Ana içeriğe atla
البصر والبصيرة في ديوان «بعين واحدة وبصيرتين» لفارس خضر

يضعنا عنوان ديوان «بعين واحدة وبصيرتين» (دار الأدهم - القاهرة) للمصري فارس خضر، أمام ثنائية «البصر» و»البصيرة»، أو الرؤية الظاهرة بالعين والرؤية العميقة بالحدس والاستبصار؛ ما يدلنا – بداية – على أن لكل دال لغوي ظاهراً وباطناً في هذه الرؤية الشعرية التي تنتظم الديوان. ويساعدنا الإهداء في تأكيد هذا المعنى؛ حين يرى الشاعر أن «شيرين عبد العزيز»؛ «عصفور طائر جرح الماء بمنقاره فنزف البئر كثيراً من الدماء»؛ إذ تتحول الرقة – رقة الطائر – إلى قسوة ويتحول الماء إلى دماء منزوفة ونصبح أمام ما يسمى بالرقة الجارحة. وفارس خضر – بهذا المعنى – يعد امتداداً لتراث شعري طويل يجعل من رقة المرأة – وضعفها أحياناً – قوة نافذة مؤثرة. وفي القصيدة الأولى «دليل كسيح» (لا يعرف من صحرائه سوى الهاوية) تتبدى ثلاثة دوال كاشفة؛ الأول هذا العاجز عن الحركة، والثاني هذه «الصحراء» التى تمثل متاهة كبرى تفضي إلى الدال الثالث «الهاوية» التي لا يعرف «الدليل الكسيح» غيرها في هذه الصحراء اللامتناهية.


وضمير الغياب – هنا – يضع مسافة بين الذات الشاعرة، وهذا الدليل موضوع المقاربة والوصف والذي قد يكون الشاعر نفسه على سبيل التجريد باصطناع هذه المسافة التماساً للموضوعية، كأنه يتأمل ذاتاً أخرى، لكن هذا الإيهام سرعان ما يتلاشى مع السطور الأولى من القصيدة التي تستخدم ضمير المتكلم: «لا أجد ما يدل على/ سوى ألمي»، تسقط المسافة إذن بين الذات الشاعرة والذات الموصوفة مع استدعاء تيمة «الألم» التي تفتح قوساً كبيراً على معجم هذا الديوان الذي تشيع فيه هذه التيمة ومترادفاتها أو ما يقع قريباً منها: الحزن – الذبح – القتل – الدم – الانهيار – العتمة – المطاردة؛ وهى دوال تبدو مقدمات للألم أو نواتج عنه. وبتأمل عنوان القصيدة وهذين السطرين؛ نجد بنيتين متوازيتين بين «الدليل الكسيح»، و«لا أجد ما يدل عليَّ»، من ناحية وبين «سوى الهاوية» و»سوى ألمي» مِن ناحية أخرى، فهل الألم هو الهاوية التي سقط فيها الشاعر؟ وهل الصحراء هي متاهته – متاهتنا – التي أجبر عليها وأجبرنا معه؟ بنية التوازي تدفع إلى هذا المعنى بلا شك. ثم تنتقل القصيدة نقلة ثالثة إلى ضمير المخاطب: «يا رأس الحكمة والحماقة/ لم تقرأ سورتي/ ولا مسك حريقي أبداً/ لكنك تعرف الطريق». يبدو لي أن «رأس الحكمة والحماقة» هو نفسه «الدليل الكسيح» والذي يخلع الشاعر عليه صفات القطب العارف على سبيل السخرية عبر خلخلة المفاهيم القديمة. فإذا كان رأس الحمة، فهو أيضاً رأس الحماقة، وإذا كان يعرف الطريق – لاحظ الدلالة الصوفية – فهو لم يقرأ «سورة» الشاعر ولا مسَّه حريقُه. وإذا كانت يد الشاعر معصورة في يده العارفة، فإنه – أي الشاعر – يسير كالذبيحة نحو المسلخ بفعل استلاب هذه العلاقة له. لكن فعل المقاومة المقابل لفعل الاستلاب قائم: «أمشي عكس ريحك/ مفتوناً بغناء قديم/ ولا أتبع المشانق فوق أسوارك/ كيلا أتعذب/ من جديد».

