذاكرة، ليس له حاضر يحاصر من يعایشه بما هو حوله، وليس له مستقبل لا يزال في ظهر الغيب ولا يعرف أحد ما سوف يسفر عن العمر مكان له عتبات

 

 

 

بهذه الطريقة في الكتابة السيرية يعالج الكاتب موضوعاته كيفما تفرض طريقته في الكتابة، وكأن «مفهوم السيرة يتسع ليتحول إلى ما يمكن أن يكون سعرة ثقافية يتنقل فيها الكاتب بين السرد والشعر، بين المقال والخاطرة، بين الاقتباسات والإحالات، كأنما هذه الفنون المختلفة مرايا تتراءى فيها الأيام والتجارب والمواقف والرجال والنساء، تلوح على زجاجها الآلام والآمال، والوجوه التي ألفنا والوجوه التي لم تألف» بحسب السريحي في المقدمة.


وفي استباق مع هذا العمر يلتفت إلى الأحكام الناجزة، فيتوخى الحذر وتغليب سلامة النوايا، ويدعو لاصطحاب ذاكرة الأحبة في رحلة العمر، فحيث سيتوقف يوماً سينجو من ويل الجراح مديدة السنوات، ويتخفف من هزيم النداء القديم للندم والحسرة.


لا يتوقف الكاتب عن غمر مؤلفه الواقع فيما يقارب (300) صفحة بمقولات يصفها بأنها «نقوش في الذاكرة والروح، مثل تلك التي رسمت في الكهوف، تبقى هناك للأبد»، وهي عبارات تعود لأدباء وكتاب عالميين مثل نجيب محفوظ وخوزيه سراماغو والسياب وسومرست موم والطيب صالح وهيرمان هيسه وغيرهم. وإن كانت تلك العبارات أتت في سياقات فرضها الجنس الأدبي، شعر أو رواية أو دراسة فكرية، فهو يؤسس متانة استشهاداته المختلفة وتوارد ما يلتقي عليه مقاله ومضمون تلك العبارة المنتقاة، سعياً منه لقراءة كل عتبة بلغة ميسرة ويشدها بالتساؤل عن تحولات الإنسان في أوجه الحياة، في قوته وضعفه، في سلمه وعدائه، فلا يماثل مقالاً بآخر، ولا يحيل دلالة إلى أخرى.


وتتوالى العتبات عند الجريوي في فضاء مفتوح لا يحده نوع الكتابة أو صرامة الشكل، ويقرن كل عتبة بصورة في هندسة جمالية أكثر منها جسراً إلى المعنى، وفي هذا الجانب يرى السريحي بأن العتبات «تشي في الوقت نفسه بما آلت إليه من اصطلاح في الدراسات النقدية حين يستخدمها الآخذون بمناهج النقد الحديث في الإحالة إلى كل ما يمكن أن يكون مدخلا لقراءة النص ومفسرا لظروف إنتاجه وكاشفا عن دلالاته، وكأنما الكاتب يوحي إلينا بأن كتابه يحمل ما تحمله العتبات من دلالة، فيكون كل مقال من مقالاته عتبة نعبرها إلى ما هو مستتر وراءها من معاني ودلالات تحيل إليها الكتابة».


بهذا الكتاب الأول يطرق خالد الجريوي مساعي الكتابة السيرية المدمجة بأصناف الكتابات وأنواع التسجيل في صياغة جديدة للفهم والوعي المولود من رحم عمر لم يذهب بعيداً في السنوات بعد، ويعيد النظر فيما يجب لمجابهة الحياة، وما يخفف المشقة الطويلة أثناء اقتطاع الحلم وقبول التحدي للوصول. يبقى هذا الإصدار محاولة أولى تشملها تداعيات خاصة آثرت الخروج بلغة هادئة لا تتقصى أثر الرجل ورحلته العملية وقصصه المباشرة، بقدر ما تعلن أنه في هذا العمر قال ما يراه لازماً، ويبشر في عمر قادم بسيرة أخرى تحتاج شواهد حية وصوراً أكثر حضوراً في معمل الحياة الهائل.

 

 

 

المصدر: الشرق الأوسط 

24 Kas, 2021 12:03:40 PM
0