كفاية عوجان تأملات في كتاب «من فيض الوجدان»
كفاية عوجان تأملات في كتاب «من فيض الوجدان»
تحمل تجربة الأديبة كفاية عوجان كتابها «من فيض الوجدان» مناخها الخاص وأسلوبها الَّذي لا تُشايع فيه الأنماط السائدة في الكتابة الأنثوية.
كما تتجافى هذه التجربة عن العبارة الغامضة التي لا يدري القارئ والسامع كيف يفكُّ طلاسمها، كذلك لا تكتب الواضحَ المكشوفَ الذي يُغري كثيراً من الأديبات اللواتي يطيب لهن الاتكاء على أرائك زليخة ويقطِّعن أصابعهنَّ على ما يمكن أن يَخطر ببالكم.
فحين تقرأ للأديبة كفاية تلقى أدب العبارة والكلمة وطهارتها، فوجدانها ينبض في محرابٍ مُضاءٍ بخشوع الحرف السّامي، والمناجاة المتبتِّلة في ملكوتٍ أبيضَ كملكوت مريمَ حين انتبذَتْ مكاناً شرقيّا. وهنا أُزجي لها تحيةَ إعزازٍ وتقدير على وضاءةِ حرفِها، وتحيةَ فخر كبير بأُسرتها وذويها على دعمهم لها في رحلتها الإبداعية المشرقة.
مثلما نجد في الحدائق الفلَّ والقَرنفل والياسمين وشتّى الأزاهير والنَّباتات، نجد في الأدب مذاهبَ، وتياراتٍ، فللكتابة أشكالٌ وألوانٌ في التعبير. وفي نصوص كتاب «من فيض الوجدان» صورٌ وألوانُ وأفكارٌ راقصة كالفراشات الحائمة حول الزهر، وفيه بحرٌ يتجاذبه المدُّ والجَزْر، لكنَّ مراكب معاني الكاتبة وأشرعتها لا تخطئ شاطئها، فترسو نهاياتُ النصوص وخواتيمُها على موجةٍ هادئة رائقة هي موجة الموسيقى.
ففي نصوص كفاية موسيقى داخلية تسكن اللفظة والمُفردة، وفيها موسيقى خارجية يحيط رنينها بمعصم الجمل والعبارات، فيبدو النصُّ أشجاراً توشوشُ، أو جدولاً يترنَّم، أو نهراً يعزفُ جريانُ مياهِه أجراسَ الإيقاع. ولا تلبث هذه الموسيقى حتى تجرَّ أذيالها سابحةً مع وقار الفكرة التي تحلّق على جناح الوجود والحياة. فالنَّفس المرهفة حين تَتشمَّسُ تحت سماء الشعور تدخل في مناجاة عالم الأحلام والخيال، وهي تَعمُر المعنى بالنّوتة التي تُلائم إطارَ فكرتها، فتحذف نغمةً وتضيف أخرى... نغمةٌ تجذب نغمةً وقرارٌ يجذب قراراً، فما بين النَّغم الرّاقص في رِعشة الوتر، والأنين المجروح في شكوى النّاي تتابع موسيقى الحرف والكلمة والعبارة لدى كفاية.
أما الصورة فهي حية نابضة ملونة بألوان الشعور. وشعور الكاتبة في هذه النصوص، شعورٌ أسيانٌ حزين، يجاوره شعور فرِح جَذِل، فالصورة الباسمة المشرقة توازيها صورة الدَّمعة الحارة الخرساء... وهل وجدان الإنسان المرهف إلّا فرحٌ وألم؟
وقد قمت بعمليةِ إحصاءٍ لبعض ألفاظ الكتاب، فوجدت الفرح مذكوراً 11 مرّة، والحلم 17، والروح 15، والعمر 15، والحياة 35، والموت 28، والربيع 7، والخريف 5، والغياب 7، والحضور 2. ليس عبثاً ما فعلتُ ولا تسليةً مجانيّة، وإنما لألفت انتباه اليَقِظِ إلى أنَّ هذه الألفاظ وتكراراتها هي بمثابة خوارزميّات لغوية تُحرّك شعورَ الكتابة لدى كفاية.
لا محلَّ لليأس ما دام حبرٌ يسيل على الورق، فكثيرون هُم الكتَّاب الَّذين لم تُصادفْ تآليفُهم نجاحاً، وأعادها لهم الناشرون مع الشُّكر. وكم من مسرحيّين استقبل المشاهدون تمثيلياتهم بالصَّفير، لكنَّهم ثبتوا بعنادٍ وإصرارٍ حتى بلغوا ما يشتهون. فالحياة ميدانُ كفاحٍ وحقلُ تجارب، وربّما يعمل الإنسانُ في ساعةٍ أو يوم أو شهرٍ ما غفل أو عجز عن فِعْله فيما مضى من العمر، فمن قَلْب الغيوم السّوداء تنبثق كهرباءُ البرق السّاطعة.
يروي برنارد شو في مذكراته الحكاية التالية، فيقول: انتهيتُ من كتابي الأوَّل قبل ستةٍ وسبعينَ عاماً، وتقدَّمتُ به إلى كلِّ مَن خطرَ اسمُه على بالي من الناشرين في البلاد الناطقة بالإنجليزية، فلم يجدْ قَبولاً من أحد، ولم يجد طريقه إلى الطَّبع إلا بعد خمسين عاماً من ذلك التاريخ، حين صار الناشرون يُرحِّبون بكلِّ شيء أضع اسمي عليه. والعبرة واضحة من ذِكْر الحكاية هنا، فلا يأسَ ولا استسلامَ للخذلانِ، فالدُّرَّةُ تحتفظُ بنفاستها وإنْ غفلَ عنها الغافلون.
المصدر: الدستور