Ana içeriğe atla

واشنطن تحترق

يقدِّم لنا جرايام جارارد وصفًا للأحداث التي أدت إلى إحراق عاصمة الولايات المتحدة على يد القوات البريطانية في أغسطس ١٨١٤، ويناقش تأثير «أكبر عار لحق بالقوات الأمريكية» على الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا.

 عندما وقَّع جيمس ماديسون، الرئيس الرابع للولايات المتحدة والمعروف ﺑ «أبي الدستور»، قرارَ إعلان الحرب على بريطانيا في الثامن عشر من يونيو ١٨١٢، لم يكن يتخيَّل أنه بعد عامين سيفرُّ من عاصمته، وقد أُضرِمت بها النيران، أمام قوات العدو الغازية. في بداية «حرب عام ١٨١٢»، وهي أول حرب تعلنها الولايات المتحدة على دولة أخرى، صرَّح توماس جيفرسون — صديق جيمس والرئيس السابق للبلاد — في ثقة شديدة بأن الحرب على المستعمرات البريطانية فيما يُعرَف اليوم بدولة كندا ستكون «مجرد نزهة». وعندما امتطى ماديسون ظهر جواده مغادرًا البيت الأبيض بصحبة حاشيته متوجهًا بأقصى سرعة نحو فيرجينيا في الرابع والعشرين من أغسطس عام ١٨١٤، استدار خلفه ليرى حطام مدينة واشنطن. كان بإمكان الناظر أن يرى من مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الدخان المتصاعد من ألسنة اللهب التي ابتلعت واشنطن. لم يقدِّم ماديسون أيَّ وصف شخصي للمشاعر التي انتابته تجاه هذه الأحداث الصادمة، ولكن لا بد أن الانعطاف المفاجئ في مسار هذه الأحداث قد زلزَلَ الرئيس الأمريكي الذي كان يتمتَّع بفطرته برباطة الجأش، وهو الإحساس ذاته الذي انتاب معظم الأمريكيين؛ فقد أدَّتِ الحرب التي سَخِر منها كثير من النقاد الأمريكيين — بوصفهم إياها ﺑ «حرب السيد ماديسون» — إلى سقوط العاصمة الأمريكية في يد الاحتلال الأجنبي للمرة الأولى والأخيرة في تاريخها؛ إذ أضرَمَ الجنود وأفراد البحرية — تحت قيادة الجنرال روبرت روس والأدميرال البحري سير جورج كوكبيرن — النيران بمباني واشنطن العامة، ومنها: مجلس الشيوخ، ومجلس النواب، ومكتبة الكونجرس، ومبنى وزارة المالية، ومقرَّا وزارتَي الخارجية والحربية، وحي نافي يارد التاريخي، ومنزل الرئيس (وهو الاسم الذي كان يُعرَف به البيت الأبيض حينذاك). ولكن بعد مرور قرنين من الزمان تمامًا، لن نجد في الولايات المتحدة وبريطانيا أشخاصًا على علم بهذه الإهانة القومية؛ على علم ﺑ «أكبر عار لحق بالقوات الأمريكية»، سوى القليل.

لوحة إنجليزية معاصرة لاحتراق واشنطن في الرابع والعشرين من أغسطس ١٨١٤.

لوحة إنجليزية معاصرة لاحتراق واشنطن في الرابع والعشرين من أغسطس ١٨١٤.

