الكتابة الرقمية أنهت دور الوسيط وحققت انتشارا واسعا للأدب
فرضت الكتابة الرقمية، كما يبدو، سلطتها بقوة، وأصبحت تزاحم الإبداع ودور النشر، بما تمتلكه من مساحة كبيرة ومرنة من الحياة الافتراضية، على الشبكة العنقودية (الإنترنت)، تتيح لها التنوع والابتكار داخل هذه المساحة، وتقديم النص الأدبي، والشفاهي، والبصري، مهما كان رأينا بهذا النص، خصوصاً أن القارئ يحصل على هذه الخدمة مجاناً وفي فضاء حر، بلا قيود أو حواجز.
في هذا التحقيق، يتحدث عدد من الكتاب والنقاد المصريين عن هذه الظاهرة، التي أصبحت جزءاً من الحياة الثقافية، وتأثيراتها على مستقبل الإبداع الورقي.
سيد إمام: طبقية المعرفة
في البداية قال الناقد والمترجم سيد إمام إن الكتابة الرقمية لا تختلف عن غيرها من نظم العلامات المنظورة التي يمكن معاينتها بالعين، ولن يختلف كثيراً فضاء الشاشة عن فضاء الصفحة المطبوعة في أي كتاب، فقط سوف يتيح هذا أمام المتلقي مجموعة من الظروف والملابسات التي يمكن أن تلوِّن الخطاب وتفتح أمامه مجموعة من الإمكانات لم تكن في بال أحد. كثير من المتلقين الذين تربوا على قراءة الكتاب المطبوع لا يجدون اللذة ذاتها مثلاً في قراءتهم للمحتوى نفسه في الكتاب الإلكتروني. المتعة المصاحبة لفعل القراءة تختلف لديهم بكل تأكيد، ومن ثم يكون حرصهم على اقتناء الكتاب المطبوع، والعكس يحدث عند الجيل الجديد الذي يحصل على المتعة ذاتها من خلال قراءة الكتاب الإلكتروني.
وعن هوية الكاتب المبدع قال: «علينا أولاً أن نحدد ما نعنيه بمصطلح الهوية؛ هل نقصد به ذلك المعطى الجاهز غير القابل للتحول أو التغيير بغض النظر عما يحيط به من ملابسات وظروف؟ سوف نكون مخطئين بكل تأكيد؛ الهوية كينونة مرنة لا تثبت على حال، فأين يمكننا العثور على هوية نجيب محفوظ الكتابية: في (رادوبيس)؟ في الثلاثية؟ في (اللص والكلاب)؟ في (الشحاذ) أو في (السمان والخريف)؟ لقد شهدت هويته الكتابية عدة تحولات، يجلوها مجموع أعماله بكل تأكيد، هوية تتعدد عناصرها وتختلف معطياتها من عمل لآخر. هناك عناصر أساسية، وأخرى يجرى عليها التحول والتغيير. جدل الثابت والمتحول في كيان كتابي واحد لا غير.
إن الهوية الأدبية تعصف بها عواصف وأنواء وأعاصير، الثبات عدو التطور والنشوء، حتى في حالة الكائنات الحية. من هذا المنظور برزت أشكال جديدة للتعبير الأدبي أو الفني، واندثرت أشكال. برزت الرواية مثلاً و(النوفيلا) والقصة القصيرة والرواية العلمية، وداخل جنس الرواية ذاته ظهرت أنواع جديدة، مثل (اللارواية والميتارواية التأريخية والميتافكشن) واندثرت الحكاية الخرافية والمقامة والقصيدة العمودية والملاحم الكبرى التي تمجِّد انتصار الإنسان، وفنون مثل فن خيال الظل والأراجوز. الهوية الأدبية والفنية (الجمالية عموماً) كيان متقلب مرن لا يثبت على حال ويستحيل حصره في صيغة واحدة أبدية أو قالب واحد على الإطلاق».
