Ana içeriğe atla
عندما يتحول الجسد ملعبا لاضطرابات النفس

هناك قصة مأثورة تُحكى عن الطبيب والفيلسوف العربي الشهير ابن سينا، إذ استشاره تاجر في شأن مرض دهم فجأة أحد أبنائه، فصار معتلاً بعد أن كان متدفقاً بالشباب والعافية. وشكا التاجر لـ»الشيخ الرئيس» [وهو لقب ابن سينا]، أنه لم يترك طبيباً مرموقاً إلا أحضره لمعاينة ابنه، وبذل الأطباء قصارى جهودهم، لكنهم لم يتوصّلوا إلى معرفة الاعتلال المفاجئ لذلك الشاب. وتألم الأب من أن ذلك المرض المجهول أحدث في جسد الابن نحولاً واضحاً، وخفض شهيته إلى الطعام، بل سرق منه قوّته وشدّة عزمه، وجعل نومه مضطرباً.


وإذ فحص ابن سينا ذلك الشاب المريض، لم يعثر على شيء يدل على مرض معين، على غرار ما لاحظه غيره من الأطباء. وبرز ذكاء ابن سينا عندما عمد إلى شيء لم يفعله الآخرون. فقد وضع اصبعه على معصم الشاب، وأخذ يحسب عدد نبضات قلبه. وبحذق، أخذ يسأل الأب عن المناطق القريبة من منزله. وعندما نطق لسان الأب باسم منطقة معينة، تسارع نبض المريض. والتقط ابن سينا الخيط. وسأل التاجر عن أحياء تلك المنطقة، ولما ورد اسم أحدها، عاود نبض الشاب التسارع. ثم طلب معرفة أسماء العائلات التي تقطن بيوت ذلك الحي، وما أن ورد اسم أسرة معينة، حتى ارتفع عدد نبضات الشاب. وعندها، سأل ابن سينا عن بنات تلك الأسرة، ولما ورد اسم إحداهن، طارت سرعة نبض المريض. وأدرك ابن سينا أنه وصل الى التشخيص المطلوب. وأعلن أن الشاب إنما يعاني شدّة في عواطفه، مع حب مكتوم لتلك الفتاة التي استجاب قلب الشاب لاسمها بنبضات سريعة.

هناك أكثر من معنى علمي في تلك القصة التي تشهد لابن سينا بالذكاء وحُسن التصرف، والتمرّس بعلوم الطب، إذ يبرز أنه لم يفصل أحوال الجسد عن الوضع النفسي للمريض. ولم يتردّد في نسبة عوارض جسديّة محضة، مثل الآلام والنحول وفقدان القوّة والعزم، إلى حال نفسيّة يعانيها المريض. والأرجح أن ذلك يصلح نموذجاً عن الظاهرة التي يشير إليها الطب النفسي الحديث بمصطلح «الجَسْدَنَة» Somatization. ويشير المصطلح إلى حدوث أمراض جسديّة وظهور أعراض جسمانيّة من دون وجود اضطرابات في الجسم تفسر تلك الحال.

ووفق تقارير منشورة على الموقع الشبكي لـ»منظمة الصحة العالمية»، لا يشكو ما يزيد عن ثلثي المترددين على العيادات العامة في العالم الثالث، أمراضاً جسمانيّة، بل يكابدون ضغوطاً نفسيّة تُعبّر عن نفسها بواسطة أعراض جسديّة. وتشمل قائمة تلك الأعراض الصداع والغثيان والدوار وآلام الظهر والعضلات، وأوجاع البطن، والإحساس بالاختناق وضيق في التنفس، وفقدان الوزن أو زيادته، واضطراب النوم وغيرها.

تفسيرات متفاوتة

تتفاوت تفسيرات المدارس النفسيّة لظاهرة الجَسْدَنَة. وفي تاريخ الطب أنّ بداية ظهور مدرسة التحليل النفسي في مطلع القرن العشرين، اتصلت بتلك الظاهرة عينها. وفي بداية مسيرته المهنيّة، دُعي سيغموند فرويد لعلاج شابات كُنَّ يعانين مشاكل جسديّة وعصبيّة، لكن الفحوص الطبية المُدقّقة لم تعثر على اضطراب في أجسادهن، بما في ذلك الجهاز العصبي الذي كان سليماً لديهن. وراقب فرويد أحوالهن بانتباه. وتوصّل إلى أنهن يعانين مشاكل عاطفيّة وجنسيّة، تظهر على هيئة أعراض في الجسد. وعالجهن بناء على تلك النظرة، فشفين.

ويرى بعض الخبراء ممن يؤيديون مدرسة التحليل النفسي، أن الاضطراب العاطفي ربما ولّد حالاً من التباعد بين الجسد والنفس.

وبذا، يغدو الفرد «متفرجاً» على ما يحصل في جسده، وتنصبّ انشغالاته على أمور حسيّة. ويقف عند المستوى «السطحي» لواقع جسده، إذ يرتفع جدار قوي يفصله عن حاله العاطفية والنفسية.

وغني عن القول أن تلك الحال تتكاثر في الثقافات التي تعزز «التباعد» بين الجسد والنفس، كالثقافة العربية التي تكاد تُنكر راهناً المُعطى النفسي، وتستبدل به أشياء كتلبّس الجن للإنسان!

وللأسف، انغمس بعض مثقفي الحداثة العربيّة في هذه التفسيرات التي تُبعد الإنسان من التنبّه لأحواله النفسيّة. ومن الواضح أن أفلاماً كـ»الإنس والجن» و»بئر الحرمان» من شأنها زيادة التباس صورة المرض النفسي، والمساهمة في الترويج لتفسيرات غيبية عن النفس وأحوالها وأمراضها وتأثيرها في الجسد.

17 Eyl, 2018 09:00:42 AM
0