محمد الأسعد "شياطين" دوستويفسكي في ترجمة جديدة
عن "منشورات ذات السلاسل" في الكويت، صدرت حديثاً ترجمة جديدة بتوقيع الكاتب والمترجم الفلسطيني محمد الأسعد لرواية "الشياطين"، مع مقدّمة للمترجم حلّل فيها خصوصية أدب فيودور دوستويفسكي بشكل عام، وهذه الرواية على وجه الخصوص.
تُعدّ هذه الرواية واحدة من أبرز أعمال الروائي الروسي (1821-1881) إلى جانب روايات "الإخوة كارامازوف" و"الأبله" و"الجريمة والعقاب". وكبقية رواياته، تميّزت بواقعية مبتكرة لا تماثل واقعية الروايات الأوروبية في عصرها، إذ تقوم على مبادئ جديدة لعلّ أبرزها مبدأ التأليف السيمفوني الذي أطلق عليه الفيلسوف واللغوي الروسي ميخائيل باختين (1895-1975) اسم "تعدُّد الأصوات"، وذلك من خلال اعتماد مواقف حوارية تتبنّى وجهات نظر مختلفة، وتعكس الظلال الخاصة بالآراء المتعارضة.
يعكس تعدُّد الأصوات، أي أصوات الشخصيات التي تعمل كما تعمل الآلات الموسيقية باستقلال وتناغم في وقت واحد معاً، واقع المجتمع الروسي في أواخر القرن التاسع عشر الذي شهد حركات سياسية وفكرية متنوّعة بتأثير جملة ما شهدته أوروبا من تغيّرات ثورية وانقلابية على صعيد الفكر والسياسة وأنظمة الحكم.
الصورة
وتُركّز الرواية على الوقائع التي تشهدها بلدة ريفية حوّلتها جمعية سرية إلى نقطة مركزية أو مختبر تجريبي لإحداث ثورة شاملة في روسيا كلّها، تبدأ بخلخلة أوضاع مجتمع هذه البلدة. على رأس واحدة من حلقات هذه الجمعية السرية يقف الشاب بيوتر ستيفانوفتش الذي يزعم أنّ حلقته جزء من شبكة أوسع، وتبرز إلى جانبه شخصية غامضة لأرستقراطي روسي يُدعى نيقولاي ستافروجن، ويمارس الاثنان تأثيراً على عقول وسلوك الشخصيات الأُخرى.
تهيمن شخصية أُخرى على مجريات أحداث الرواية، المأساوية في غالبيتها، هي شخصية ستيفان تروفيموفتش فرخوفنسكي، والد بيوتر زعيم حلقة الجمعية السرية، الذي يمثّل الجيل الأقدم المتأثّر بالأفكار الأوروبية، والذي عمل مربياً لنيقولاي ستافروجن، وعاش في بيت أمّه الأرملة فارفارا بتروفنا طوال عشرين سنة، ثم هرب من بيتها ورعايتها للخلاص ممّا اعتبره حياة طفيلية في قبضة امرأة مستبدّة، على الرغم من حبّه لها طوال عشرين سنة، كما يقول وهو على فراش المرض قبل موته بأيام قليلة وهي إلى جانبه.
وفي سياق نشاط حلقة الجمعية السرية وشخصياتها، تقع أحداث غامضة، أبرزها حوادث قتل لا تُعرف دوافعها، وتبرز في المقدّمة شخصيات ذات نزعات غريبة وشاذّة مثل شخصية المهندس كيريلوف، أحد أفراد الحلقة، الذي تستحوذ عليه فكرة جنونية، وهي أنه لا يستطيع البرهنة على حرية إرادته الكاملة وأنه سيد نفسه ولا يخشى الموت إلّا بقتل نفسه، فتستحوذ عليه فكرة الانتحار، إلّا أن الجمعية السرية تطلب منه تأجيل انتحاره إلى أن تطلب منه التنفيذ، وبهذه الطريقة تفكّر في الاستفادة من قراره بالانتحار، بأن يكتب رسالة ينسب فيها إلى نفسه ارتكاب عدد من الأنشطة، مثل توزيع المنشورات التحريضية، أو قتل أحد أفرادها (شاتوف) بحجة الخشية من خيانته، بينما السبب الحقيقي هو توريط بقية أفراد الحلقة السرية المكلفين بالتنفيذ والسيطرة عليهم، وبهذا تبعد الشبهات عنها.
ومع أن نقّاد الأدب اهتمّوا بتحليل البنية الفنية وعناصرها الجديدة التي أدخلها دوستويفسكي على فن الرواية، والتي يرى بعضهم أنها عناصر قابلة للحياة أبداً، إلّا أن أساتذة العلوم السياسية اهتمّوا بالجانب الأبرز، أي الجانب السياسي، فرأوا فيها سمتها التنبؤية بطبيعة ثورات القرن العشرين وأنظمته، أي تزيين تدمير الحكومات القائمة والأخلاق التقليدية في نظر الجموع البشرية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على ولاء كامل لسادتها الجدد.
ولكن ما يجعل هذه الرواية واحدة من أهمّ الأعمال الكلاسيكية في رأي عدد من النقّاد البارزين، هو ما تحمله من قدرة مستمرّة على إلهام القرّاء ودفعهم إلى دراسة رؤيتهم الراهنة للعالم بكل ما يمتلئ به من قضايا حياتية ودينية وسياسية.
المصدر: العربي الجديد