بدأت حرب عام ١٨١٢ عندما أثارت سلسلة من التصرفات الاستفزازية البريطانية سخط بعض قطاعات الرأي العام الأمريكي، وذلك خلال حروبها مع نابليون. رأى الكثير من الأمريكيين أن الفرصة سانحة للاستيلاء على مناطق كبيرة من المستعمرات البريطانية الشاسعة التي لا يسكنها سوى عدد قليل من السكان، وضمها إلى الجزء الشمالي للبلاد أثناء انشغال بريطانيا بحربها مع الفرنسيين في أوروبا، حتى إن بعضهم كان يعتقد أن توحيد القارة كلها من المنطقة القطبية الشمالية وحتى نهر ريو جراندي تحت علمٍ (أمريكيٍّ) واحدٍ هو «مصير محتوم» كُتِب لهم؛ فقد كتب جون كوينسي آدمز عشية الحرب يقول: «يبدو أن العناية الإلهية قد كتبت على قارة أمريكا الشمالية أن تسكنها أمة واحدة، تتحدث لغةً واحدة، وتعمل وفق نظام موحَّد للمبادئ الدينية والسياسية.» وعندما فشلوا في الاستيلاء على مستعمرات أمريكا الشمالية التابعة لبريطانيا، اتجهوا إلى الجنوب وهاجموا المكسيك. ولكن انقسم الأمريكان انقسامًا حادًّا حول الرغبة في خوض حرب استقلال ثانية مع بريطانيا، وكان تصويت الكونجرس الذي صدَّق على القيام بهذه الحرب هو أكثر تصويت في التاريخ الأمريكي زادت فيه — رسميًّا — النسبةُ المؤيدة عن النسبة المعارضة زيادةً ضئيلةً تقتضي إعلان الحرب؛ فلم يصوِّت أي فرد من أفراد المعارضة الفيدرالية في الكونجرس — البالغ عددهم ٣٩ — لصالح هذا القرار. وقد دعم مجلس النواب استدعاءَ ماديسون للقوات ﺑ ٧٩ صوتًا مقابل ٤٩، بينما صوَّتَ مجلس الشيوخ بأغلبية محدودة بلغت ١٩ صوتًا مقابل ١٣، كما هدَّدَ إقليمُ نيو إنجلاند، الذي كان معارضًا بشدة لفكرة الحرب، بالانفصال.

وبعد عامين من الحرب، لم يحقِّق أي من الطرفين نتيجة ملموسة لما بُذل من جهد وما أُريق من دماء، ولكنْ بهزيمة نابليون واسترداد عائلة بوربون الحكمَ الملكي في فرنسا في أوائل عام ١٨١٤، أصبح هناك أعداد كبيرة من القوات البريطانية بإمكانها أن تتولى مهمة الحرب مع الأمريكيين؛ فأُرسلت قوة صغيرة من القوات البريطانية المحنكة التابعة لجيش الدوق ويلينجتون إلى برمودا تحت قيادة الجنرال روس الأيرلندي — وهو أحد المحاربين القدامى البارزين الذين اشتركوا في حرب الاستقلال الإسبانية — ووُضع تحت تصرُّفِه الجنودُ البريطانيون الموجودون على الساحل الشرقي للولايات المتحدة. أبحرت هذه القوة باتجاه واشنطن، وفي التاسع عشر من أغسطس عام ١٨١٤ تمركزت في مدينة بيندكت بولاية ميريلاند الواقعة على نهر باتوكسينت؛ أي على بُعْد ٤٥ ميلًا جنوب واشنطن، وهناك انضموا إلى كتيبة من القوات البحرية الملكية يقودها الأدميرال سير جورج كوكبيرن الذي رأَسَ أسطولًا متواضعًا من السفن البحرية الملكية، التي كانت تشنُّ هجماتٍ متكررةً على المستوطنات المنعزلة الموجودة على ساحل خليج تشيزبيك وتُعمِل فيها السلبَ والنهبَ؛ ولذا أعلنت الولايات المتحدة عن مكافأةٍ قدرُها ١٠٠٠ دولار لمَن يأتي برأسه، و٥٠٠ دولار لكلِّ أُذن من أذنيه.

