منك ابتدأت وفي عيني تنتهي.. كثافة لغوية وتحلق في فضاء الخيال
منك ابتدأت وفي عيني تنتهي.. كثافة لغوية وتحلق في فضاء الخيال
العنوان عتبة النص، وعنوان هذا الديوان النثري، يعيدنا إلى مفهوم «المفارقة» في الشعر، وإلى الأسلوب البلاغي، الذي يكون فيه المعنى الخفي، في تضاد كبير مع المعنى الظاهري، الأمر الذي ينجز عـُمقا دلاليا في القصيدة، ومن خلال ذلك التضاد في المفاهيم، وعبر ذلك التناقض في المواقف، نتمكن من بلوغ لذة النص ودهشته.
والمفارقة لدى غدير، سواء كانت في العنوان، أو في كل نصوصها النثرية، ذات البعد الإنساني والكوني: فلسفة، وسلوك، وشعور، يجمع الأشتات المتضادة في الواقع والكون، ويجمعها بشكل متواز.
وبعيدا عن «المفارقة اللفظية»، التي تـُعيدنا إلى «الطباق» في البلاغة العربية، كثيرا ما لجأت غدير في نصوصها إلى «المفارقة السياقية»، التي تتطلب خفاء وعمقاً في البحث عن الطرفين المتناقضين داخل بنية النص.
ولا تكاد نصوص غدير تخلو من خيال قد يكون مجازًا، أو كنايةً، أو تشبيهًا، أو استعارةً، إلى جانب ما فيها من تشخيص وتجسيد، يحيل الجمادات إلى كائنات حية، لها أحاسيسها ومشاعرها، التي تتشارك مع الشاعرة فيما تبثه من عواطف ومواقف.
وكل الصور الشعرية التي استخدمتها غدير في ديوانها هذا:جديدةً، وتتسم بالحيوية، وبالقدرة على الإشعاع والإيحاء، وهي صور تصبّ في المعنى المرادَ، لأنها تنبع من القلب، ولأنها مؤثرة جدا، عدا عن تناسبها مع الظروف الإنسانية ومتطلباتها.
وتمتلك غدير حدادين في نصوصها خيالا محلقا مجنحا، يتلاءم مع الفطرة الإنسانية للقارئ، تلك الفطرة التي تتوق إلى الانعتاق من قوانين الحياة، ومن قيودها الصعبة، وكأني بالشاعرة تؤمن أن الشعر دونما خيال ليس شعرا، وأن الدنيا دون خيال شديدةَ الضيق، فيجيء الخيالُ ليوسِّعَها وينطلق بقارئها إلى عوالمَ أرحب وأكثر انفتاحا؛ وتعويضا عمن تـُحب، وعمن حُرِمت منه أو تعذَّبت بسببه، فتملأ الصور الخيالية نفسها ونفوس قراءها رضا واعتزازا وبهجةَ، وسرورا وهناء وحبورا.
أما الزمن في نصوص غدير، فقد اتخذ منحيين هما: المرور، والمقصود به تلك «الآثار الحادثة والمتعينة في النص، ما يدلّ على زمنه من دون غيره»، والانتقالات، وهي»ما ترسمه أبنية القصيدة من تغيرات وتشكلات في مستوياتها المختلفة»، وفي قصائدها أيضا ثلاثة أشكال من الزمن هي: «الزمن الاجتماعي»، و»الزمن الفردي»، و»الزمن السياسي» الذي تبدى في قصائدها عن فلسطين ولبنان.
وتبرز في نصوص غدير، إيحاءات الشعر، وإيماءات القصيدة، باعتبارها سلوك أنساني مبرمج، كما تظهر فلسفة النصوص من خلال حضور المرأة، وبروز العاطفة، وإفصاح الاتجاهات النفسية عن ذاتها، وظلت النصوص الحرة مقيدة بروح الشاعرة وإبداعها الذي لم يكن يخلو من الحمولة الفكرية والسياسية.
ورغم أن الشاعرة صنفت ديوانها ضمن النصوص النثرية، إلا ان النظام الصوتي فيه يقوم على النبر والتنغيم، أما النبر فهو «نطق الصوت بوضوح نسبي أكثر من وضوح الأصوات التي حوله إذا ما قورن بها»، وأما التنغيم «فهو ما يدل على ارتفاع الصوت وانخفاضه في الكلام، ويسمى أيضا موسيقى الكلام»، وقد كانت الموسيقى في هذا الديوان هادئة، لكنها في الوقت نفسه مشحونة بدفق شعوري، وتيار دلالي، يفتح لدى القارئ، نوافذ الحنين والشوق، لما تتمناه المبدعة في حياتها، بينما لا يتحقق في الواقع.
ولأن معظم قصائد الديوان قصيرة، فإن الشاعرة التي تؤمن بأن خير الكلام ما قل ودل، لجأت إلى الإيجاز الذي يعتبر دليل المهارة الشعرية القادرة على اقتناص الجوهر، والتقاط الفكرة الغنية، وبث كل ما تملك من طاقة إبداعية، وصور بكر، وإيقاع متناغم، وكثافة لغوية موحية، إلى جانب تركيز العبارة، وإيجازها، وكثافة المعنى فيها.
من أجواء هذا الديوان، قول غدير حدادين:
«يحدث وأنا أعبر باب القصيدة إليك
أن يضيع اسمي ويتيه ندائي
يحدث وأنا أدخل باب الوجد
أن ألتقي همسك بانتظاري
يسميني من جديد».
المصدر: الدستور