ولكن ماذا عن الملكية الفكرية؟ لمن تعود؟ يقول سيد إمام: «قد يبدو كلامي غريباً بعض الشيء. إنها صيغة رأسمالية احتكارية يقصد من ورائها حجب المعرفة عن قطاع عريض من القرَّاء، فضلاً عن كونها آلية تهدف إلى جني أكبر قدر من الأرباح، وإلا، وقد يبدو كلامي جارحاً بعض الشيء: لماذا يلجأ البعض لسرقة الكتب في معارض الكتاب ومن بينهم كتاب معروفون؟ هي المغالاة في الأسعار... ومن ثم ظهرت آلية التزوير لنسخ الكتب الأصلية وبيعها بثمن في متناول القارئ العادي. إذن المستفيد الوحيد من قانون الملكية الفكرية هم بعض دور النشر الجشعة التي تغالي في أثمان الكتب، وليس الكُتَّاب، أنا شخصياً أقتنى بعض هذه النسخ المزورة، ولا يعتريني جراء ذلك أي شعور بالخجل. المعرفة ينبغي أن تكون متاحة للجميع وبثمن معقول. المعرفة ليست حكراً على طبقة محددة من الناس، طبقية المعرفة شيء مقيت بكل تأكيد».
ويتوقع السيد إمام ظهور أدب جديد يواكب تغيرات واقعنا الحالي، كما يتوقع اختفاء أشكال أدبية لم تعد تواكب أو تعبِّر عن هذه التغيرات.
زينب العسال: نوع أدبي جديد
ومن جانبها، قالت الروائية والناقدة د. زينب العسال: «كلما ظهر جيل جديد يختلط الأمر عليه إلى حد ما، ويصعب التمييز بين السياق الأدبي وغيره، وعندما بدأ ظهور مصطلح (الكتابة الرقمية) لم نتصور أن هذا المصطلح سيستمر، أو يثير النقاش حوله، لكن بعد فترة نشأ كيان أدبي هو (اتحاد كتاب الإنترنت)، له رئيس ومجلس إدارة، ويقيم اجتماعات في كثير من العواصم العربية. لا تزال ملامح الكتابة الرقمية غير واضحة لحد الآن، فكل من ينشر على الإنترنت يظن أن كتابته رقمية، وهو ما جعل بعض النقاد العرب يرصدون الظاهرة ويعرضون لملامحها. الكتابة الرقمية تبتعد تماماً عن عالم الطباعة الورقية، أو عن عالم الحكي الشفاهي، وتعتمد كلياً على الكومبيوتر والوسائط الرقمية، وهي بالتالي تفيد من المخزون المعرفي الوارد في تلك الوسائط وغيرها، كما أنها تساعد على التفاعل المباشر، والمزج بين الفنون».
نحن أمام كتابة تعتمد على الحرف وتنوعاته، والرسوم التوضيحية، والفنون التشكيلية، وبرامج «الغرافيك»، و«الفوتوشوب»، ومقاطع من الأغنيات، ومقاطع من الأفلام، فضلاً عن الإفادة من الروابط والنوافذ المشرعة على العوالم الافتراضية والبرمجة الهندسية، إذن نحن أمام نوع أدبي جديد لا يمكن أن يتقنه أو ينتجه إلا من يعرف هذه الوسائط، سواء كان منتجاً للنص، أو متلقياً له؛ فالمتلقي له دور فاعل في النص، والفاعلية تلعب دورها بين المستقبل والكومبيوتر من جهة، والكومبيوتر والمرسل من جهة أخرى.
وتؤكد العسال على تجاور الأنواع الأدبية وتداخلها، مبررة ذلك بأن الأجناس الأدبية لا تختفي بظهور أنواع جديدة؛ فهل ألغى ظهور الرواية القصة القصيرة، أو ألغى شعرُ التفعيلة الشعرَ التقليدي، أو تراجعت القصة القصيرة بتألُّق القصة القصيرة جداً، أو القصة الومضة؟ قد يغير هذا الجنس الأدبي من خريطة الأدب، فتظهر أسماء أصحاب نصوص ضعيفة، أو لا تنتسب إلى الإبداع الأدبي، وثمة بعض النصوص التي تفتقد مقومات الجنس الأدبي، لكنها تحظى بالإعجاب، وبالتعليق عليها، إضافة إلى كثرة «تشييرها».
وتخلص العسال إلى مطالبة «اتحاد كتاب الإنترنت» بتفعيل دوره في وضع المعايير والآليات، ومنع نشر كل ما يخالف ذلك، أو لا يمت بصلة إلى هذا النوع الأدبي، إضافة إلى رصد الظاهرة، وبحثها، وتحليلها من قبل الباحثين والنقاد.