روس وكوكبيرن كانا يتبعان الأدميرال المساعد سير ألكسندر كوكرين، القائد الأعلى لقاعدة القوات البحرية الملكية بأمريكا الشمالية وجزر الهند الغربية. وفي السابع عشر من يوليو، كتب كوكبيرن — الذي حارَبَ مع نيلسون في معركة كيب سانت فينسنت وكان يتميَّز بحماسه واستبداده برأيه — إلى كوكرين موصيًا بشنِّ هجوم فوري على العاصمة الأمريكية التي تفتقر إلى الأنظمة الدفاعية الفعَّالة؛ وذلك لكسب «التأثير السياسي الأعظم الذي من المحتمل أن يحدث». وفي الثامن عشر من يوليو، أمر كوكرين مرءوسَه الذي كان ينتظر رده في لهفةٍ بأن يدمِّر كلَّ المدن والأحياء التي يمكن مهاجمتها. وانضمت قوات روس إلى قوات كوكبيرن واتفق الاثنان على الزحف نحو واشنطن تحت قيادة الأول. وعندما أمرهما كوكرين بالعودة توخيًا للحذر، رفض كوكبيرن في إصرار قائلًا: «لم يَعُدْ أمامنا أيُّ خيار آخَر، لا بد أن نستمر في تقدُّمنا.» ووافقه الجنرال روس الرأيَ معلنًا: «حسنًا، فَلْيكن! سوف نستمر في تقدُّمنا!»

في واشنطن، وعلى مسافة غير بعيدة، كان جون أرمسترونج — وزير الحربية — يتحدث بنبرة ساخرة عن أن البريطانيين ليسوا حمقى حتى يفكِّروا في مهاجمة العاصمة الأمريكية، التي كانت في واقع الأمر تفتقر إلى أي نوع من الأنظمة الدفاعية. لقد كان على يقين من أنهم سيتجهون نحو بالتيمور، وقد توقَّع خطتهم في قوله للرئيس بكل ثقةٍ: «بالطبع لن يأتوا إلى هنا! ماذا سيفعلون هنا بحق الجحيم؟ لا، لا، بالتيمور هي وجهتهم يا سيدي، فهي ذات أهمية أكبر بكثير.» وأضاف أنه يتوقع (وهو توقع خاطئ مثل سابقه) أنه إذا تجرَّأ البريطانيون على التحرك ضد واشنطن، فستنتهي هجمتهم مثلما تنتهي «هجمات محاربي القوزاق؛ سيزحفون بسرعة ثم ينسحبون في عجل». لم يكن رأي أرمسترونج غير منطقي من وجهة النظر العسكرية؛ فواشنطن في ذلك الوقت لم تكن إلا قرية مبنية فوق المستنقعات يغطيها التراب وتحتوي على عدد قليل من البيوت التي يقطنها ١٣ ألف نسمة من المواطنين والعبيد. وكان شارع بنسلفانيا — الذي أصبح فيما بعدُ «الشارعَ الرئيسي بأمريكا»، والذي يربط ما بين مبنى الكابيتول ومنزل الرئيس — غيرَ مرصوف وقتها وفي «حالة مزرية طوال الوقت بسبب إما الوحل وإما التراب»، ولكن أرمسترونج أساء إلى حد كبير تقدير الدلالة الرمزية الهائلة لأسْر عاصمة الدولة الشابة وحرقها، والأثر الذي سيتركه ذلك الحدث على الروح المعنوية للأمريكيين.

قبل الزحف على واشنطن، اتجه روس وكوكبيرن بقواتهما للاشتباك مع قوة أمريكية نظَّمَتْ نفسها على عجل وتجمَّعت بالقرب من قرية هادئة صغيرة بولاية ميريلاند، تُدعَى بلادينزبورج، وتقع على بُعْد أميال قليلة من منطقة وسط المدينة بواشنطن. وأثناء القتال، كان كوكبيرن يركض مندفعًا في أرجاء ساحة المعركة وقد امتطى حصانه الأبيض، وبدت قبعته الكبيرة المزينة بشريط ذهبي لافتةً للنظر تحت أشعة شمس شهر أغسطس. وعندما أصابت طلقة نارية سرج حصانه وقتلت أخرى جنديًّا بحريًّا بالقرب منه، أخذ أحد معاونيه يتوسَّل إليه ليأخذ ساترًا، ولكنه رد عليه بنبرة غاضبة قائلًا: «ما هذا الهراء؟!» وانهزم المحاربون الأمريكيون الذين كانوا يدافعون عن المدينة هزيمةً منكرةً على يد البريطانيين في معركة بلادينزبورج في الرابع والعشرين من أغسطس، وبذلك تخلَّصَ البريطانيون من العقبة المهمة الأخيرة التي كانت تقف في طريقهم إلى العاصمة.