نحن – هنا – أمام نوعية مغايرة من الدوال لما قبلها. دوال توحي ببعد سياسى واضح حيث: المشانق والأسوار والتعذيب. ولا ينقذ الذات المتكلمة من كل ذلك سوى أن تمشي عكس الريح مفتونة بغنائها القديم، رغم حصارها الدائم ووقوعها في منتصف الدائرة التي تفضي طرقُها إلى الهاوية. تنتقل القصيدة بعد ذلك في سياق تداخل الإنساني والطبيعي، حين تتمنى الذات أن تكون جوار نبتتها البرية، أو أن تكون «جميزة» تخلع قدميها، وتقاسم البيوت حزنها. كما تبدو الإشارات التراثية واضحة في «العكاز الذي أكله السوس»، والذي يذكرنا بعصا سليمان أو في صورة «الحصى الذي يطقطق على النار لينعس طفلها الجائع» التي تذكرنا بقصة المرأة الفقيرة مع أبنائها على عهد عمر بن الخطاب. ومن البداهة أن نقول إن أمنيات الذات وأحلامها هي نقيض ما تراه في واقعها الذي يشيع فيه الرعب والحروب والدماء. لكن هذه الأحلام تنطفىء، كأننا أمام لعنة تطارد الذات بسبب جريمة لا تعرف كنهها «هذه خطيئتي/ الجريمة التي لا أعرف كنهها/ فأهرب من ظلي/ ولا أجني من أنفاسي المتلاحقة سوى العقاب». إننا أمام وضعية تتجاوز مأساة سيزيف. فمع سيزيف تظل هناك محاولة وتكرار للفعل ورجاء منتظر دائماً، لكننا – هنا – أمام هاوية وأمام عقاب من نوع آخر؛ «بدمي المحروق/ ورائحة أطرافي على الجمر/ آكل جسدي وأموت». هنا مايشبه نهاية رواية «اللجنة» لصنع الله إبراهيم؛ حين حُكِم على السارد بأن يأكل «نفسه»، ما يعني أنه لا جدوى من أي شىء ولا معنى لوقوف «فرد» في وجه العالم. لكن فارس خضر يكاد يرى المجاز على وجه الحقيقة. يتبع الشاعر في «شجرة جوافة تنام في سريره»، الآلية نفسها وهي الانتقال من ضمير الغيبة في العنوان إلى ضمير المتكلم في متن القصيدة: «وأنا أجلس على رأسك المقطوع/ صرخت: أنا الرحمة/ كنتُ أمر بأصابعي المبللة على شفاهك». المروي عليه هنا ذات أنثوية: جميزة أو امرأة؛ سيان، فهناك تبادل في الصفات. ومع تتابع السطور نكون إزاء تداخل واضح بين الطرفين «بين السرير والدولاب/ تظلين أطفالي بورق مصفر/ وتقذفينهم بالثمرات».

وهكذا تبدو القصيدة متحركة على مستويين: التداخل بين هذين الطرفين على سبيل الاستعارة المكنية من ناحية، والتضاد على مستوى آخر بين النوم ووحوش اليقظة والرأس المقطوع والرحمة والماء والعطش والأحلام المستقبلية والذكرى الماضية. وهو ما انعكس فنياً في تعدد الضمائر وتناوب الصوت الشعري بين الذات الشاعرة والذات المخاطبة التي تدخل بوصفها ذاتاً متكلمة: «صارت أغصاني عارية في الريح/ الكراسي تلتف حولي/ بحنين معتق...». في القصائد التالية يتعمق الإحساس بالاغتراب وفجائعية الوجود حين تتحول الخطيئة مجهولة الهوية إلى لعنة تكبر مع الشاعر وتتحول الهاوية إلى حتف مؤكد: «كبرت وكبرت لعنتي معي/ أيتها الحمقاء/ لا تتبعيني إلى المقصلة»، ويصبح الماضي مسرحاً لتاريخ من القهر والآلام الذي رأيناه في البداية حزناً مقيماً: «خناجري لا تكفي لصدرك/ يا أيها الحزن».

العنف والتدمير المتبادل هو ما يحكم علاقة الذات بالعالم وعلاقة العالم بعضه ببعض. وفي ظل هذه الرؤية الكابوسية لا يطلب الشاعر من «صاحبة القداسة» أن تذكره: «عندما تغرسين خنجرك في قلبي/ لا تذكري اسمي في كتب التواريخ/ ولا تضعي على قبري شاهداً/ اتركيني للنسيان يمضغ ذكراي». وذلك على عكس ما قاله أمل دنقل بسخرية مريرة وهجائية لاذعة «اذكريني كما تذكرين المهرب/ والمطرب العاطفي/ وكاب العقيد/ وزينة رأس السنة». وهي السخرية التي يمكن أن نستشعرها في قول فارس خضر أيضاً: «اتركيني للنسيان يمضغ ذكراي/ للريح تطير وردة/ يضعها الجنرالات كل سنة/ أمام النصب التذكاري». يتوقف الشعر غالباً أمام المشاهد الدرامية المشحونة، ومن هنا تتأكد شاعرية قصيدة «مصارع الثيران» التي تحاول تمديد المشهد ليصبح مشهد حياة كاملة؛ يقول: «قرنان منغرسان في رئتيَّ/ منذ ما لا أذكر/ والثور يخضخضني/ لأعلى ولأسفل بلا هوادة/ أغمض عينيك لتسد الباب/ في وجه الشفقة». فالدوال موحية بتمديد الزمن والمكان وهذا ما يؤكده أيضاً الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب.

وفي النهاية نحن أمام وضعية برزخية ما بين الحياة والموت الذي يتحول إلى مجاز يومي «بالأمس متُّ بين محطتين». وفي هذه الحالة تصبح الذات عاجزة عن حسم أمرها كأنها مصلوبة على سطح الماء لا ترسو ولا تغرق.

15 Kas, 2018 09:43:36 AM
0