الخريبي: عززت الإبداع بصرياً
واستهلّ الروائي أشرف الخريبي رأيه قائلاً: «لا بد من التفرقة بين الكتابة الرقمية والكتابة عبر الوسائل الرقمية (الكومبيوتر ووسائل الميديا)؛ فالكتابة على الكومبيوتر شيء، وإنتاج نصٍّ رقمي شيء آخر. بهذا المفهوم الأخير النص الرقمي هو انتشار معرفي لاتصاله بعلوم التقنية المتنوعة والحديثة وتختلط معه العملية الإبداعية، ومن ثم تصبح هذه الكتابة جزءاً من الإبداع، ولكنها لا تستغني عن عملية الإبداع نفسها، باعتبار الإبداع سلطة أولى على المبدع لا يمكن أن تفارقه، فالرقمية تسعى إلى القيام بدور جديد للكتابة بنقل الصورة السمعية - اللفظية إلى صورة مرئية حركية، أي بنقل وتحويل اللفظ من مجرد وعي دلالي في الذاكرة إلى وعي مفهومي بصري مرئي، ويصبح لها هذا الانطباع الفسيولوجي على التلقي بغرض إحداث أكبر أثر ممكن، وإدخال التلقي في منطقة النص واشتراكه فيها لرؤية جديدة، حيث العالم النصي مؤول لصالح التلقي المفترض وجوده ذهنياً، ودالّ بحسب الصورة المطروحة في بناء هذا النص، وفى شكل تجسدها عبر عوالم وأحاسيس مُتخيَّلة خلال واقع افتراضي وأدوات التقنية».
وقلَّل الخريبي من تهم التزييف التي تلحق بهذه الكتابة، قائلاً إن «الأعمال المنتشرة على الإنترنت كثيرة ومتعددة، ولكنه يبدو أن التزييف مستحيل في الإبداع؛ المبدع له سمات يتخلق من خلالها عمله وأداؤه في أي جنس أدبي، فالقصة الحقيقية لمبدع حقيقي تبدو للعيان بلا أسباب غير الإبداع نفسه الذي يميز العمل الفني عن غيره، وتستطيع بسهولة أن تفرق بين الغث والسمين، هناك معايير كثيرة لتحديد هذا المفهوم أهمها الوعي وروح النص التي ما تلبث أن تسيطر على المتلقي بخطابها الحقيقي؛ شعراً أو قصة أو رواية.
ويخلص الخريبي إلى أن «الكتابة الرقمية مرحلة إبداعية وتجربة جديدة منذ الكتابة على الحجر والنقوش عبر مراحل التاريخ. إنها التطورات التاريخية المذهلة والمدهشة، لم يكن يتوقع أحد أننا ما زلنا نقرأ وصايا الفلاح الفصيح من آلاف السنين على الحفريات الفرعونية، ولم يكن هناك من خطر رغم ما جاء من وصايا مكتوبة ومطبوعة ومصنوعة للفلاح الفصيح أيضاً. الكتابة الرقمية تجربة مضافة للأجناس الأدبية ولا تلغيها ولا تقلل منها، بل تضيف إليها تجربة إنسانية بلغة مختلفة وعبر وسائل جديدة».
رجب: النشر المجاني
ويرى الكاتب أحمد رجب شلتوت أنه من الطبيعي أن تنتج الكتابة الرقمية أدباً يناسبها، وقد تسهم كذلك في اندثار أنواع أدبية، مشيراً إلى أن هذا يحدث دائماً؛ فأدب المراسلات مثلاً اندثر منذ زمن، لكن الإنترنت أعاده بشكل مختلف ولغة مختلفة، وقد اكتسب الأدب الرقمي، لا سيما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، سمات كثيرة؛ أولها الإيجاز الشديد، وهو ما بدا أثره في انتشار الكتابة الشذرية عموماً، وقد تحقق للأدب مع التطور التكنولوجي انتشار واسع، ولم يعد ثمة وسيط بين المبدع والمتلقي؛ فهو يكتب وينشر دون تدخل وسيط، ولا يخضع أيضاً للقدرة الشرائية للمتلقي، إذ صار بإمكانه قراءة الكتاب الإلكتروني بمجرد إتاحته على الشبكة الإلكترونية، أيضاً أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي اتصالاً مباشراً بين الأدباء والقراء، مما يمكِّنهم من إدراك أثر كتابتهم في المتلقي بشكل لا يتيحه الكتاب الورقي، كل ذلك جيد.
ويستدرك شلتوت قائلاً: «لكن الشيء غير الجيد هو أن تلك السهولة الشديدة أغرت المئات وربما الآلاف بالكتابة، مجرد مداعبة أناملهم لأزرار هواتفهم أو أجهزة الكومبيوتر خاصتهم تنتج ما يسمونه كتابة».