تقدَّمَ روس وكوكبيرن فرقة صغيرة من الطليعة إلى كابيتول هيل بواشنطن، بعد أن رفع الأمريكيون الرايةَ البيضاء معلنين قبولهم لشروط التسليم. وكان القائدان يتفقان في الرأي تمامًا على أن أعمال السلب والتدمير الغاشم للملكيات الخاصة لن تقبلها قواتهما تحت أي ظرف من الظروف، وقد تم إيضاح هذا الأمر للمواطنين الأمريكيين المحزونين. وفي النهاية، اضطر القائدان إلى جلد سبعة من الجنود لعصيان هذا الأمر، ولكنهما كانا يريان أنهما لن يكونا جائرين إذا قامت القوات بتدمير المباني العامة، وبالطبع كان ذلك في صميم حملتهما. وبينما كان روس وكوكبيرن في طريقهما إلى مبنى الكابيتول، أطلقت مجموعة من المعارضين عليهم وابلًا من الطلقات النارية من أحد المنازل المجاورة، وأَرْدَوا واحدًا من الجنود البريطانيين قتيلًا. ووقع الحصان الذي كان الجنرال يمتطيه قتيلًا، وأُحرِق المبنى في الحال ورُفِع علم الاتحاد البريطاني فوق الكابيتول الأمريكي.

انبهَرَ الغزاة بفخامة مجلسَي الشيوخ والنواب وبأناقة محتوياتهما الداخلية، وكان يفصلهما في ذلك الوقت بناء خشبي مؤقَّت يربط جناحَي الكابيتول اللذين كانا لا يزالان تحت الإنشاء، وقد بُنِيت فيما بعدُ قبةُ الكابيتول المركزية المميزة مكانَ ذلك البناء. أُشعِلت النيران في المبنى كله من خلال الصواريخ والشعلات النارية مدمِّرةً الجناحين اللذين احترقَا بشدة، وابتلعت النيران مكتبة الكونجرس (التي كانت موجودة في ذلك الوقت بمكاتب زعيم الأغلبية بمجلس الشيوخ) بمجلداتها التي بلغت ٣٠٠٠ مجلد، ولكن جدران الكابيتول الحجرية السميكة صمدَتْ أمام النيران مخلفة بداخلها فراغًا محترقًا. وتقدَّم كوكبيرن القوات البريطانية ممتطيًا جواده عبر شارع بنسلفانيا نحو منزل الرئيس، وكان «ماديسون العظيم القصير القامة» (إذ لم يكن طوله يتعدَّى ١٦٠ سنتيمترًا) قد هرب هو وزوجته دولي منذ ساعات قليلة، ولكنَّ كلًّا منهما رحل بمفرده، ولم يجد روس وكوكبيرن أيَّ شخص داخل المبنى الأنيق المكوَّن من ٢٣ غرفة زوَّدها توماس جيفرسون أثناء فترة رئاسته بأثاث عالي الذوق. كانت هناك طاولة طعام كبيرة معدَّة لأربعين شخصًا؛ إذ كانت دولي ماديسون تنتظر قدومَ مجلس الوزراء على الغداء في الساعة الثالثة عصرًا من ذلك المساء. فالتهم كوكبيرن وروس وجنودهما الطعامَ وشربوا في نخب الوصيِّ على عرش لندن، ثم شرعوا في تجميع الأثاث بغرفة الاستقبال البيضاوية الشكل لكي يبدءوا في إشعال النيران. ظلت النيران مشتعلة في منزل الرئيس حتى اليوم التالي، ومثلما حدث في مبنى الكابيتول، صمدت جدرانه الخارجية السميكة بينما التهمت النيران كل محتوياته وأثاثه الداخلي.

الشيء الوحيد الذي نجا من هذا الحريق هو نسخة لبورتريه جورج واشنطن تحمل اسم «لانسداون» رسَمَها جيلبيرت ستيوارت، وسُمِّيَتْ بهذا الاسم تيمُّنًا بالماركيز لانسداون، رئيس الوزراء البريطاني الذي تفاوَضَ مع المستعمرين الأمريكيين في ١٧٨٣ لتحقيق السلام. ويُظهِر البورتريه الرئيسَ المستقيل واشنطن وهو يُعلِن في نبلٍ تنازُلَه عن تولِّيه الرئاسة لفترة ثالثة. وفي عام ١٨٠٠، ابتاعت الحكومة الأمريكية نسخةً طبق الأصل من اللوحة، رسمها ستيوارت لوضعها بمنزل الرئيس الأمريكي، وكانت اللوحة معلَّقة في غرفة الطعام الكبيرة في الرابع والعشرين من أغسطس عام ١٨١٤. وقد ادَّعَتِ السيدة دولي ماديسون كونها صاحبةَ الفضل في إنقاذ هذه اللوحة، وهو الشيء الذي غالبًا ما كان يُنسَب إليها؛ إذ بقيت في المنزل بعد رحيل زوجها والمسئولين لتُشرِف على وضع المتعلقات الشخصية بالعربة قبل أن تهرب بفترة قصيرة قبل وصول القوات البريطانية. ويفترض أنها أشارت إلى لوحة واشنطن وقالت آمِرةً الخدمَ: «انقذوا هذه اللوحة! انقذوا هذه اللوحة إن أمكن، وإن لم تستطيعوا فدمِّروها؛ فيجب تحت أي ظرف من الظروف ألَّا تسقط في يد البريطانيين!» فقُطِع قماش الكنفا وأُزِيل من الإطار للمحافظة عليه، ولكن هذا الادِّعاء تعرَّضَ للتشكيك فيما بعدُ على يد بول جينينجز، أحد عبيد ماديسون وخادمه البالغ من العمر ١٥ عامًا، والذي كتب بعد مرور أعوام عديدة مذكراتٍ قصيرةً بعنوان «مذكرات رجل أسود عن جيمس ماديسون» يعارِض فيها تمامًا أقوال السيدة الأولى:

ذكرت الكتابات المختلفة أنه عند هروبها من البيت الأبيض، قامت السيدة ماديسون بقطع البورتريه الكبير لواشنطن (الموجود الآن في إحدى صالات الاستقبال هناك) من الإطار المحيط به وحملته معها. ولكن لم يكن لديها وقت لفعل ذلك؛ فقد كان الأمر يستلزم سُلمًا لإنزال اللوحة من على الحائط. وكل ما حملته معها كان المشغولات الفضية التي وضعَتْها في حقيبة يدها؛ إذ كانت القوات البريطانية على بُعْد بضعة ميادين من المنزل، وكان من المتوقَّع أن يصلوا إليه في أي لحظة.

وقال جينينجز إن صاحبَي الفضل الحقيقيَّيْن في إنقاذ بروتريه واشنطن الذي يتدلَّى اليوم على أحد جدران الغرفة الشرقية في البيت الأبيض هما حارس البوابة الفرنسي جون سوسيه (جون-بيير سوسيه)، وبستاني الرئيس ماجرو (ماكجرو). هذه اللوحة هي الشيء الوحيد الذي ظلَّ بالعرض منذ استكمال ترميم المبنى في العشرينيات من القرن التاسع عشر. وفي عام ٢٠٠٩، دعا الرئيس أوباما أحفادَ جينينجز إلى البيت الأبيض «لإلقاء نظرة على اللوحة التي ساعَدَ جدهم في إنقاذها». لا بد أنها كانت لحظة غريبة التي تطَّلَع فيها أحفادُ واحدٍ من عبيد ماديسون إلى البورتريه الشهير لأول رئيسٍ لأمريكا — وهو رجل كان يمتلك عبيدًا — في أول فترة رئاسية لأول رئيس أمريكي أسود.

أشعل البريطانيون النيران في معظم المباني العامة البارزة الأخرى في واشنطن بشكل منظم، باستثناء القليل منها مثل مبنى مكتب براءات الاختراع الذي اجتمع به أعضاء الكونجرس لدى عودتهم إلى المدينة المدمرة. وشُوهِد «حريق هائل باتجاه واشنطن» من سفينة القيادة التابعة لكوكبيرن على نهر باتوكسينت. وذكر نائب روس أن الأحداث التي وقعت في الأيام العشرة الأخيرة وانتهت بحرق عاصمة الولايات المتحدة مرَّتْ «بسلام مثلها مثل أي حدث وقع خلال هذه الحرب، ولقَّنت الأمريكيين درسًا لن ينسوه أبدًا». وقد اتفق معه كوكرين متفاخرًا بأن الرئيس ماديسون الذي أعلَنَ الحربَ قد «أُطِيح به من على عرشه».

عزم كوكبيرن في البداية على حرق مكاتب صحيفة «ناشيونال إنتليجينسر» التي تصدر من واشنطن — وكانت تدعم ماديسون بشدة وتندِّد بأعمال الأدميرال وتسيء إليه واصفةً إياه ﺑ «الهمجي» لحملته التدميرية بخليج تشيزبيك — ولكنَّ السكان المجاورين للمبنى أقنعوه بالعدول عن رأيه خشيةَ أن تبتلع النيران منازلهم أيضًا، فاختار كوكبيرن حلًّا وسطًا وأمَرَ بهدم المبنى بالكامل وتحطيم القوالب المعدنية للحرف C على آلات الطباعة؛ «حتى لا تبقى أمام هؤلاء الأوغاد طريقة لاستخدام اسمي بطريقة مهينة.»

أُخمِدت معظم النيران التي التهمت المدينة بواسطة عاصفة رعدية وإعصار هائلين اجتاحَا واشنطن أثناء وجود القوات البريطانية هناك. وقد علَّق كوكبيرن على ذلك متعجبًا لواحدة من السكان: «يا إلهي، هل أنتم معتادون على مثل هذه العواصف في هذه المدينة اللعينة يا سيدتي؟» وبعدها غادَرَ الأدميرال المدينة وهو سعيد بحجم الدمار الذي خلفه وراءه بعد احتلالٍ لم يَدُم أكثر من ٢٤ ساعة.

أصيب الأمريكيون بالحزن وانتابهم السخط من انتشاء البريطانيين بآثار الاحتلال. وعاد ماديسون المتحفظ الصبور إلى واشنطن فور مغادرة البريطانيين لها، ولكنه لم يستطع أن يقيم في منزل الرئيس فنزل ببيت صهره، وتبعته بعد فترة قصيرة زوجته التي تملَّكَتْها الدهشة عند رؤية المدينة المنكوبة وصاحت متعجبة: «ما كل هذا الدمار؟! وكل هذا الخراب؟!» أما وزير الخارجية جيمس مونرو — الذي خلف ماديسون على مقعد الرئاسة — فقد لعن القوات البريطانية التي أشعلت العاصمة واصفًا إياهم بأنهم «جميعًا أوغاد، من أعلاهم إلى أقلهم قدرًا.» وقد نسي فيما يبدو أنه في عام ١٨١٣ تصرَّفت القوات الأمريكية بنفس الشكل عندما احتلوا مدينة يورك (تورونتو حاليًّا) عاصمة كندا الشمالية (إقليم أونتاريو حاليًّا) التي لم يكن لديها أي نوع من الحماية؛ فقد أشعلوا النيران في المباني الخاصة بالسلطات التشريعية والقضائية في المستعمرة، وسرقوا مكتبتها العامة ودمَّروا الملكيات الخاصة؛ ولذا كتب الحاكمُ العام والقائد الأعلى للقوات البريطانية في أمريكا الشمالية، الجنرالُ سير جورج بريفوست، في أثناء الحرب يقول: «إنه جزاء عادل؛ إذ لقيت العاصمة واشنطن الأبية مصيرًا مماثلًا.» وعندما وصلت هذه الأخبار إلى لندن بعد شهر من انتقام القوات البريطانية، دوت الطلقات النارية خارج البرلمان وبرج لندن في احتفاء غامر بهذا الحدث. وقد كان لردة الفعل هذه أصداؤها في أرجاء المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية، وخاصة في مدينة يورك.

في أعقاب الهجوم البريطاني، استحسن معظم الأمريكيين اقتراح نقل العاصمة شمالًا إلى فيلادلفيا التي شهدت اجتماعات الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، وصيغ بها إعلان الاستقلال الأمريكي والدستور، كما أنها كانت العاصمةَ أثناءَ حرب الاستقلال الأمريكية. وخوفًا من أن يُنفَّذَ هذا الاقتراح، قدَّمَ أصحاب الأملاك في واشنطن التمويلَ اللازم لبناء مبنًى مؤقَّت من الطوب استُخدِمَ كمقرٍّ لاجتماعات أعضاء الكونجرس من ديسمبر عام ١٨١٥ إلى ١٨١٩، ريثما يتم الانتهاء من إعادة بناء مبنى الكابيتول المحترق. وفي النهاية، رُفِض مشروع القانون الذي اقترح نقل العاصمة، وظلت واشنطن هي مقر الحكومة، واستُعيد البيت الأبيض من جديد في الوقت المناسب بالتزامن مع مراسم تنصيب جيمس مونرو رئيسًا للبلاد في عام ١٨١٧.

شهد صيف ١٨١٤ بريقًا خافتًا من الأمل لاحَ من خلف السحابة المظلمة التي نسجها ذلك العار الذي لحق بالأمة الأمريكية؛ فبعد فترة من التردد، وافَقَ الجنرال روس على شنِّ هجوم مشترك مع الأدميرال كوكبيرن على بالتيمور. وفي الثاني عشر من سبتمبر، نزل بقواته على بُعْد عشرة أميال من المدينة عند نورث بوينت. وخلال المعركة التي تبعت ذلك سقط روس قتيلًا برصاص أحد القناصة الأمريكيين، وعندما سمع كوكبيرن بخبر وفاته، صاح: «مستحيل! ألن أراه بعد الآن؟!» وقد رثا وفاة صديقه قائلًا: «خسرت بلادنا يا سيدي بوفاته واحدًا من أفضل وأشجع جنودها، وخسر مَن كانوا يعرفونه مثلي صديقًا عزيزًا يكنُّون له كل التقدير.» ونعاه الأدميرال كوكرين بوصفه «واحدًا من أزهى الوجوه» في الجيش البريطاني. حُفظ جثمان روس في برميل كبير من براميل شراب الرم الجامايكي، وأُرسِل إلى هاليفاكس في نوفا سكوشا؛ حيث دُفِن في المقبرة القديمة بكنيسة سانت بول، وأُقِيم له نصب تذكاري بكاتدرائية سانت بول بلندن، وبمسقط رأسه في روستريفور بمقاطعة داون الأيرلندية في المكان الذي كان يخطِّط لأن يبني به منزلًا يقطن فيه بعد أن يتقاعد بعد الحرب. ومن المدهش وجود لوحة لروس رسمها فنان مجهول بالمعرض الوطني للوحات بمؤسسة سميثسونيان في واشنطن.

صدَّ الأمريكيون القوات البريطانية المهاجمة في معركة بالتيمور فور وفاة روس. ومن المعروف أن حصار حصن ماك هنري التابع لمدينة بالتيمور كان هو مصدر الإلهام الذي أوحى للشاعر فرانسيس سكوت كي — الذي كان يعمل أيضًا بالمحاماة — بتأليف قصيدته «الدفاع عن ماك هنري»، التي استُمِدت منها كلماتُ النشيد الوطني الأمريكي «الراية المرصعة بالنجوم». لُحِّنَ النشيدُ على أنغام أغنية «إلى أنكريون في السماء»، وهي أغنية من القرن الثامن عشر كانت تُنشد في مجالس شرب الخمر؛ ولذا نجد أن السطر «وهج الصواريخ الأحمر ودوي القنابل في الهواء.» في القصيدة — التي أصبحت فيما بعدُ النشيد الوطني الأمريكي — كان يشير إلى الهجوم على حصن ماك هنري الذي شهده كي.

وفي عشية ليلة رأس السنة لعام ١٨١٤، أُجرِيت مقابلةٌ بين وفدَيْن من بريطانيا والولايات المتحدة (ضمَّ الوفدُ الأمريكي جون كوينسي آدامز الذي أصبح فيما بعدُ الرئيسَ السادس للولايات المتحدة) بديرٍ قديمٍ بمدينة جِنت البلجيكية لتوقيع «معاهدة سلام وتفاهُم» بين البلدين. ولم تصل هذه الأنباء إلى أمريكا في الوقت المناسب حتى يتوقَّف الجنرال أندرو جاكسون عن إيقاع هزيمة ساحقة في صفوف القوات البريطانية بمعركة نيو أورليانز في يناير من عام ١٨١٥. وقام الأميرُ الوصيُّ على عرش لندن بعد ذلك بالتوقيع على المعاهدة مؤكِّدًا التزامَ بريطانيا بها، كما وقَّعَ عليها أيضًا الرئيسُ ماديسون من الجانب الأمريكي في السابع عشر من فبراير عام ١٨١٥، ولم ينجح أي طرف من الاثنين في ضمِّ أراضٍ جديدة إلى حوزته، وادَّعَى الاثنان الانتصارَ بعد عامين من الحرب التي تركَتْ آثارًا سيئة لدى الدولتين لعقود طويلة.

كانت الحرب بالنسبة لبريطانيا مجرد مظهر ثانوي من مظاهر بطولاتها الإمبريالية التي طواها النسيان في يومنا هذا، وقد غطَّتْ عليها تمامًا الانتصاراتُ التي أُحرِزت في معارك أخرى؛ مثل: انتصار وولف في معركة كيبيك، وانتصار ويلينجتون في ووترلو، وانتصار نيلسون في ترافالجار. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد كانت الحرب درسًا قاسيًا جعلها تدرك حجمَ الضعف في تجهيزاتها العسكرية وأنظمتها القيادية، وكشفت أيضًا عن وجود انقسامات سياسية داخلية لا تبشِّر بالخير لدى الدولة الشابة. أما على الجانب الآخَر، فقد شكَّلت حربُ عام ١٨١٢ بالنسبة لكندا علامةً فارقة في تكوين هويتها الكندية الإنجليزية. لقد كانت اختبارًا قاسيًا حاسمًا خرج منه ما تبقَّى من المستعمرات البريطانية التي تتحدث الإنجليزيةَ في أمريكا الشمالية بشعورٍ جديد بالثقة بالنفس ووحدة الصف، سواء فيما بينها أو مع بريطانيا. وربما يفسِّر لنا ذلك إجراءَ احتفالات واسعة وإحياء لذكرى الحرب في كندا — وخاصة في إقليم أونتاريو — أكبر بكثير من الاحتفالات التي تشهدها الولايات المتحدة، بينما لا تجري بريطانيا أي نوع من الاحتفالات.

05 Ara, 2015 05:54:58 PM
1